المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خضر بن سند
إذا المرء أعيته السيادة ناشئاً ..... فمطلبها كهلاً عليه بعيد
ترجمة للعالم الجليل محمد بن علي آ ل جمّاح رحمه الله
كتبها
خضر بن صالح بن سند
جدة 26/7/1430
*** عجالة سريعة سيعقبها ترجمة للشيخ الجليل قريباً إن شاء الله
الحلقة الأولى
بن جمّاح ...باعث أمَّةٍ ....وسَيدُ قَوِمهِ ...سيرة عالم شجاع في زمن الضعفاء
ابن جمَّاح ..وما أدراك ما هذا الاسم ؟ .
بيت شامخ , وقامة باسقة , ومجد تليد .
في جبال عالية متسامية إلى السماء , تبعد عن مكة قرابة الثلاثمائة كيل جنوباً , لكي تصلها من مكة تتجه لتصعد جبال الطائف العالية التي هي بداية جبال السروات المأهولة بالسكان , تصل للطائف ثم تستمر في تنقلك وتمرّ في أثناء سيرك بين المزارع والقرى والبلدات الجميلة على قبائل عربية أصيلة تعيش من قبل الإسلام هنا , فعمرها قارب الألفين سنة وهي تعيش في هذه المناطق الزراعية الجميلة .
تصل بعد الطائف بمئتين وخمسين كيلاً لمدينة يقال لها بلجرشي , تتبع قبيلة غامد , هذه المدينة تتكون من مجموعة من القرى الفاتنة الجمال , تقترب من المنحدر الصخري الهائل المطل على تهامة وتبتعد قليلاً عنه أحياناً , يعيش هنا عشرات الألوف من البشر بين مزراعهم وبيوتهم الحجرية التي بنائها آبائهم على مر العصر والقرون , تصطف الطيور على الأشجار أو الصخور التي تحدد المزارع والمدرجات الزراعية على نغمات خرير الماء وحفيف الأشجار وحركة المزارعين لتحي وترحب بالمارة والزوار .
بلجرشي هي قبيلة ومدينة في نفس الوقت , فهي أهم مدينة في ذلك الشريط الجبلي بعد الطائف , قامت بها حضارات متواضعة لكونها معزولة طبيعياً بفضل الجبال العالية , يعيش الناس في قراهم حياة طيبة وهادئة , يعيشون بحب وود رغم طول السنين وتقادم الدهور .
هنا ولد شاعر مجيد قبل نحو مئة وخمسين سنة من تاريخ تحرير هذه الكلمات , أي قبل سنة (1280) من الهجرة , أصبح هذا الشاعر حكيماً تسير بأقواله الركبان في المنطقة , يتسابق الناس لحفظ أقواله وحِكَمِه التي لازالت تعيش إلى اليوم في ذاكرة الناس , وتسير هذه الكلمات مع أبناء القبائل المحيطة يترنمون بها بين الحواضر الكبرى التي رحلوا إليها بعد ذلك , كثير من هذه الحكم والقصائد لقيت عناية ورعاية وقد دونها كبار المؤرخين والكتاب في هذه الجبال , ولقد أحصيت أكثر من عشرين مصنفاً معاصراً ذكروا هذا الشاعر أو أفردوا له صفحات طوال في جمع شعره وقصائده .
هذا الشاعر الحكيم لسان شعره ولهجته تحاكي أبناء ناحيته وقومه , ربما تعسّر على المرء الغريب الإمساك بزمام بعض الألفاظ , ولكنها من صميم لغة العرب , و هذه من اللهجات التي عرفتها العرب وبقيت و عاشت و يتداولها الناس في هذه المنطقة , هذه اللهجات يتحدث بها الناس ويعرفون مدلولاتها ومراميها , والشاعر الحق هو من يستطيع أن يوصل المعلومة إلى مستمعيه , ويستطيع أن يوجد حلولاً لمشاكلهم , هو الذي يقول الكلمة فتنقذف في قلب السامع محدثة أثراً عاطفياً أو حربياً أو سلوكياً , وليس الشاعر من يغرب عليهم ويتعالى بألفاظه وفصاحته .
هذا الشاعر المجيد يقال له ( علي بن جمّاح ) , يكفي لمعرفة شهرته أن تسأل أبناء القبائل في هذه الجهات عن الشاعر بن جماح , سيتسابق الناس ونقلة الشعر ومتذوقوا الكلام الجميل في الزمان المتأخر في إخبارك عن شعره وعن قصائده , سيخبرونك عن القصائد التي أنهت حروباً طاحنة , أو أنقذت أمماً من الموت أو الجهالة .
