ما مِتَّ يا مَفْخَرَةَ أَهْلِ السُنَّة

بسم اللّه و الحمد للّه الّذي جعل لكلّ مَن على الأرض نهاية، و الصّلاة و السّلام على مَن بلّغ لنا الدّين، و على أزواجه و أصحابه و أتباع التّوحيد و الحقّ و الهداية.
قامة علمية، و جبل شامخ، و شمس لامعة... صفات لا تفي بحقّك علينا فضيلة شيخنا الإمام العلاّمة عبد اللّه بن عبد الرّحمان بن جبرين، و إنْ كان أمثالك في غُنية عن الوصف و المدح، فإنّ مآثرك ناطقة و شاهدة على كبير عِلمك، و عظيم حِلمك، و علوِّ هِمّتك، و سخاء يدك، و صفاء سريرتِك.
ذهبتَ عنّا و نحن أشدّ ما نكون في حاجة لأمثالك...، و هل يرتوي الظَّمآن من ماء البحر ؟ أم يزداد عطشا كلّما شرب منه ؟!
و اللّه لقد أحزننا فراقك فبكيناك كما بكاك أهلك، فما كدنا نميّز جميعا من هو الأولى بتعزية الآخر؛ أنعزّي أهلك و أبناءك الّذين أضلّهم معك سقف واحد ؟ أم يُعكس الأمر فنكون نحن المُعَزَّون و سائر محبّيك في كلّ بقعة تحت سماء هذه الدّنيا ؟
لقد سبق أجلك آلام كنّا نحسّ بها أيّام تلقّيك لمختلف العلاجات و العنايات، آلام تُسكنها آمال كانت تصلنا كلّ مرّة من الإخوة القائمين على مكتبك الخاص، و نحن متسلّحين بالدّعاء لمجيب الدّعاء...، إلى أن هاجمنا الخبر العاجل على مختلف أجهزة الإعلام ينعى وفاتَك، فاختار اللّه _سبحانه العليم القدير_ ما قدَّره لكَ مِن رحيل و الخير فيما اختاره، و إنّا للّه و إنّا إليه راجعون.
و ما مِتّ أيّها العَلَم الفذ، و الفقيه الفحل، و الدّاعية النَيِّر، و صاحب القلب الطّهور، و النّفس الرّاضية، و العِلم الغزير، و التّقوى الظّاهر، و التّواضع الجمّ _نحسبك كذلك و الله حسيبك و لا نزكّي على اللّه أحدا_...و إنّما نصفك بهذه الصّفات اقتداء بما وصفك به من هم أعرف بك منّا...
ذهبتَ لتزداد حياةً بخلود ذكراك في أوساط النّاس، و قد ذُرفت الدّموع و حزنت الجموع، و جاءوك من كلّ فجّ عميق ليشهدوا جنازتك و يُودّعوك في سفرك إلى دار قد ادُّخرت لكَ فيها كنوز حسناتك _إن شاء اللّه_.
لو كان الموت يُحسد عليه لحَسدناكَ على موت أمثالك شيخنا ابن جبرين؛ كيف لا و قد تركتم من العلوم الغزيرة الّتي يُنتفع بها، و مِن الصّدقات الجارية العظيمة الّتي خلّفتموها، و مِن الأولاد الصّالحين الّذين يدعون لكم...، و إنّنا نعدّ أنفسنا جميعا مِن أبنائِكم.
كم شققتَ طريقك نحو الخير مُستنيرا و مُنيرا، مُستفيدا و مُفيدا، مُتعلِّما و مُعلِّما...، رغم الأشواك و الصِّعاب و اللأواء الّتي اصطنعها أعداؤُكَ مِن المغرضين و الحاقدين و الحاسدين، و كم برهنتَ لهم على جدّيتك في الحياة و صدقِك في طلب ما عند اللّه _سبحانه و تعالى_، فما التفَتَّ لهم يوما و لا توقّفت مِن أجل لعبهم، فإنّ الجدّ و اللّعب لا يجتمعان ! لتزداد بذالك عظمة و رِفعة في القلوب و العيون، و ليزدادوا هم حقارة و دناءة و ذِلّة...
لتأتي جنازتكَ شاهدة على منزلتك الكبيرة في قلوب محبّيك _و هم كُثر و نحن منهم_، فذكّرتنا بجنائز أهل السنّة و جملة إمامهم المشهورة لأهل الزّيغ و الضّلال: "موعدنا يوم الجنائز"؛ فقد سُدّت كلّ الطّرق المؤدّية إلى المسجد الّذي صُلّي عليك فيه، و كذلك عندما رُفعتَ فوق الأكتاف و أنتَ الرّفيع؛ لتوضع في روضتك الهنيئة السّعيدة الطيّبة _بإذن اللّه_.
ثمّ نقول لشانئيك؛ انظروا إلى كبير حقارتكم عند النّاس و أنتم أحياء، و انظروا إلى عظيم منزلة الشّيخ ابن جبرين _و أمثاله_ و هو ميّت...، و لكأنّ قول الأوّل تحقّق فيكم حينما قال:

أخو العلم حيٌ خالدٌ بعـدَ موتِـــهِ ـــ و أوصالهُ تحتَ التُّرابِ رَمِيـمُ

و ذو الجهلِ مَيْتٌ و هو ماشٍ عَلَى الثَّرى ـــ يُظَنُّ مِنَ الأَحيَاءِ و هو عَديمُ



أقول لكَ يا مفخرة أهل السنّة الحبيب و قد رحلتَ عنّا _و لم تَمُتْ و لم يمُت أمثالكَ_: رحمكَ اللّه و أفسح لك في قبركَ و نوّر لكَ فيه، و رفع درجتكَ في المهديين، و أخلفَكَ في عقبِك في الغابرين، و نفعنا بما خلّفتَه لنا مِن علوم و مآثر نيِّرة، و جمعنا بكَ في دار أولياء اللّه مِن الأنبياء و الشّهداء و الصّالحين.

أخوكم محمّد بن حسين حدّاد الجزائري
tarekzyad@gmail.com
ليلة الأربعاء 22 رجب 1430هـ، الموافق لـ: 15 جويلية 2009م