بسم الله وما توفيقي إلا بالله ، وبعد أيها القراء ، فقد هداني البحث والتقصي مع الأسف إلى حقيقة خفيت عليكم ، حقيقة أن سرني أن وقفت عليها - فلقد ساءني والله أن نسخت حلماً لذيذاً عشت به زمنا رغدا ، فليست كل حقيقة سارة ، وما كل حلم يشتهي المرء أن يفيق من أضغاثه، ولكنه التعمق في البحث والإلحاح في التحقيق العلمي - قاتلهما الله - ...
وأوجز فأقول : إن الدكتور طه حسين الذي سمعتم به وقرأتم عنه ، شخص لا وجود له في دنيانا هذه ، وأنه من مخلوقات الخيال ليس إلا ...
أتهزون رؤوسكم استنكارا ... يا سبحان الله ...
إن هذا الرجل الذي يزعمون أن اسمه الدكتور طه حسين ، وأنه عاش بمصر في أوليات القرن العشرين ، وأنه صاحب هذه الكتب المختلفة التي نسبوها إليه ونحلوه إياه ... كل ما اطلعت عليه مما يعزى له ، يحملني على التردد بين رأيين ، أحدهما : أن يكون هناك أناس كثيرون يتسمون " طه حسين" ، وثانيهما : أن يكون هذا اسماً استعاره فرد أو عدة أفراد لما كتبوه ونشروه:
1- ذلك أنه - على ما روي - أزهري النشأة ، والأزهر هذا جامعة إسلامية كبرى يلبس طلابها الجبة والقفطان والعمامة ...، فهو على هذا ( شيخ ) ، ويقولون أنه كان في صدر أيامه يكتب في صحيفه يومية اسمها ( الجريدة ) ، ولكني راجعت مجموعة هذه ( الجريدة ) في دار الكتب فألفيت أحد أدباء ذلك العصر واسمه ( عبد الرحمن شكري ) يسميه ( طه أفندي حسين ) في مقال له . وهو ما لا سبيل إلى حمله على أنه خطأ أو زلة قلم . لأن الفرق بين أفندي والشيخ كان من الوضوح ، والاختلاف في التعليم والنشأة والوسط والزي كان من الشدة ، بحيث لا يعقل أن يقع الخلط بينهما، فهل (طه أفندي حسين) هو عين (الشيخ طه حسين) ؟؟
ولاشك أن شكري كان يعرف المُعنى ( بطه أفندي حسين ) فقد كانت بينهما ملاحاة ، يدل على ذلك قصيدة نشرتها الجريدة بإمضاء ( طه حسين ) ومطلعها :
( قل لشكري فقد غلا وتمادى بعض ما أنت فيه يشفي الفؤاد )
وأحر بمتهاجيين أن يعرف كل منهما صاحبه وأن لا يجعله ( أفنديا) وهو شيخ .
ومما هو خليق أن يضاعف الشك في أنهما شخص واحد ، أن الشِّعر لم يكن من أدوات الشيخ طه حسين ، وأن ناشري كتبه ومترجمي حياته لم ينسبوا إليه بيتا واحداً .
2- ويعزى إلى طه حسين - ولا أدري أيهما ؟- مقال بل عدة مقالات في الجريدة يدعو فيها إلى تغيير الهجاء ورسم الكلمات . فهل كان الداعي إلى هذا والمُلِحُّ فيه الشيخ طه أو طه أفندي ؟ أما الشيخ فكان على ما يقولون مكفوف البصر، وكان في ذلك الوقت لا يزال طالبا بالأزهر ومن المعلوم أن طلبة الأزهر كانوا من المحافظين ومن أشد طبقات المتعلمين استنكاراً للبدع ونفوراً من أصحابها، وكثيراً ما كانوا يتجاوزون الاستهجان بالقلب و باللفظ ، ويتضاربون بما كانوا يتفكهون بأن يسموه ( السلاح الأحمر ) يعنون به النعال ! ولم يرووا أن الشيخ طه كان من أبطال هذه المعارك (الحمراء ) ولا من ضحاياها ، وأخلق به ألا يكون.
وقد كان كما يزعمون ضريراً ، فلو أنه صاحب هذه البدعة والمنادي بها لأصابه رشاش من قذائفها.
زد على ذلك أنه ضريرا . وما اهتمام الضرير برسم الكلمات ؟!! ما له ولهذا وهو لا يعاينه ولا يكابد صعوباته ؟! إن الاهتمام لذلك والتحمس له أحق بأن يكون من رجل يكابد الكتابة بنفسه ، لا من كفيف ما عليه إلا أن يملي. وهو على كل حال خاطر أولى به أن يجري ببال مبصر لا ضرير.
فالأرجح في الاحتمال ، والأقرب إلى المعقول أن يكون هناك شخصان اسم كل منهما ( طه حسين ) ، وأحدهما : أفندي ، مبصر ، يقول الشعر ويدعو إلى تغيير الهجاء. والثاني : شيخ ضرير يكتب في الأدب .
3- أما الدكتور طه حسين صاحب ( حديث الأربعاء ) ، أهو الشيخ أم الأفندي ، أم هو لا هذا ولا ذاك ، بل شخص ثالث ؟؟
أما أنه أحدهما ؛ فإني أقطع بنفيه ، وحسبك الفرق بين أسلوب هذين وأسلوب ثالثهما. وسأنقل لك فقرات تريك من التباين ما لا يدع مجازاً للشك في أن الكُتَّابَ عديدون.