سيخبرونك عن رحلاته لمدينة مكة قبل الحكم السعودي لمفاوضات الصلح والسلام , وسيخبرونك عن تجوله في جازان وحكايات الإدريسي , وسيخبرونك عن جولاته في القرى المحيطة , وعن قصائده بين القبائل والأفراد لحقن الدماء وجمع الكلمة , وسيخبرونك عن إيقافه ونبذه للعداوة القبلية والعصبية الجاهلية , سيخبرونك عن قصائده الطويلة في الحكم والمواعظ والرقائق , سيخبرونك عن قصائده ونصائحه في معاملة الزمان وأهله , أشياء كثيرة ستجدها في جعبة الرواة أو أوراق المؤلفين والأدباء , وقد جمع ولده محمد كثيراً من قصائد والده وطبعها في مجلد , وجمع كثيراً من قصائده الباحث علي السلوك الزهراني في كتابه الكبير ( الموروثات الشعبية) , وأختار كثيراً من مقطوعاته الجميلة اللواء علي الغامدي في ( ألحان من غامد وزهران )وسواهم كثير جداً .
لن تجد بينها كلاماً ساقطاً أو فاحشاً , أو تملقاً مقيتاً , أو هجاء بدون فائدة دينية غالبة , لن تجد إلا حِكَماً تسيل كما يسيل الشهد المذاب , ومعاني تتدفق كما تتدفق عاطفة الأم الرحيمة .
( علي بن جَمَّاح ) فارس الكلمة وشاعر الملحمة ومبدع المنطقة , يعيش بين الناس بقلبه وعقله وجسمه , تراه في المجالس العامة المتواضعة يتحدث مع الكبير والصغير , ويراه الناس بين العلماء أو القضاة وله قدرٌ وهيبة فقد كان ذا عقل راجح وكان مشاركاً في العلوم حافظاً للقرآن , أو تراه في مجلس شيخ القبيلة في صدر المجلس يستشار في مسائل القبيلة ومشاكلها فليس من سوقة الناس وصغارهم , لطالما تترست به القبيلة وجعلته في مقدمة الوفود ليقول من حكمه أو قصائده , ولطالما أذعن الشعراء والقبائل لحكمته وبلاغته , وتراه بعد ذلك كله مع أبنائه وأسرته فتجده الأب الحاني الرقيق الذي سارت بقصائده الركبان في الرحمة والشفقة .
تعقد المناطق الجبلية أسواقاً أسبوعية على مدار الأسبوع , تبتعد الأماكن ليتبادل الناس المصالح والتجارات , وتحمي كل قبيلة سوقها وترعى شؤونه , وهذه القبيلة التي ينتمي لها ابن جمّاح سوقها يوم السبت من كل أسبوع .
في بعض المناسبات يراه الناس مقبلاً للسوق ضحى كما هو المعتاد وقد لبس عباءته وتقلد سيفه أو بندقيته وتحزم بخنجره , تتسابق الأنظار إليه , يلبس الناس مثل ذلك عادة , ولكنّ حركات بن جمّاح الشاعر غريبة اليوم , فلم يفعل ذلك إلا لأمر , يبدوا عليه الاهتمام والجدية اليوم , يتقدم بين أصناف البضائع المطروحة على الأرض و يسارع البعض بتقبيله أو لعناقه فهي فرصة عظيمة للقياه , يسلِّم على الناس الغرباء ويرحب بهم في السوق المحلي , ويصل أخيراً لمجلس شيوخ القبائل وعرفاء السوق , لهم مكان معتاد لمراقبة السوق والتجارة ويبادلهم التحيا فيعرفون خبره وشأنه , فهو لا يتحدث إلا عن الشأن العام , الموضوع الذي يسعى فيه يحتاج لعقل حكيم أو سيف جراح محارب .
يقف على شرفة السوق بين الأمم والباعة والمشترين , فتتجه الأعناق إليه كما اتجهت العرب الأوائل في سوق عكاظ للنابغة والأعشى , أو سوق المربد بالبصرة لجرير والفرزدق, فيبين ابن جّماح للناس سبب صعوده للمنصة الرئيسية أو ( مشراف السوق ) كما يقال له بلهجة الناس , ويخبرهم بعد أن يهلل الله ويذكره مراراً ليجتمع الناس حوله , ثم يقول بضعة أبيات من الشعر الحكيم الذي يألفه الناس ويعرفونه , يشتمل شعره على نوعين من الأبيات فأحدهما يقال له بدع والآخر يقال له ردّ , هذه الأبيات إنما قيلت لحلّ مشكلة أو فض خصام , فيسير بها الناس أسبوعهم يتحدثون عنها وعن صدق الشاعر فيها , ثم تحملها صدورهم لتروي للأجيال القادمة هذه المشاهد والمواقف البطولية.
