تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: دروس الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي . شرح كتاب زاد المستقنع للحجاوي .

  1. افتراضي دروس الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي . شرح كتاب زاد المستقنع للحجاوي .

    بسم الله الرحمن الرحيم


    شرح مقدمة كتاب زاد المستقنع في اختصارالمقنع لأبي النجاالحجاوي رحمه .

    الشارح الشيخ محمدبن محمد المختارالشنقيطي حفظه الله
    قال المصنف رحمه الله :[ الحَمْدُ للهِ حَمْداً لا يَنْفدُ أَفضَلَ ما ينْبغي أَنْ يُحْمَد ، وصلّى اللهُ ، وسَلّمَ على أفضلِ المُصْطَفين مُحمَّدٍ ] :
    الشرح :
    بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله ، وسلم ، وبارك على خير خلق الله أجمعين وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وأصحابه أجمعين ، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين ، أما بعد :
    فهذه مقدمة المصنف-رحمه الله- لهذا الكتاب المبارك ( أعني زاد المستقنع ) إبتدأها رحمه الله بقوله : [ الحمد لله ] .
    وهـذه البدآءة من عادة أهل العلم-رحمهم الله- فإذا أرادوا التصنيف ، أو الخطابة ، أو الكتابة ، صدّروها بحمد الله-جلّ وعلا- .
    ودليلهم في ذلك الكتاب ، والسُّنة ، والإجماع .
    أما دليل الكتاب : فإن الله-تبارك وتعالى- إستفتح كتابه المبين بقوله :{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }(1) فاستفتح أفضل الكتب ، وأشرفها ، وأجلَّها على الإطلاق ، وهو القرآن بقوله سبحانه وتعالى :{ الحَمْدُ للهِ } .
    قال بعض العلماء : في هذا دليل على أنَّه يُشرع إِستفتاح كتب العلم بحمد الله-جل وعلا- .
    وأما دليل السُّنة : فإن النبي-r- إستفتح خطبه بقوله : ( الحمدُ لله ) وثبت ذلك عنه-عليه الصلاة والسلام- في مواعظه المشهورة : كما في حديث عائشة رضي الله عنها في قصة بريرة رضي الله عنها حيث قالت :" فحَمِد الله ، وأثنى عليه ، ثمَّ قال " .
    فقولها : " فحمد الله " أي : استفتح كلامه ، وخطابه للناس بحمد الله .
    وأجمع العلماء-رحمهم الله- على مشروعية إِستفتاح الكتب ، ونحوها بحمد الله-جل وعلا- .
    والمناسبة في ذلك : أن الله-جل وعلا- هو المستحق للثّناء ، وما كان العبد ليعلَم ، أو يتعلّم لولا أنّ الله علّمه ، وما كان ليفهم لولا أن الله فهّمه .
    فاستفتح بحمد الله الذي شرّفه ، وكرّمه بالعلم كما قال سبحانه وتعالى :{ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}(2) .
    وقالوا : كما أن النبي-r- إستفتح الخطبَ بالحمد ، فإنه يشرع استفتاح الكتب به ؛ لأنّ الخطبة ، والكتاب كلّ منهما هدفه واحد ؛ وهو الدعوة إلى الله ، فكما أنّ المراد من خُطبِه - عليه الصلاة والسلام - توجيه الناس ، ودلالتهم على الخير ، فكذلك المراد من كتابة الكتب ، وتأليف المؤلفات توجيه الناس ، ودلالتهم على الخير ، فلهذا كلّه شُرع استفتاح كتب العلم ، ورسائله ، والخطب ، والندوات ، ونحوها مما فيه تعليم ، وتوجيه بحمد الله ؛ لما فيه من تعظيم الله-جلّ وعلا- ، ولما فيه من الاعتراف بالجميل ، والثّناء على الله العظيم الجليل .
    قال المصنف رحمه الله :[ الحَمْدُ للهِ ] : الحمد في اللغة : الثَّناء ، وقد أطبق على ذلك الأئمة ، والعلماء في تعريفه اللغوي ، ولذلك يقولون : حمدَ الشَّيءَ ؛ إذا أثنى عليه .
    والمراد بالحمد في إصطلاح العلماء : ( الوصفُ بالجميلِ الاختياريّ على المنعم ، بسبب كونه منعماً على الحامد ، أو غيره ) .
