الحمد لله رب العالمين .. أرى أنه قد قربت المسافة بيننا جدا.
ولي بعدُ تعقيبات يسيرة:
قولك:
الله تعالى قد تكفل بحفظ كتابه وسنته فسواء اجتهدوا أم لا فلا مجال لضياعهما : واعتناء السلف بهما توجيه رباني
أقول إن كلامك في هذا عجيب، إذ لم يكن حفظ الله للكتاب والسنة وعموم الذكر إلا بعملهم واجتهادهم وشدة حرصهم على الرواية والدراية والفهم عن ربهم، رحمهم الله ورضي عنهم!
أما المعاجم فأنا لم أقل أنها كلها يقع فيها الرأي، ولكن يقع في كثير منها، وليس على هذه المسألة معول في الكلام عندي أصلا، وإنما ذكرتها استئناسا، فدعك منها، أحسن الله إليك.
أما قولك:
واما العقل فيجوز ضياع شئ من أقوالهم , وهنا الإشكال .
قلت لا فائدة في نص يحفظ رسمه ولا يحفظ فهمه معه يا أخي الحبيب .. ثم إن حفظ أقوالهم ومذاهبهم لا يلزم أن يكون بالنقل اللفظي عن آحادهم، وسبل الوصول إلى معرفتها ليست مقصورة على هذا فقط! وعلى أي حال فما ضاع لا يعنينا، لأن ضياعه يعني أنه لم يكن هو الحق .. فتأمل بارك الله فيك.
-------------
هذا ويطيب لي في خاتمة الكلام أن أرد بعون الله على شبهة مشهورة يوردها بعض إخواننا على دعوى لزوم فهم السلف، يستدلون فيها بكلام في الإحكام لابن حزم رحمه الله.
قال: "وقد قال قائلون من المقلدين : نحن لم نرزق من العقل و الفهم ما يمكننا أن نأخذ الفقه من القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم !
فيُقال لهم : أمنعكم الله تعالى العقل الذي تفهمون به ما قد ألزمكم بفهمه ، إذ يقول ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) .
وقد سمعتموه يقول ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ، فلولا أن في وسعكم الفهم لأحكام القرآن ما أمركم بتدبره ولولا أن في وسعكم الفهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ما أمره بالبيان لكم ، هذا إن كنتم تصدقون كلام ربكم !
فليت شعري كيف قصرت عقولكم عن فهم ما افترض الله تعالى عليكم تدبره والأخذ به ، واتسعت عقولكم للفهم عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة ؟"
اهـ. ( الإحكام : 2/292)
يقول الإخوة هذه حجة القرءان عليكم! ونقول كلا، بل هو احتجاج ابن حزم رحمه الله علينا بفهمه هو، وهو مردود!
فمن الذي قال أن المراد بعموم التدبر هنا - وهو الواجب وجوبا عينيا على كل أحد - استنباط الأحكام الشرعية واستكمال عدة الاجتهاد والتفقه في الدين؟؟ كلا والله! وإلا فما وجه قوله تعالى: ((وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَه ُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً)) [النساء : 83]؟؟
وما وجه قوله تعالى: ((وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُو اْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)) [التوبة : 122] وما وجه قوله تعالى: ((فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)) [الأنبياء : 7]؟؟
