عوّدْ نفسك الخير
لي قريب شاب صالح مستقيم ، ولكنّ فيه شيئين: أنه يطيل السهر حتى يقعد عن صلاة الفجر، وأنه يكثر التدخين ، يُذهب في ذلك ماله ويضرّ جسده ويؤذي أهله.****************************** *****
وكنت أنصحه وأعظُه فيهمّ ولا يعزم، ويقرر ولا ينفّذ، حتى صحبتُه مرة في سفرة إلى بيروت، ولم نجد في الفندق الذي نزلناه غرفتين فبتنا في غرفة واحدة.
وكان في السنّ بمثابة ابني، وكان يوما تلميذي، فهو يوقرني لذلك ويجلّني، وكان يعلم أني أحب أن أنام من أول الليل، فترك عادته في السهر تلك الليلة من أجلي ، وكنت أحسّ به يتقلب على الفراش لا يطيق المنام ، فأتجاهله وأتناوم لعلمي بأن ذلك أصلحُ له وإن كان أشد عليه ، ثم رأيته قد غلبه النوم، فلما قمت إلى صلاة الفجر ، أحسّ بي ، فسألني ( من باب الأدب ) وهو بين النائم واليقظان: هل تريد شيئا؟
قلت: نعم ، فوثب وقال : ماذا تريد ؟
قلت: أريد أن تصلي معي الفجر لعلّنا نكسب ثواب الجماعة.
فتوضأ وصلينا.
ومرّ على ذلك أيام طوال ، ثم لقيته فسألته عن حاله ، فخبّرني أنه صار يصلي الفجر حاضرا كل يوم.
قلت : أعرف ذلك.
فقال متعجبا : من أين عرفت ؟
قلت : لأنك قمت إلى الصلاة معي لمّا كنا في بيروت، والعادة تثبت بمرّة، فيكفي أن تصنع الشيء مرة واحدة ليكون لك عادة.
قال : تتكوّن العادة من مرة واحدة ؟
قلت : نعم ، هذا ما يراه وليم جيمس ، شيخ الفلسفة العملية اليوم وإمام السلوكيين في علم النفس ، وهو لم يأتِ في ذلك بجديد، بل هو يردد ماقاله قبله بألف سنة فقهاء المذهب الحنفي.
قال : وما يُدري فقهاء المذهب الحنفي بعلم النفس ؟
قلت : إن في هذه الكتب (( الصفراء )) التى انصرف الشباب عنها ذخائر من العلوم ، ولكنا تعودنا الاّ نقيم لقول وزنا إلاّ إذا قاله عالم ُ أوربي أو أميركي، وهاك كتاب (( الإحياء)) للغزالي مثلا ، فاقرأه تجد فيه من أحوال النفس ما ليس في كتاب في الدنيا.
* * *
نعم، إن العادة تتكون من مرة واحدة ، إنك تمرّ بالمرقص كل يوم فلا تلتفت إليه ولا تقف عليه ، فإذا جاءك شيطان من شياطين الإنس فأخذ بيدك فأدخلك اياه مرة واحدة هان عليك دخوله وتعودت ارتياده وصرت من أهله ، وغن نزلت من دارك إلى المسجد ، فصليت الفجر مرة مع الجماعة ، سهُلَ عليك النزول كل يوم وصرت من أهله الجماعة.
ولقد كنت أنا أهتمّ بعدّ ساعات النوم ، أفيق فأنظر في الساعة، فإن وجدت نومي قد نقص عن ثماني ساعات شعرت كأني متعب أو مريض ( ولو لم يكن بي تعب ولا مرض) فلما مرضت من سنتين وطال مرضي ، وكنت آرَقُ وأنام ، واستيقظ وأغفي ، تعودت النوم المتقطع ولم أعد أحصى ساعات المنام ولا أبالي نقصها.
ومن ثبوت العادة بمرة أن أحدنا يدخل المقهى أو يزور صديقا ، فيؤمّ ركنا من أركان المقهى أو كرسيا من كراسي المجلس يقعد فيه ، فإذا عاد إلى القهوة(1) أو إلى المجلس وجد قدميه تجرانه- بل شعور- إلى ذلك الركن أو ذاك الكرسي، ولا يقولنّ أحد : " هذه عادتي لا استطيع تبديلها " ، فإنك إن تركت هذه العادة مرة واتخذت غيرها تبدلتْ عادتُك.
إن كان من عادتك أن تخرج من دارك في منتصف الثامنة فتتأخر عن ديوانك أو مدرستك ، فجرب أن تخرج مرة واحدة في منتصف السابعة ، تجد أن التبكير قد صار لك عادة.
وإن كنت توظب على السينما ختى لا يفوتك شريط من الاشرطة واحببت أن تتخلص من هذا الشر فجرب أن تتجنبها أسبوعا واحدا وأن تمرّ بالسينما ترى الإعلان عن الرواية التى تحبها فلا تدخلها ، تجِدْ أنك تستطيع أن تصبر عنها أسبةعا آخر ، فإذا انقضى شهرُ ولم تدخلها رأيت أنك تقدر أن تمتنع عنها شهرا آخر.
