لو سألنا هذا السؤال: ما نصيب القرآن من يومنا؟
حقاً إنه جواب مؤلم، أن يصبح أحدنا ويمسي في عمل الدنيا مشغولاً منهوكاً، مقراً بتقصيره، وقلة تلاوته لكلام ربه عز وجل. وإلى متى سيظل أهل الإيمان، يعتذرون بكثرة الانشغال عن القرآن وكأنهم لم تبلغهم المواعظ، ولم تحثهم أبواب فضائل تلاوة القرآن لكي ينشغلوا بهذا المعين الثري؟ قال تعالى في فضله حيث عز وجل : (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين َ). وقال: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين َ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً). وقال: (... فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ).
وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ما يجلو هذه الحقيقة، فقد روى الإمام مسلم عن عائشةَ قَالَت، قَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ) فيجعل النبي صلى الله عليه وسلم المتقن للقرآن تلاوة حفظا في عليين مع الملائكة المقربين، السفرة الكرام البررة، وذلك لاتصافه بصفتهم من حمل كتاب الله تعالى، بل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينس الذي يجتهد في قراءة القرآن وهو عليه شاق لقلة حفظه أو لسبب من الأسباب، فقال: (وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ) و في رواية (وَالَّذِي يَقْرَأُ وَهُوَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ لَهُ أَجْرَانِ), أجر للقراءة, وأجر لتتعتعه في تلاوته ومشقته.بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم منزلة العبد في الجنة بحسب قراءته للقرآن الكريم، فقد وروى الترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا).وهذا عند دخول الجنة، قال الخطابي : جاء في الأثر أن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة في الآخرة , فيقال للقاري أرق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن , فمن استوفى قراءة جميع القرآن استولى على أقصى درج الجنة في الآخرة , ومن قرأ جزءا منه كان رقيه في الدرج على قدر ذلك , فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة. كما أن حفظة القرآن الذين يقرؤونه أناء الليل وأطراف النهار العاملين به، هم أولياء الله المختصون به، روى ابن ماجة وغيره عن أَنس بن مالك قَال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ لله أَهْلِينَ مِنْ النَّاسِ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هُمْ ؟ قَالَ هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ).
أما آن للمسلمين اليوم أن يراجعوا أنفسهم، وأن ينظروا كم من الساعات الكثيرة تهدر في الثرثرة غير المجدية، وأحياناً في الغيبة المحرمة، وكم من الوقت يعيشون فيه مع القرآن كل يوم؟
أم يبقوا دائما يعتذرون بكثرة الأعمال، وازدحام الأشغال. فكم منا من رحل عن الدنيا ولما يكمل إنجاز أشغاله!
وليتأمل من هذا حاله، ومن تلك إجابته، وليتذكر هؤلاء حال الفئة الأولى، والقافلة الرائدة مع القرآن، وكم كان نصيبه من يومهم على كثرة أشغالهم وأعمالهم؟
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي جُمعت هموم الأمة كلها في قلبه، وفتح صدره لاستقبال مشكلات الناس جميعاً، صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، بل حتى الجماد منهم. ما كان يعتذر بكثرة الأعمال والأعذار عن عدم قراءة القرآن كل يوم؟ روت أم المؤمنين عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل كل ليلة يقرأ القرآن، فتكلمه في ذلك فيقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً).
وهؤلاء السلف الصالح وحالهم مع القرآن : فهذا عثمان ـ رضي الله عنه ـ الرقيق القلب، والشيخ الوقور، لم يفارق المصحف طوال عمره، حتى تمزّق من كثرة التلاوة، وتقليب الصفحات، وسقوط الدمع عليه، ولم يترك المصحف حتى في لحظة قتله! وعبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، يقول عنه مولاه: والله لا تطيقون فعل ابن عمر قالوا: وما ذاك؟ قال: الوضوء والمصحف.
إنها عزائم لا يقدر عليها إلا الأكابر الذين تربوا على أيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هكذا أيها الإخوة:
إنها أعظم لحظات العمر، وأجمل أوقات اليوم، أن يقضيها الإنسان بين صفحات المصحف الشريف في قراءة القرآن وتدبره آياته.
إنه والله النعيم العظيم، والسرور العجيب، الذي يحوّل حياة الفرد إلى بهجة وأنس، ويقوّم سلوكه، ويعينه في طريقه.
إنه كلام الله الذي أنزله لنقرأه ونتدبره.
إذا فما نصيب القرآن من يومنا؟!
إن الإعراض عن كتاب الله تعالى إعراض عن الله تعالى وذكره , ومن ثم سمي القرآن الكريم ذكرا , لأنه يذكر الإنسان بالله تعالى وبما له وما عليه , قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ), فكان نتيجة الإعراض عن القرآن نسيان الله تعالى , ونسيان النفس مالها وما عليها , وهو ما يؤدي إلى عواقب وخيمة ووبال شديد كما قال تعالى : (... وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً), قال أهل التفسير : شاقا , وقيل جبلا أملس , شديد الحرارة في جهنم , يكلف المعرض عن القرآن بصعوده , فكلما صعد شيئا نزل , فذلك عذابه فيها , وقال تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى), قال سعيد بن جبير : يسلبه الله القناعة حتى لا يشبع , وقال الضحاك : هو الكسب الخبيث , والمقصود من ذلك كله أنه لا يهنأ بالعيش في هذه الدنيا مادام معرضا عن كتاب الله , كما أنه يعاقب بتسلط الشيطان وإغوائه كما في قوله تعالى : (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُم ْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ), قال أهل التفسير معناه : ومن يصرف بصره عن القرآن الكريم فلم يدرك ما فيه ولم يتعظ به, سلط الله عليه شيطانا فضمه إليه , بحيث يصير له قرينا ملازما يزين له العمى والفساد , ويخيل له أنه على هدى وخير , قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب ) , ومعلوم أن البيت الخرب تأوي إليه القاذورات والهوام والشياطين والتعرض للزيادة من الخراب , فكذلك القلوب التي ليس لها صلة بالقرآن العظيم , وقال بعض السلف : من كان له مصحف في بيته فليفتحه في يوم ويقرأ ما تيسر له حتى لا يدخل في قوله تعالى : (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) وذكر الثعلبي عن أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من تعلم القرآن وعلق مصحفه لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول يا رب العالمين إن عبدك هذا اتخذني مهجورا فاقض بيني وبينه)..
فأكثر أخي المسلم من تلاوة كتاب ربك كل يوم، فإنه نور في الدنيا، وبه تكون مكانتك في الآخرة
اللهم ارحمنا بترك المعاصي أبدا ما أبقيتنا، وارحمنا أن نتكلف ما لا يعنينا، وارزقنا حسن النظر فيما يرضيك عنا.