    فقولهم : ( الوصف بالجميل الاختياريّ ) : المراد به : أن تذكر الصِّفة الجميلة في الإنسان ، فإذا قلت مثلاً : محمد كريم ، أو شجاع ، أو فاضل فإنك تكون قد وصفته بالجميل فأنت حامد له ، ومُثْنٍ عليه ، وقولهم : ( على المنعم ) أي الذي أعطى النعمة ، وهو الله تعالى وحده ، والمخلوق بإذن الله تعالى ، وبفضله .
    فالصفات الجميلة تكون لله تعالى ، فكلُّ صفاته جميلة جليلة سبحانه ، وتكون للمخلوق بفضله سبحانه فإذا وصَفَ اللهَ تعالى ، وأثنى عليه بما هو أهله فقد حمده ، وإذا وصَفَ المخلوقَ بما فيه من الصفات الحميدة ، وأثنى عليه بها فقد حمده .
    وقولهم : ( بسبب كونه منعماً على الحامد ، أو غيره ) أي : أن الحمد لا يتوقف على وجود إحسان ، وإنعام من الشخص المحمود على الحامد ، ومن هنا خالف الحمدُ الشكرَ لأن الشكر ينشأ بسبب الإحسان ، والنعمة ، وصار الحمد أعمَّ ، فأنت تحمد من إتّصف بالصفات الجميلة بغضِّ النظر عن كونه أحسن إليك ، أو أحسن إلى غيرك .
    فأصبح الفرق بين الحمد ، والشكر :
    أنّ الشُّكر أعمُّ بالوسيلة التي يُعبّر بها ، وأخصُّ من جهة السبب الباعث عليه .
    والحمد أعمُّ من جهة السبب الباعث عليه ، وأخصّ من جهة الوسيلة التي يُعبّر بها عنه .
    فالحمد إنما يكون باللسان فهو أخصّ بالوسيلة التي يعبر بها عنه ، والشُّكر أعمُّ منه ؛ لأن الشكر يقع باللسان ، وبالجنان ، وبالجوارح .
    أما باللسان فمنه قوله تعالى :{ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }(1) لأنّ الحديث عن النِّعمِ شكرٌ للمُنعِمِ .
    كذلك أيضاً يقع بالجنان : ومنه قوله تعالى :{ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ }(2) أي : إعتقدوا أنها من الله ، فمِنْ شُكْرك لنعمة الله أن تعتقد في قرارة قلبك أنّ الله أنعم بها عليك ؛ وحده لا شريك له .
    ويكون الشكر بالجوارح ، والأركان فتشكره سبحانه بالعمل في طاعته ، ومرضاته ، ومنه قوله تعالى :{ إِعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً }(3) ، وتشكر المخلوق بالجوارح أيضاً ؛ حينما تردُّ جميله بخدمته ، وعمل ما يُحِبُّ .
    فهذه ثلاثة أنواع من الشُّكر : الشكر بالجَنان ، وباللِّسانِ ، وبالجوارحِ .
    فتشكر بلسانك ؛ فتثني على الإنسان الذي أسدى إليك النّعمة بعد الله ، وتشكر بجنانك ، فتعتقد فضله ، وتشكر بجوارحك ، وأركانك بردّ الجميل إليه ، أو فعل ما يردّ إحسانه إليه ، وقد جمعها الشاعر بقوله :
    أفادَتْكُمُ النَّعْماءُ منّي ثَلاثةً يَدِي ولِسَاني والضَّميرَ المُحَجَّبا
    فقوله : ( يدي ) أي : أشكركم بيدي ، فأعمل في خدمتكم .
    وقوله : ( ولساني ) أي : أشكركم بلساني ، فأتحدّث بفضلكم .
    وقوله : ( والضَّميرَ المُحَجّبا ) أي : أشكركم بقلبي ، فأعتقد فضلكم .
    أما بالنسبة للحمد فلا يكون إلا باللسان ، ولكن من جهة السبب الحمد أعمّ من الشكر ، فتحمد الإنسان سواء أنعم عليك بعد الله ، أو لم ينعم تقول : فلان كريم، ولم يعطك شيئاً ، ولكن رأيت فيه هذه الخصلة الطّيبة فأثنيتَ عليه ، وحمِدتَه ، إذاً فالحمد لا يستلزم وجود فضلٍ للمحمود على الحامد ؛ ولكن الشكر إنما يكون بعد جميل ، ونعمةٍ من المشكور ، فلا تشكر إلا من أحسن ، وأسدى إليك المعروف .
    إذاً فالفرق بينهما أنّ بينهما العُموم ، والخُصوص .
    قوله رحمه الله :[ الحمدُ للهِ حمداً لا يَنْفدُ ] : أي أحمد الله-تبارك وتعالى- حمداً لا ينتهي .
    قوله رحمه الله :[ الحمد لله ] : العلماء يقولون استفتح الله كتابه بالحمد لله ؛ فاختار اسم الله ، ولم يقل الحمد للكريم ، أو للعظيم ، مع أنه سبحانه عظيم ، وكريم بلا شكٍ ، ولكن تخصيص الاسم الدّال على الذّات أبلغ في الحمد ، والثناء من ذكر الوصف ؛ لأنك لو قلت الحمد للكريم ؛ لأشعر أنك حمدته من أجل أنه كريم ، ولكن لما قلت الحمد لله ، أثبت له الحمد لذاته-I- فكان أبلغ .