قال الشيخ طه حسين في كتابه ذكرى أبي العلاء : " كان أبو العلاء يحرص أشد الحرص على أن يخفي نفسه على القارئ في بعض رسائله ، ولكن شخصه كان يأبى إلا الظهور. وكان يلقي بينه وبين القارئ أستاراً صفيقة من غريب اللفظ ، وحُجُبَاً كثيفة من ثقيل السجع ، ويقيم حوله أسواراً منيعة من المباحث اللغوية والصور الدينية ، ولكن عواطفه الحادة تأبى إلا أن تخترق هذه الموانع كافة لتصل إلى قلب القارئ فتترك فيه ندوباًً ولدغات ؛ الجمر أخف منها وقعاً ، وأهون احتمالاً"
وهو أسلوب لا شذوذ فيه كما ترى. ولكن اقرأ الآن الفقرة الآتية من كلام ( الدكتور طه حسين) في نفس الموضوع والمعنى :
قال : " ذلك أن أبا العلاء كان - كما تعلم - من أشد الناس إيثاراً للغريب وتهالكا عليه. ثم كان أبو العلاء إلى هذا - فيما اعتقد أنا - يتكلف الغريب ، ويتعمده ليصد عامة الناس وجهالهم – سواء في ذلك العلماء وغير العلماء- عن قراءته والظهور على ما فيه . وكأن أبا العلاء كان لا يكتب لعصره ، وكأن أبا العلاء كان يحس أن عصره خليق ألا يكتب له ، وكأنه كان يكتب لهذا العصر الحديث الذي نحن فيه وللعصور التي تليه ، وكأنه كان يخشى على آثاره الأدبية أن يفهمها أهل زمانه فيفسدوها ويشوهوها ويحولوا بيننا وبين فهمها، وكأنه إنما أقام من الغريب وقواعد النحو والصرف والعروض والقافية طلاسم وأرصاداً شغل بها أهل عصره عن هذا الكنز حتى لا يصلوا إليه ، وحتى تسلم لنا نحن خلاصته ، فنترك للقدماء نحوهم وصرفهم وغريبهم وعروضهم وقوافيهم ، ونفرغ لخلاصة هذا الكنز من فلسفة في الخلق والجماعة والدين ".
ثم اقرأ للشيخ طه حسين قوله من ذكرى أبي العلاء أيضاً " من قرأ رسالة الغفران وأراد أن يفقه معناها حق الفقه احتاج إلى دقة ملاحظة ، وحذق فطنة ، وبعد نظر ، ونور بصيرة ، وإلى أن يدرس روح الكاتب فيحسن درسه ويعرفه أغراضه ، فإذا لم يوفق إلى ذلك مرت به رسالة الغفران وهو يظنها من أقوم كتب الدين ".
وقس هذا إلى ما كتبه الدكتور : "أراد أبو العلاء أن يتفكه، وأراد أبو العلاء أن ينقد، وأراد أن يكفر، وأراد أن يؤمن، ولست أحتاط في لفظ ولا أتحرج من معنى، وإنما أريد أن أكون حراً فيما أفهم وفيما أقول ، فالحرية وحدها هي السبيل إلى فهم أبي العلاء هذا كله ، أراد أن يتفكه فتفكه إلى غير حد ، وأراد أن ينقد فنقد في غير رحمة ، وأراد أن يكفر فكفر بغير حساب ، وأراد أن يؤمن فآمن في غير شك . أراد هذا كله ووفق إلى هذا كله أحسن توفيق الخ".
وإنما أكثرت من المقتطفات ليتيقن القارئ أن الكاتبين شخصان مختلفان ، ولا عجب أن يكونا كذلك فإن الأسلوب صورة من النفس.
4- وهكذا صار عندنا من المشتركين في حمل هذا الاسم ثلاثة أشخاص متباينين : شيخ وأفندي ودكتور. ويظهر أن هناك أكثر من دكتور طه حسين واحد. ففي بعض المقالات المعزوة إلى هذا المتسمي ( الدكتور طه حسين ) تنويه بأن كاتبها كفيف ، وفي البعض الآخر ما يفيد أنه مبصر ، فهو يقول : ( قرأتُ ورأيتُ وشهدتُ ) وما إلى ذلك من الألفاظ الدالة على الرؤية، ويصف لك بعض المشاهد لا تخيلاً بل كما هي كائنة ، مثال ذلك بعض رسائل بعث بها من فرنسا وفيها يصف مناظر البلدان ، ومقالات عن روايات شهد تمثيلها ولم يقتصر في كلامه عنها على تناول القصة بل جاوز هذا إلى التمثيل والأداء.
5- ومما يؤكد هذا التعدد أيضاً في الشخصيات : أن لأحد هؤلاء الدكاترة – فإنهم على ما يبدوا لي كثر – أبناء يسميهم أسماء إفرنجية ، وأن الصحف المحفوظة في دار الكتب مختلفة فبعضها يقول : الشيخ طه حسين ، والبعض يذكر : الدكتور طه ، وواحدة تزعمه أستاذاً في الجامعة ، وأخرى صحفياً ، ومعروف أن قوانين ذلك العصر لا تجيز أن يكون المرء موظفاً في جامعة أميرية وصحفياً في الوقت عينه. و أحد هؤلاء الدكاترة كان مولعاً باللاتينية واليونانية وكان يلح على وزارة المعارف أن تدرسهما في المدارس الثانوية ولا يكاد يتفق ذلك مع الصبغة الأزهرية الأولى. أضف إلى ذلك أن ( الشيخ طه حسين ) كان ذا لحية ، وأن دكتور الجامعة أو الصحفي كان أفندياً حليقاً ،
فالأمر كما ترى لا يعدو إحدى اثنتين : إما أن يكون هناك أشخاص عديدون بهذا الاسم ، وهو غير محتمل ؟، أو أن يكون هذا الاسم مستعاراً ، وهو الأرجح...
يتبع ...