وغن ابتُليت بهذا الرائي ( أي التلفزيون ) تلازمه أربع ساعات كل ليلة ، تشتغل به عن درسك وعن نومك ، تذوق القليل من حلوه والكثير من مُرّه ، تتناول سمه في دسمه ، فاتركه مرة واحدة وقُمْ إلى غرفة أخرى فاشتغل أو إلى فراشك فنِمْ ، تجد أنك تعودت الإستغناء عنه.
وإذا كنت تغضب وتثور لكل ما يخالف رغبتك ، فتضارّ امرأتك أو تصرب ولدك أو تكسر آنيتك ، فلقد كنت أنا مثلك ، وكنت إذا غضبتُ لا أبصر بعيني ولا أبالي ما أقدم عليه ! فما زلت آخذ نفسي بالمواعظ وأذكّرها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمن ساله موعظة فيها السلوك الخلقي الكامل فقال له : (( لا تغضب)) ( كما قال للآخر الذي سأله نصيحة تجمع المبادىء الخلقية كلها : (( لا تكذب )) ، ثم جربت أن أضبط أعصابي وأن أكتم نار غضبي بين ضلوعي ، وان أعالج الامر باللين والحكمة والعقل ، فوجدت لذلك ألما لا يدانيه ألم ومشقة لا تعادلها مشقة ، وأكبرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم (( ليس لبشديد بالصُّرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ))، ولكني نجحت في هذه التجربة ، فلما عدت غليها المرة الثانية لم أجد من تلك المشقة وذلك الألم إلا القليل.
فجرب ذلك مرة يَصِرْ لك - إذا شئت - عادة.
وإذا كنت تأخذ امرأتك بالشدة حتى صارت تلك عادتك فجرب أن تأخذها مرة واحدة باللين ، وان تكلها كما تكلم ضيفا عزيزا أو صديقا كريما ، يَصِرْ لك اللين عادة.
وإذا كنت مستضعفا في بيتك ، لا امر لك على زوجتك ولا على أولادك ، وكنت تريد الا قتصاد وهم يبذّرون ، وتأمر البنات بالستر واتّباع الدين فلا يقبلن إلاّ التكشف واتباع الإفرنج المستعمرين، وكنت تنهى ابنتك عن الذهاب إلى السينما فتجرب فيك سلاح النساء ( وهو البكاء ) فتخضع وتتخاذل .... فجرب أن تستبدّ وتشتدّ في اقامة الحق مرة واحدة واثبت على ذلك ، ولا تبال الدمع ولا التوسل ولا الحَرَد (2) ، تجِدْك قد استعدت سلطان الأب ومكانة رب البيت.
وإذا كان لك عادت سوء ( كعادة التدخين مثلا) فلا تقل لنفسك : " اليوم أنقص دخينة (سيجارة) وغدا دخنتين " ، بل ألْقِ العلبة من الآن واترك التدخين مرة واحدة وسلَّ نفسك عنه بشيء غيره ، ولقد كان أستاذنا أحمد جودة الهاشمي (رحمه الله ) يدخّن الليل والنهار ، فعرض له ما يوجب ترك الدخان ، فقال: " تركته " وظنّ إخوانه انه يمزح أو يلقي كلاما ، وغذا هو قد ثبت على كلمته ولم يعد إليه أبدا.
فانظر في عادات السوء كلها : كالخمر والربا والحشيش وكشف العورات المحرمة شرعا والنظر إليها ، وآلات الطرب والنرد ( الطاولة) والميسر (ومنه اليانصيب )، والتماثيل التى توضع في أبهاء الاستقبال ، واختام الذهب لللرجال (3) وأمثالها ، فاتركها مرة واحدة ، واكسر آلاتها ، واقطع أسبابها.
* * *
إن سلوك الإنسان مجموعة عادات : عادات في الاكل وفي الشرب ، وفي المشي وفي اللبس ، وفي أسلوب مخاطبة الناس.... بها يكون الإنسان محبوبا أو يكون مكروها ، وبها يكون موقَّرا محترما أو يكون مزدري محتثرا ، وربما يكون هذا الحب وهذا الكره ، وهذا التوقير وهذا التحقير ، لعادة تافهة لا يابه صاحبها لها ولا ينتبه إليها.
إن العاقل هو الذي يعتبر نفسه دائما كالتلميذ في المدرسة، يسعى كل يوم ليتعلم شيئا جديدا ، ثم يعمل بكل خير يتعلمه، ينظر دائما في طباعه وعاداته وأخلاقه، فما كان منها صالحا حمد الله عليه واستزاده منه واستمرّ عليه ، وما كان منها سيئا عمل على تبديله وتغييره وسأل الله العون على الخلاص منه.
******************
الهوامش
1- ((المقهى)) كلمة صحيحة فصيحة ، من قولهم : "" أقهى الرجل " إذا داوم على شرب القهوة ،و (( القهوة)) صحيحة أيضا، من باب المجاز ( إطلاق الحال وإرادة المحل) 2-كلمة (( الحَرَد)) بالمعنى الذي يستعملها فيه العوام كلمة صحيحة فصيحة. 3-أما الذهب للنساء فهو حلال في جميع المذاهب الإسلامية ، سواء أكان أساور أم عقودا أم خواتم.
النص نقلته لكم من كتاب : فصول اجتماعية للشيخ علي الطنطاوي
جمع وترتيب حفيد المؤلف:مجاهد مأمون ديرانية
من الصفحة 61 إلى 76
عبد الكريم