    قوله رحمه الله :[ حَمْداً لا يَنْفدُ ] : أي أحمده حمداً لا ينتهي ، ولا ينقطع فالله هو المستحق للحمد الذي لا ينفد ؛ لأن نعمه لا تنقطع ، ولا تنتهي على العبد ، وهو لا يستطيع عدّها فضلاً عن شكرها ، والثناء على الله-U- بما هو أهله .
    قال رحمه الله :[ أفضلَ ما يَنْبغي أنْ يُحمد ] : قوله [ أَفضلَ ] : على وزن أفعل ، والعرب تأتي بهذه الصيغة ، وهي صيغة أفعل التفضيل ، لتدلّ على أن شيئين ، فأكثر إشتركا في شيء ، وأن أحدهما أفضل من غيره فيه ، والفضل في اللغة أصله الزيادة أي : أن هذا الحمد مع كونه لا ينقطع ، ولا ينتهي كذلك هو بأفضل ، وأحسن ما ينبغي أن يكون عليه حمده سبحانه .
    قال رحمه الله :[ وصلّى اللهُ ، وسلّم على أفضلِ المُصْطَفِينَ مُحمَّدْ ] : قوله رحمه الله :[ وصلّى الله ]: الصلاة تطلق في اللغة بمعانٍ :
    منها : الصلاة بمعنى الدعاء ، ومنه قول الشاعر :
    تَقُـولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبْتُ مُـَرتحلاً يَاربِّ جَنِّب أَبِي الأَوصَابَ وَالوَجَعَا
    عَلَيكِ مَثْلُ الذِي صَلِّيتِ فَاغْتمِضِي عَيْنَاً فَإِنَّ لجِنْبِ المَرْءِ مُـضْـطَجَعَا
    يقول الشاعر : إن إبنتي حينما هيأتُ رحلي للسفر قالت هذا الدعاء :- ( يا ربِّ جنِّب أبي الأوصابَ والوجعا ) أي : أنها دعت له بالسلامة ، فقال ذلك الأب يجيبها : ( عليك مثلُ الذي صلّيتِ ) ، أي : عليك مثل الذي دعوت به فقوله :- " مثل الذي صليت " أي : دعوت ، وهو موضع الشاهد من البيت ؛ أنه استعمل الصلاة بمعنى الدعاء ، ومنه قول الحق تبارك وتعالى :{ خُذْ مِنْ أمْوالهمْ صَدَقةً تُطَهرُهمْ وتُزَكِّيهمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ }(1) أي إذا أعطوا الزكاة لك يا رسولنا فصلِّ على من أعطاها لك ، ولذلك قال العلماء : يسن للإمام ، أو نائبه الذي يلي أخذ الزكاة من الناس إذا أخذها منهم أن يدعو لهم بالبركة ، والخير في أموالهم فقوله :{ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } أي : اُدعُ لهم ؛ فالصلاة استعملت هنا بمعنى الدعاء .
    ومن معاني الصلاة الرحمة ، وهي من الله لعبده ، ومنه قـوله تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ }(2) .
    وصلاة الله على العبد رحمته ، فالصلاة تطلق بمعنى الرحمة ، ومنه قول الشاعر :
    صَلَّى المَليْكُ عَلَى اْمرِئٍ وَدَّعتُهُ*** وَأَتمَّ نِعْمَتَهُ عَلِيهِ وَزَادَهَا
    أي : رحم الله ذلك العبد ، أو ذلك الأخ الذي ودَّعتُه .
    ومن معاني الصلاة في لغة العرب : البركة ، والزيادة ، وفُسّر به قوله عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري ، وغيره :[ اللهمَّ صَلِّ على آل أبي أوفى ] قيل معناه : بارك لهم .
    فهذه ثلاثة معانٍ للصلاة الدعاء ، والرحمة ، والبركة .
    وقوله [ وصلّى الله ] : المراد به الرحمة ، أي : رحم الله .
    قوله رحمه الله :[ وسلم على أفضل المصطفين محمد ] : قوله رحمه الله :[ وسلم ] السلام : إما مأخوذ من السلامة من الآفات .
    وإما أن يراد به التحية ، قال بعض العلماء قول الإنسان : السلام عليكم ؛ أي سلّمكم الله من الآفات ، والشرور ، وهي التحية ، والسلام من السلامة ، وهو إسم من أسماء الله جل وعلا قال تعالى :{ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ } .
    وجمع المصنف بين الصلاة على النبي-r- ، والسلام عليه ؛ لأنّ ذلك أكمل .