من التدبر - يا كرام - ما لا يلزم له إلا الإلمام بلسان القرءان، لسان المخاطبين به في زمانه ومكانه، وهو القدرُ المتحقق في كفار قريش في زمان التنزيل وهو الذي به يُبَكِّتهم الرب جل وعلا ويستنكر عليهم عدم تدبرهم لمعانيه التي تهدم شركهم وباطلهم هدما! فلولا أن قلوبهم مقفلة بالهوى لتدبروا ولاتبعوا الحق من بعد ما تبين لهم الهدى!! أما ما نحن فيه من النظر في المسائل واستنباط الأحكام فيها من أدلتها فالنص واضح في أن لهذه الصنعة أهلها المختصون بها في كل زمان من الأزمان، هم أولو الأمر وأهل الذكر الذين يستنبطونه، الذين إليهم المرجع دون غيرهم!! فالله وإن كان قد كلف جميع المسلمين بالتدبر، إلا أنه لم يكلف جميع المسلمين باستنباط الأحكام الشرعية في كل المسائل، حتى يقال أن لكل المسلمين عقولا كعقول علماء الصحابة تؤهلهم لمعرفة مراد الله من الخطاب التكليفي كما عرفوا هم! وهل كان الصحابة جميعهم سواءا في أخذ الأحكام من القرءان والسنة مباشرة، أم كان منهم من يفتي ومن يستفتي، وكانوا جميعا يرجعون إلى أهل الذكر والفقه منهم – من بعد النبي عليه السلام - في ذلك؟؟ وهل شهدنا نحن ما شهدوه هم وهل سمعنا من النبي عليه السلام ما سمعوه هم وعملوا به تحت نظره ومتابعته عليه السلام حتى صاروا - ولابد - الجيل الأفهم والأوعى لمراد الله من خطابه وتكليفه؟؟؟ وهل ينازعُ في هذا عاقل أو يطالبُ عليه بدليل من النص؟؟؟ وهل النص أصلا إلا روايتهم التي نقلوها إلينا بدرايتها وفهمها معها (اتفقوا في ذلك أو اختلفوا في بعضه)؟؟
سبحان الله!
وأقول فلنتأمل بروية في القول المردود عليه هنا لنرى هل تلحقُ دعوى اتباع فهم السلف بالمردود عليهم فيه حقا أم لا!
يقول القائلون المذكورون: نحن لم نرزق من العقل والفهم ما يمكننا من أن نأخذ الأحكام من الكتاب والسنة.. ونقول لهؤلاء كذبتم، فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وعقولكم المركبة فيكم ما خلقت أصلا إلا للعبادة وللفهم عن رب العالمين! ولكن الفهم والعقل قوامه العلم! والعلم درجات ومراتب لا على درجة واحدة!! وبدون العلم لا عقل أصلا ولا قيمة لما يأتي به العقل! وهذا مطرد في القرءان لا يحتاج إلى استدلال! ونحن نطالبكم بتحصيل هذا العلم والسعي في سبيل الوصول إليه إن أردتم أن تكونوا من الذين يستنبطون الأحكام!!
فإن قلتم وهل العلم إلا الكتاب والسنة؟ قلنا كلا، ليس العلم إلا الكتاب والسنة، ولكن ما السبيل إلى معرفة الكتاب والسنة معرفة صحيحة، يمتاز بها أهل الحق عن أهل الزيغ والباطل، وما سبيل استخراج الأحكام منهما على النحو الصحيح؟ أليس العلم بلسان المخاطبين الأوائل بهما وأحوالهم في العمل بذلك الخطاب؟ أليس العلم بالناسخ والمنسوخ منهما وما استقر عليه العمل عند ظهور التعارض؟ أليس العلم بما علََّمه النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه وعليه قام فهمهم وجرى عملهم حتى مات وهو عنهم راض، ثم مضى عليه أمر الخلفاء الراشدين من بعده بلا نكير من أئمتهم وأهل النظر منهم؟ أليس العلم بما كان عليه هؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون الذين جاء النص واضحا على أن سنتهم من سنته عليه السلام ويجب اتباعها بلفظ إيجاب لا لبس فيه حيث قال "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي .."؟
أفيستوي قولٌ منسوب إلى عمر رضي الله عنه بقول منسوب إلى مالك أو الشافعي أو الأوزاعي أو من جاء بعدهما؟ وهل نحن إذ ننادي بلزوم فهم السلف، نطالب الخلق بأن يقلدوا الواحد من أئمة الصحابة والتابعين عميانا كما يقلد متعصبة المذاهب أئمة مذاهبهم، على النحو الذي ذمه ابن حزم وكتب هذا الكلام في إبطاله؟؟
يقول بعض إخواننا: أنتم تقولون باتباع فهم السلف، طيب إذا اختلف اثنان من الصحابة في مسألة ما، فكيف يكون العمل حينئذ؟ هل نقلد أحدهما دون الآخر بالاختيار والتشهي؟ إذن نتبع الهوى ونهلك!!