هكذا عرفه الناس لا يصعد للأماكن الحساسة ليتزلف لمسئول , أو يمدح تاجراً لينال من ماله , أو يبارز الله بأخبار قصائده الخمريات ولياليه الماجنة .
إنه رجل تفقده عند السيئة وتجده عند الحسنة, تفقده عند الكذب وتجده عند الصدق , ترى فيه بقايا العرب الذين مدحهم الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم وأثنى على أخلاقهم , وقال عنهم النبي الكريم , ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) .
عاش بن جمّاح الشاعر في قلوب الناس , ولازال يعيش بقوة في ثقافة البلد والمنطقة , فربما تحدث الناس بقصائده على بعد مئتي كيل من مولده وحياته , فترى أحياناً أبناء تهامة يرددون قصائده , ويتغنى أبناء البادية بمقطوعاته , ويتحدث العالم الوقور في درسه أو مجلس تذكيره بحكم ابن جمّاح الشاعر ومواقفه وقصائده الوعظية والزهدية .
توفي بعد أن ترك مورثاً أدبياً , وبعد أن ترك أخلاقاً أصيلة عربية , وبعد أن حمده الناس وأثنوا عليه خيراً .
في رمضان توفي الشاعر والحكيم الكبير وذلك في عام (1366) من الهجرة , ولكنه قبل أن يموت بسنين طوال ترك أبناءً يسيرون على خطاه ونهجه الفاضل الرائع , غرس فيهم قيم الإسلام الصافي , رباهم على الخير والفضيلة , غرس فيهم حب الناس واحترام عادات العرب , غرس فيهم حب الكرم والبذل والعطاء , غرس فيهم المروءة والنجدة والنخوة العربية , وضع فيهم لبنات الرجولة الحقة التي جاء بها الإسلام , وهي من أصول العرب التي تفاخر بها على الأمم .
************
ولادة فارس وحياة قائد :
في بداية ومطلع العقد الرابع من القرن الرابع عشر الهجري وتقريباً في عام (1336) ولد نجم ساطع , وأضاءت سماء أمة , وخرج طفل صغير سيكون له شأن مهم في تاريخ البلد بل المناطق المجاورة بل وحياة الناس .
في قرية يقال لها ( الجلحية ) تقع شمال السوق الرئيسي لبلجرشي بمسافة تقارب نصف كيلوا متر تقريباً , في منزل متواضع مبني من الحجر , مسقوف بأعواد الشجر الصلبة , وقد غطيت الأعواد بالطين الناعم المتماسك , ويمسكها جذوع شجر كبيرة توضع في وسط البناء ليستند عليها السقف , وكل هذا بأسلوب هندسي جميل وتاريخي رائع .
هنا في هذه البيئة والقرية الناعمة التي يلفها الضباب شتاء , وتسيل أرضها بمياة الأبار العذبة , وتنتشر الحقول الزراعية المتراصة ببهاء وجلال , في منزل أشهر شعراء المنطقة على الإطلاق , ولد المولود الجديد له , وعلى الفور دوّت صيحات المولود الذي يرى النور لأول مرة .
البشائر تتوالى , النساء خرجن بفرحة غامرة يُعلنَّ الفرحة للأسرة بوصول المولود الجديد , لقد كان وسيماً في غاية الجمال صاحت النساء:
( ابشر يا علي ... جاء لك ولد ) ...
( الحمد لله على سلامة أهلك ) ...
( أبشرك كلهم بخير ) ...
هذه الكلمات لم تكن لتصل لسمع علي بن جمّاح فقط , ولكنها وصلت لأسماع النساء والناس في القرية الزراعية التي كانت تتحين الخبر فعرفته في أقل من خمس دقائق .
علامات البشر والرضى وشكر الله والهدايا والقبلات تنتشر بين الناس في البيت الحجري العتيق , انتشرت الزغاريد بقدوم هذا المولود الذي لم يكونوا يعلمون من شأن الغيب شيئاً , ولكن ستضيء له المنطقة , وسيكون تاريخاً لوحده تتوارثه الأجيال وتتحدث عن الأمم في الهمة والشجاعة والبطولة .
مثل ندوة الماء الصافية على بقايا أوراق الشجر , ومثل فراشة رشيقة تتبع الرحيق والأزهار الجميلة , سينمو ويترعرع هذا الطفل في قريته بين أحضان وحنان والديه وقبيلته التي أحبها وتحبه .
سُميَّ الغلام الصغير باسم ( محمد) .
يتبع بإذن الله ......
خضر بن صالح بن سند
مدينة جدة