    قال بعض العلماء : ( أدب الصلاة على النبي-r- أن يُجْمَع فيها بين الصلاة ، والسلام عليه ، عليه أفضل الصلاة والسلام ) اهـ .
    والدليل على ذلك قوله تعالى :{ يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً } فجمع له بين الصلاة ، والسلام عليه أفضل الصلاة ، والتسليم .
    قوله رحمه الله :[ وعَلى آلهِ ، وأصْحابِه ] قوله :[ وعلى آله ] : ( الآل ) تطلق بمعنيين : آل الرجل بمعني قرابته ؛ قالوا : لأن أصل آل أهل ، وهو قول سيبويه ، وأن الهاء في أهل أبدلت همزة ؛ فقيل آل .
    وتطلق بمعنى الأنصار ، والأعوان ، والأتباع ، وشيعة الإنسان تقول : آل فلان : بمعنى أتباعه .
    وهذا هو المراد بقول العلماء : ( وعلى آله ) أي : الذين آمنوا به ، واتبعوه عليه الصلاة ، والسلام ، وليس المراد به خصوص قرابته ، وهذا هو الصحيح ونصَّ عليه الإمام أحمد-رحمه الله- ، وإختاره جمع من العلماء أن المراد بآل النبي-r- الذين يُصلّى ، ويسلم عليهم تبعاً للنبي-r- أتباعه في كل زمان ، ومكان .
    قوله رحمه الله :[ وأصحابه ] : جمع صاحب ، وهو من الصُحبة بمعنى الملازمة ، والرفقة ، وفي الإصطلاح : ( كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته ، وآمن به ) ، وخصّهم رحمه الله بالذكر لشرفهم ، وحقهم في الإسلام حيث آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وصدّقوه ، وإتبعوه ، وناصروه ، رضي الله عنهم ، وأرضاهم أجمعين .
    وقوله :[ ومَنْ تَعَبّدَ ] : من باب عطف الخاص على العام أي : أنه خصّ المتعبّدين أي : الذين هم أكثر عبادة ، وصلاحاً أي خصَّ أهل الالتزام ، والطاعة الأكثر ، وهذا من باب التشريف ، والتكريم .
    وقوله :[ تعبَّد ] : تفعّلٌ من العبادة ، والتَّفعل زيادة في المبنى تدلّ على زيادة المعنى ، والتعبّد : مأخوذ من العبادة ، والعبادة مأخوذة من قولهم : طريقٌ مُعَبّدٌ أي : مذلّل ؛ لأن أصل العبودية : الذِّلة ؛ فإن الإنسان إذا عبد ربه تذلّل له سبحانه .
    أما حقيقة العبادة في الاصطلاح فمن أجمع التعاريف لها ما اختاره بعض الأئمة رحمهم الله :[ أنها اسم جامع لكلِّ ما يُحبه اللهُ ، ويرضاهُ من الأقوال ، والأفعال الظاهرة ، والباطنة ] أي سواء : كانت متعلقة باعتقاد كالإيمان بالله ، والخوف منه ، والرجاء فيما عنده ، فهذه كلها عبادات من أعمال القلوب الباطنة ، وكذلك تطلق العبادة على الأقوال الظاهرة التي يحبها الله تعالى ، مثل : التَّسبيحِ ، والتَّهليلِ ، والتَّكبيرِ ، والتَّحميدِ .
    وكذلك تُطلق على الأفعال الظاهرة التي يحبها الله تعالى مثل : الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحج .
    فالعبادة تشمل الإعتقادات ، والأقوال ، والأفعال ؛ لكن بشرط أن تكون مما يحبه الله ، ويرضاه ، وشرط ما يحبه الله ، ويرضاه : أن يكون مشروعاً ؛ فلا يُعبد الله إلا بما شرع ، ودلَّ على كونه مشروعاً منه سبحانه دليل الكتاب ، أو السنة ، أو الإجماع قولاً كان ، أو فعلاً ، أو إعتقاداً .
    وقوله رحمه الله :[ أما بعد ] : كلمة يُؤْتى بها للفصل بين المقدمة ، والمضمون ، فالكلام إذا خاطب به الإنسان غيره سواء كان مكتوباً ، أو مسموعاً جرت عادة العلماء أنهم يصدرونه بالثّناء على الله-جل وعلا- ، والصلاة ، والسلام على نبيِّه ، وآله على السُّنة التي ذكرناها ، هذه الكلمات التي يُصدَّر بها الكلام تُوصف بكونها مقدمة ، ثم بعد هذه المقدمة يُشرع في المقصود أي الأمر الذي يُرادُ بيانه ، وهو الهدف من إلقاء الكلمة ، أو كتابة الكتاب ، ولابد أن تَفْصِل بينه ، وبين المقدمة ، ولذلك قال بعض العلماء : إن كلمة ( أمـا بعد ) : هي فصل الخطاب ، قيل : إن أول من تكلم بها داود عليه السلام ، وحملوا عليه قوله تعالى :{ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ }(1) قالوا بدليل قَرنها بالحكمة ، فيكون قوله سبحانه :{ وفَصْلَ الخِطَابِ } : أي الفصل بين مقدمته ، ومضمونه ، وذلك أبلغ في نفع الناس ، وتوجيههم حتى لا يختلط الكلام بعضه ببعض ، وهذا قول الشعبي ، وطائفة من المفسرين ، والذي يظهر ، والعلم عند الله أن فصل الخطاب هو علم القضاء ، والفصل بين الناس في الخصومات ، والنـزاعات .