ونقول لهم لا يا إخوان هداكم الله، ليس هذا والله ما نريد بقولنا بلزوم فهم السلف! لا نقول للمجتهد "قلد فلانا من الصحابة حتى لا تهلك!!"
بل نقول حصِّلوا ما وجب تحصيله من النظر في كافة الأدلة والقرائن على نحو ما كان يصنع الصحابة والسلف بالمنقول عنهم والمعتمد عند تابعيهم، وبالأصول التي جرى عليها نظرهم، واجتهدوا في سلوك كافة الطرق التي يمكن أن توصل إلى معرفة ما كان عليه أهل القرون الفاضلة في المسألة وعلى رأسهم الصحابة والخلفاء، ثم انظروا بعدُ – وفي ضوء ما اجتمع لكم من سنة الخلفاء الراشدين المهديين وما جرى عليه عمل القرن الأول ومن تابعهم في القرون الثلاثة الفاضلة - أيَّ المذهبين أرجح وأولى بالصواب!
فإن وجدتم أنكم قد خرجتم بمذهب ثالث غير ما انحصر فيه الخلاف في القرون الفاضلة جميعا، عند الصحابة وتابعيهم الناقلين عنهم المتتلمذين عليهم، فأعيدوا النظر وأعيدوا الكرَّة واتهموا نظركم، لأن الحق في تلك المسألة ما كان ليغيب عنهم جميعا ثم يأتي الواحدَ منكم!! فلو كان صوابا لما غاب عنهم ولما أخفاه الله على المسلمين – الذين هم تبع لهؤلاء الأئمة في الفتيا والعمل – حتى جاء فلان فاكتشفه! فأهل الحل والعقد والنظر والفتيا المعمول بفتاواهم في كل عصر معروفون، يتوارثون العلم خلفا عن سلف، يظهرهم الله للناس حتى يتسنى لعامة المسلمين أن يعملوا بقوله تعالى ((فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))! فلو كان ما توصلتَ أنت إليه - دونما سلف منقول بمثله – له حظ من النظر لما اندثر ولوجدنا من يعمل به ويورثه للمسلمين خلفا عن سلف، في جملة المعمول به من الأقوال عندنا!! فلا وجه لقول القائل: ما يدريك لعله وُجد ذلك القول ولكنه لم يبلغنا ولم يصل إلينا! هذا المعنى لو طردناه لهدمنا به حفظ الله تعالى للحق في الأمة، إذ لو كان حقا فكيف لم يصل إلينا من بعض الذين سبقونا خلفا عن سلف، وكيف يتحقق بذلك موعود رب العالمين المتواتر بحفظ الحق وبقاء طائفة ظاهرة عليه في الأمة لا يضرهم من خالفهم، وامتناع ضلال الأمة كلها بضياع شيء منه أو اندثاره؟؟ وكيف نرد إذن على من يدعي أن مذهبه الباطل في الأسماء والصفات – مثلا – كان الخلاف به سائغا ولكن اندثر قول من قال به من الصحابة؟؟ كيف نردُّ على كل زائغ من أهل الأهواء يقول "لعل لي سلفاً بهذا القول ولكنه لم يصل إلينا"؟؟
الخلاف فيما اختلف فيه السلف منحصر ولا تصح مجاوزته بقول آخر، تماما كما أن الإجماع فيما أجمعوا عليه لا يصح معه إحداث قول آخر!
ولو لم نلتزم بهذا لدخلنا إذن في قوله تعالى: ((وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً)) [النساء : 115]
نسأل الله السلامة والعافية، والله المستعان!