حياكم الله جميعاً , وعلموا وفقكم الله أن ما سأقوله مجرد تأملات (فقهية):
إن مما أثار دهشتي هو استعارُ الخلاف في مسألة لها من الشيوع والفشو في الناس وعموم البلوى زمنَ تنزل الوحي ما لها , ثم تتضاربُ الدعاوى بشأن الاجماع من عدمه , ويحشد كلُ فقيه ما وقعَ إليه من أقول أئمةٍ سابقين ويستخلصُ من ذلك إجماعاً تلزمُ به الحجة , مع أن الخلاف قديم , ومن نقل إليهم الإجماع ليحجهم به يردون عليه بنقل الخلاف , أو أن الاستقراء لم يأخذ حقه , أو ربما يقال إن المثْبَتَ من الأقوال هو نقل لرأي البعض دون الكل , إذ تدوين رأي كل فقيه مستحيل , فهو كالتاريخ لا نقرأ منه سوى المكتوب (وكم من تاريخٍ ليس بمكتوب , لكنه تاريخ وإن جهلناه) , وهكذا تتدافع مزاعم الإجماع والخلاف , وتتضاربُ النقول في ذلك , وهي مسألة عجيبة فعلاً طالما حيرتني خصوصاً فيما يتلق بالأمور الظاهرة الشائعة في المجتمعات , ومن ذلك مثلاً مسألة حكم تغطية وجه المرأة , كيف يتصور خلافٌ في مسألة لها من عموم البلوى والظهور في المجتمعات كمسألة كشف الوجه أمام الرجال في مجتمع مكونٍ أصلاً من الجنسين , قد امتلئ كل بيتٍ مدرٍ ووبر وحائط (مزرعة) وشعبٍ منهما , هل يُعقل أن يخفى التوجيه الديني لدرجةٍ تجعل الفقهاء يتقصون الدلائل قولاً ورداً , تأمل أنهم أطبقوا على وجوب الحجاب , والخلاف إنما هو تغطية الوجه وهو عضو بازرٌ جداً , فليست المسألة تفصيلية , أظن –والله تعالى أعلم- أن هذا مما يدل على انعدام الدليل القاطع , الذي تستدعيه تلك النازلة , وخفاءُ دليلٍ كهذا مضرٌ بمن يعتنق المنع وينتدبُ لنُصرته , إذ الأصل الإباحة , أليس غريباً أن تخفى الظواهر -فضلاً عن القواطع- ليتعلق متعلقون بالمنقطع والمرسل وما في إسناده مقال وبالمأثور عن بعض السالفين من أهل العلم والدين -مع أن غيرهم خالفهم- , مرادي إنما هو في (المسائل ذات الصفة الاجتماعية العامة) وهي نوازلُ ذلك الوقت التي يعالجه النص , كما يتصدى الاجتهاد لمعالجة نوازل (زمنَ ما بعد المعالجة النصية) , وهي حِقَبُ توقف الوحي وانبثاق الاجتهاد. أما التفاصيل التي يجوز عليها الخفاءُ ؛ فالخلافُ فيها متوقع , مما يقتضي إعادة قراءة المنقول ثم محاولة الاستنباط منه والاسترشاد بالاجتهادات السابقة -إن وُجدت- , هذه لا كلامَ في معقولية وواقعية الخلاف فيها , أما النوازل ذات الطبيعة الاجتماعية العامة فطبيعتها تقتضي بياناً عاماً , كما حدثَ مع الزنا والخمر ومشروعية الإعتاق والترغيب في الزواج وتحريم الربا وتحريم الغلول (بين من يُعنون بذلك وهم المجاهدون) وغير ذلك مما شاع البلاء به , فشاع البيان له , أرجو ألا يتعجل أحدٌ بالعود إلى الكتب الأصولية ليبحث مسألة (قبول خبر الواحد فيما تعمُّ به البلوى) , فكلامي هنا فيما لا يتصور إلا أن ينقلَ عاماً إنها (المسائل ذات الطبيعة الاجتماعية العامة) كما نُقلت أحكام بعض ما ضربتُ له مثالاً , تأمل -رحمك الله- لماذا كثُر وشاع البيان لمثل هذه الأشياء حتى توافرت النصوص وتطابق عليها أهل العلم وشاعت في الناس حتى رُمي المخالف إما بالكفر أو بالشذوذ النّادِ عن الصواب المنحرف عن الجادة أو بالخطأ البين الذي يُعتذر عنه ولا يُتابع عليه صاحبه وقلما يُتابع عليه , وهذا ما لم يحصل في مسألة الغناء وتغطية الوجه , وتأمل أيضاً في أن الأمثلة المضروبة فيما شاعَ بها بيان حكم الشرع , فإنك لن تجدَ سبباً لشيوع البيان سوى أنه مسائل عمّت حاجة الناس لبيان حكمها لكثر ملابستها لهم عامةً. ومن هنا رأيتُ أن هذه من المسائل ذات طبيعة تفرضُ منهاجاً خاصاً , بمعنى أن قواعد النظر في الدليل النصي لم تعد كافية في تفسير هذه المسائل , وكأن فهم تاريخ المسألة مفيد في حل مغاليقها.
وأريد أن أقول: إن مناط التحريم -عند من يرى التحريم الغناء- هو في الآلة الموسيقية , فالتحريم يدور معها وجوداً وعدماً , وما سوى ذلك كالشعر المغنى به , فالأصل الحل إلا إن عرضَ ما يقتضي التحريم من حيث المضمون كالخنا والفجور –أعزكم الله- , وهذا يعني أن التحريم –بالنسبة للآلات الموسيقية- هنا تعبدي محض , لأن الطرب ربما حصلَ بالنشيد , كما أن المضمون السيئ ربما وقع في بعض الأشعار , والإكثار من استماع النشيد والشعر (المباح) كثيرٌ في الناس , ولا إشكال في أن ذلك مكروه , والمكروه هنا الإكثار فقط , ولم يقل أحدٌ بتحريم ذلك –فيما أعلم- , وإن حرّم أحدٌ ذلك فلسببٍ خارج , وهذا لا تحرّم به المباحات ابتداءً , ومن هنا فتحريم الغناء تعبدي محض , وذكرُ إنبات النفاق أو الشهوات أو غير ذلك , فربما يكون نظراً لحال المغنين وندمائهم , وهذه ليست حجج تثبتُ بها الأحكام , فليكن ذلك منك على ذُكر. والله تعالى أعلم