    فقوله تعالى :{ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } ليس المراد بقوله :{ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } أمابعد التي معنا ، وإنما المراد به كما قال طائفة من العلماء معرفة الطريقة التي يُفْصَلُ بها بين خطاب الخصوم إذا تخاصموا ؛ لأن الخصوم إذا تخاصموا إختلفت أقوالهم ، وتباينت حججهم فيكثر كلامهم ، وخطابهم ولغطهم ؛ فيحتاجون إلى فصلٍ بينهم ، فقوله سبحانه :{ فَصْلَ الخِطَابِ } المراد به : علم الفصل في الخصومات ، ومن ذلك قولهم ( البيّنةُ على المُدَّعِي ، واليمينُ على من أَنْكر ) ، ومن فصل الخطاب أيضاً : أنه يترك المُدَّعِي حتى يُكمل دعواه ، ثم يسأل المُدَّعى عليه ، ولذلك لما لم يفعله داود-u- ، وحكم على الخصم قبل سماع جواب خصمه عن دعواه ، فقال :{ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ }(2) عاتبه الله ، ولذلك كان هذا من تعليم فصل الخطاب ، فدلّ سياق الآية على أن المراد بفصل الخطاب ليس أما بعد التي معنا ؛ وإنما المراد بها فصل الخطاب بين الخصوم ، وهو الذي إمتن الله-U- به على داود ، وعلّمه إياه ، فالحاصل أن الصحيح في الآية أنها لا يراد بها كلمة : أما بعد ، وهذا لا يعني عدم مشروعيتها ، بل إنها مشروعة ، حيث ثبتت هذه الكلمة في الأحاديث الصحيحة عن النبي-r- ومنها ما في الصحيح عنه-عليه الصلاة والسلام- من قوله :[ أمّا بَعدُ : فَما بالُ أقوامٍ يَشترطونَ شروطاً ليستْ في كتابِ اللهِ ؟ ] فكان يقول هذه الجملة ، ولذلك من السُّنة أن تُقالَ بعد المقدمة .
    وقد يُكرِّرها البعضُ فيقول : أما بعد ، ثم يأتي بكلمة ، ثم يقول " ثم أما بعد " والذي يظهر الاقتصار على السُّنة أن يُثنى على الله ، ويحمده فإذا انتهى من الثَّناءِ ، والحمدِ قال : أمّا بَعدُ ، ودخل في المقصود ، فتكرارها لا يحفظ له أصل ؛ خاصة في خطب الجمع ، ونحوها يقتصر على قوله : أمَّا بَعدُ مرةً واحدةً ؛ لأنه هديه عليه الصلاة ، والسلام ، وسنته .
    قال المصنف رحمه الله :[ فهذا مُخْتَصرٌ ] : قوله رحمه الله ( هذا ) إسم إشارة ، وهناك حالتان :
    الحالة الأولى : أن يُشار إلى شيءٍ موجود ، فحينئذ لا إشكال ؛ لأنه الأصل فيها أنها اسم إشارة تدل على شيء موجود ، فتقول : هذا البيت ، فإذا كان المصنف رحمه الله قد كتب هذه المقدمة بعد فراغه من الكتاب ، فحينئذ لا إشكال في إشارته بقوله ( هَذا مُخْتَصرٌ ) ؛ لأنه موجود مكتوب .
    والحالة الثانية : أن يشار بها إلى شيءٍ غير موجود من باب تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، فإذا كان المصنف رحمه الله كتب هذه المقدمة عند إبتدائه لتصنيف الكتاب ؛ فإنه يكون قد نزّلَ المعدومَ منزلةَ الموجودِ ، وقد درج كثير من العلماء رحمهم الله على ذلك أعني كتابة المقدمة عند إبتداء التصنيف والتأليف ؛ لا بعد الفراغ منه ، وقد يصرح بعضهم بذلك فيقول : ( هذا أوان الشروع فيه ) ومنهم من يفهم منه ذلك حينما يقول في مقدمته ( وأسأل الله أن يعين على إتمامه ) ، وهذه الطريقة هي الغالبة بدليل أن الكتب ، والشروح التي لم يتمُّها مؤلفوها كلها وجدت بمقدماتها .

    وعليه فإن إشارته لكتابه على هذا الوجه بقوله ( فهذا مختصر ) يكون من باب تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، لأن الإختصار لم يحصل بعد ، ولكنه قصد حصوله ، واحتاج للتنبيه عليه ؛ فنزّلة منزلة الموجود أي هذا الكتاب الذي سأكتبه مختصر في الفقه .


    قوله رحمه الله :[ مختصر ] : الاختصار ضد الإسهاب ، وإذا خاطبت النّاس في خطبة ، أو كتبت لهم كتاباً ، أو أردت أن تتحدث في موضوع ، فلك ثلاث حالات :


    الحالة الأولى : أن يكون كلامك أكثر من المعنى ، فالمعنى قليل ، ولكن الكلام كثير .


    الحالة الثانية : أن يكون كلامك أقلّ من المعنى ، فالمعنى كثير ، ولكن تأتي بكلمات قليلة تحتها معان كثيرة ، وهذه الحالة عكس الحالة الأولى .


    الحالة الثالثة : أن تأتي بكلام على قدر معناه .


    هذه ثلاث حالات : إما أن تخاطب بكلام ، ويكون معناه مساوياً ، أو أكثر ، أو أقل .


    فإن كان الكلام كثيراً ، والمعنى قليلاً ؛ فإنه يُوصف بكونه إطناباً ، ولذلك يقولون أطنب في الأمر ، وهذا مذموم ؛ إلا في حالات خاصة ، فلا يكون إلا في خطاب ضعاف الفهم من الجهلة ، والعوام الذين يحتاجون إلى شرح ، فتكون المعاني قليلة ، ولكنها تُشْرح بكلامٍ كثيرٍ ، أما إذا خاطب علماء ، أو طلاب علم فالمنبغي أن يكون على إحدى حالتين :


    الحالة الأولى : أن يخاطبهم بكلام مساوٍ لمعناه ، وهو ما يسمونه بالمساواة .


    والحالة الثانية : أن يخاطبهم بكلام مختصر دالٍ على معانٍ كثيرة ، وهو ما يسمى بالإيجاز ، والإختصار وهذه الحالة هي الأفضل إن ناسبت المقام ، وقد عُدَّت من دلائل الإعجاز في كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حيث إنَّ الله خصَّ نبيَّه عليه الصلاة ، والسلام بها كما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام :[ أُوتِيتُ خَمْساً لم يُعْطَهنَّ أحدٌ قبلي ] ، وذكر منها جوامع الكلم ، وأنّه اختُصر له الكلام إختصاراً .


    فكم من آيات قليلة الكلمات ، وتحتها من المعاني ، والدلالات الكثير ، كما في آية الوضوء التي ذكر الإمام ابن العربي رحمه الله في تفسيرها في كتابه أحكام القرآن أن من العلماء من إستنبط منها ثمانمائة مسألة ، وهكذا في أحاديثه عليه الصلاة والسلام التي جعلت أصولاً ، فجمعت مسائل كثيرة في كلمات قليلة يسيرة ؛ كقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين :[ إِنّما الأعمالُ بالنّياتِ ] ، ونحوه .


    فقوله رحمه الله : ( إِخْتَصرتُه ) محمولٌ على الإيجاز ، وأن الكلام قليل ، والمعنى كثير ، ومن عادة الفقهاء رحمهم الله في تصنيفهم للمتون الفقهية أن يراعوا فيها الإختصار ، والإيجاز ، بخلاف الشروح ، والحواشي ، والمطولات .


    قوله رحمه الله :[ في الفقه ] بيان للعلم الذي ينسب إليه هذا المختصر ، لأن المختصرات منها ما هو في علم العقيدة ، ومنها ما هو في علم الفقه ، ومنها ما هو في علم الأصول ، أو اللغة ، أو غيرها ، فلما قال في الفقه بيّن العلم المصنّف فيه ، وهو العلم الذي يريد إختصاره .


    وقوله رحمه الله :( الفقه ) الفقه لغة : الفهم ، ومنه قوله تعالى حكاية عن نبيه موسى عليه السلام : { واحْلُلْ عُقْدةً منْ لِساني يَفْقَهوا قَوْلي } أي : يفهموا ما أقوله ، ثم هذا الإستعمال للفقه بمعنى الفهم لغة فيه قولان : فقيل : إنّه الفهم عموماً ، وقيل : إنّه الفهم للأمور الدقيقة التي تحتاج إلى إعمال فكر ، وعناء ، فلا يطلق على فهم الأمور الواضحة ، وعلى هذا القول ، فلا يصح أن تقول : فقهت أن الواحد نصف الإثنين ، لأنه أمر واضح لا يحتاج إلى كبير عناء .


    وعلى هذا يكون القول الأول : عاماً شاملاً لكل فهم ، وعلى الثاني : يكون الفقه خاصاً بالفهم الذي يحتاج إلى إعمال فكر ، وبذل جهد .


    أما الفقه في الاصطلاح : فهو ( العلم بالأحكام الشرعية ، العملية ، المكتسبة من أدلتها التفصيلية ) .


    فقولهم : ( العلم بالأحكام الشرعية ) ، العلم ضد الجهل ، وحقيقته : إدراك الشيءِ على ما هو عليه ، فإذا أدركت الشيء على حقيقته التي هو عليها ؛ فقد علمته ، أما لو أدركته ناقصاً عن حقيقته فإنك لم تعلمه .


    و( الأحكام ) جمع حكم ، وهو في اللغة : المنع ، والقضاء ، والحكم : إثبات أمر لأمر ، أو نفيه عنه ، وله عدة تعاريف تختلف بحسب إختلاف أنواعه .


    وقولهم : " إثبات أمر لأمر " مثاله : أن تقول زيد قائم أثبتَّ القيام لزيد هذا حكم حكمت عليه بالقيام ، وقولهم : " أو نفيه عنه " أي تنفيه عنه فتقول مثلاً : زيد ليس بقائم ؛ هذا حكم حكمت عليه بأنه ليس بقائم .


    والحكم الشرعي في اصطلاح علماء الأصول : هو ( خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على جهة الاقتضاء ، أو التخيير ، أو الوضع ) .


    وقولهم ( الشّرعية ) قيد يخرج الأحكام غير الشرعية كاللغوية ، والعادية ، والمنطقية ، وغيرها فهو يدل على أنها مختصة بالأحكام إذا كانت من الشرع فقط .


    وقولهم ( العملية ) قيد يخرج بقيّة الأحكام الشرعية كالعقائدية ، لأن العملية مختصة بالعبادات والمعاملات ، فلا يدخل فيها ما كان متعلقاً بالعقائد ؛ لأنه يبحث في كتبه المتخصصة فيه ككتب التوحيد والعقيدة .


    وقولهم : ( المكتسبة ) أي : المستفادة التي حُصِّلت ، واستفيدت .


    وقولهم : ( من الأدلة الشرعية ) بيان لأصل الحكم ، والأدلة الشرعية هنا عامة شاملة للأدلة النقلية ، وهي : دليل الكتاب ، والسُّنة ، والإجماع ، والأدلة العقلية كالقياس ، والنظر الصحيح .


    قوله رحمه الله :[ منْ مُقْنِع الإمامِ الموفّق أَبي مُحمّدٍ ] : قوله :[ من ] : للتبعيض ، أي : أنه جعل كتاب المقنع للإمام الموفق أبي محمد رحمه الله أصلاً لكتابه هذا ، فاختصره منه .


    والمقنع : كتاب للإمام الموفق أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي-رحمة الله عليه- المتوفى عام 620هـ في يوم عيد الفطر هذا الإمام الجليل ألّف كتاباً إسمه : عمدة الفقه ، وهذا الكتاب صاغ فيه الفقه بأخصر عبارة ، واعتبره الدرجة الأولى لطالب الفقه ، ثم ألّف بعده كتاباً إعتبره درجة ثانية فوقه ، وهو المقنع ، وتوسّع فيه قليلاً عن العمدة .


    ثم وضع كتاباً ثالثاً وهو الكافي ، وذكر فيه الخلاف مختصراً للخلاف في داخل مذهب الحنابلة ، وهو فوق كتاب المقنع .


    ثم وضع كتابه المغني ذكر فيه خلاف الروايات ، واختلاف الفقهاء ، فجمع بين الخلاف داخل المذهب ، وخارجه ، وهو كتابه لمن أراد أن يتأهل لدرجة الاجتهاد ، فهذه درجات وضعها هذا الإمام الموفق-رحمة الله عليه- في دراسة الفقه ، وهذه عادة المتقدمين أنهم يضعون الفقه على مراتب ، ولا يمكن لطالب العلم أن يضبط علم الفقه ، ويكون فقيهاً بمعنى الكلمة إلا إذا ضبطه بهذه الطريقة ، وهي التدرج في دراسته .


    فالكتاب الذي معنا هو الدرجة الثانية ، وهو كتاب المقنع ، ويعتبر درجة ثانية بعد العمدة فليس من الصواب أن الشخص يبدأ بالمغني أولاً ، دون أن يتأهل بدراسة ما قبله حتى يتسنى له ضبطه ، وفهمه .


    فالإمام الحجاوي-رحمة الله عليه- إختصر المقنع ؛ فألغى منه مسائل ، وأضاف مسائل ، فسماه زاد المستقنع ، فالأصل في هذا الكتاب أنه كتاب المقنع ، أُضيفت إليه مسائل ، وحُذفت منه أخرى .


    قوله رحمه الله :[ على قولٍ واحدٍ ، وهُو الرَّاجِحُ في مذهبِ أحمدَ ] قوله :[ على قول واحد ] : الفقهاء-رحمة الله عليهم- كانوا يكتبون الفقه على طريقتين :


    الأولى : طريقة المذهب .


    والثانية : وطريقة الخلاف بين المذاهب .


    أما طريقة المذهب : فهي طريقة يُعتنى فيها ببيان المذهب على إحدى صورتين :


    الصورة الأولى : تكون ببيان خلاصة المذهب ، دون تعرض لخلافه ، وهذه طريقة المتون ، وهذا هو منهج الكتاب الذي معنا .


    والصورة الثانية : أن يذكر الخلاف في المذهب فيقول : في المذهب ثلاث روايات ، أو أربع ، وهكذا فإذا ذكر الخلاف في المذهب : فإما أن يذكره عن الإمام بالروايات ، والأقوال ، وإما أن يذكره عن أصحاب الإمام بالأوجه .


    إذاً فكتب المذهب إما أن تعتني بحسم المذهب ، بذكر الخلاصة ؛ وإما أن تعتني ببيان الخلاف داخل المذهب ، فالمصنف رحمه الله بيّن خلاصة المذهب ، واختياره في كتابيه العمدة ، والمقنع ، وذكر الخلاف في الكافي ، وذكره بإسهاب مقارناً بين المذاهب في المغني .


    فإذا عرفنا أن هناك خلافاً في المذهب ، وخلافاً بين العلماء-رحمهم الله- خارج المذهب ، فبيّن رحمه الله أنه في هذا الكتاب المختصر لا يذكر الخلاف داخل المذهب ، ولا خارجه ، وأنه سيذكر الخلاصة للمذهب فقط .


    قوله رحمه الله :[ ورُبّما حَذفتُ منه مسائلَ نادرةَ الوقوعِ ] : قوله :[ ربَّ ] : للتقليل ، وقد تستعمل بمعنى التكثير ، ولكن الأصل فيها التقليل ، والحذف : يكون بقصد الاختصار ، وقد يحذف لعدم وجود الحاجة الماسة للمسائل المحذوفة ، فلذلك قال رحمه الله :


    [ ورُبّما حَذفتُ منه مسائلَ نادرةَ الوقوعِ ] : النادر ضد الغالب ، والنادر هو الأمر قليل الحدوث ، والغالب عكسه ؛ كثير الحدوث .


    قوله رحمه الله :[ وزدتُ ما على مثله يُعْتَمد ] : أي أنني سأزيد بدل هذه المسائل التي حذفتها مسائل تشتد الحاجة إليها لكثرة وقوعها ، أو أهمية دراستها .


    وهذا الحذف ، والزيادة من الإمام الحجّاوي رحمه الله ، إختصاراً منه لمقنع الإمام الموفق أبي محمد رحمهما الله برحمته الواسعة .


    قوله رحمه الله :[ إذ الهِمَمْ قَدْ قَصُرت ، والأَسْبابُ المثبّطةُ عن نَيْلِ المُرادِ قد كَثُرتْ ] قوله :[ إذ الهِمَمْ ] : جمع همة ، وهي إحدى مراتب الأمر إذا وقع في نفس الإنسان ، ولا يمكن أن يقع الاهتمام بالأمر إلا بعد أن يحدّث نفسه به ، فأولاً يكون الشيء في قلب الإنسان حديثاً ، ووسواساً يخطر بالإنسان ، وتُحدِّثه به نفسه فإذا حَدّثتهُ نفسه إهتم به ، فإذاً الهمُّ يكون بعد الخاطر ، والهاجس ، ويكون بمعنى تهيئ النفس للعزم على الشيء ، ثم بعد ذلك يكون عزمها عليه ، فبيّن رحمه الله أن الهمم في زمانه قد ضعفت حتى إحتيج إلى المختصرات ، تخفيفاً في الطلب ، وتيسيراً للعلم ، بعد أن كانت الهمّة في طلب العلم قويّة متعدية ، لا تقف عند حدٍ ، فأصبحت قاصرة ضعيفة تحتاج إلى ما يناسبها .


    قوله رحمه الله :[ والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت ] : الأسباب : جمع سبب ، وهو في الأصل ما يتوصل به إلى الشيء ، كالحبل ، ونحوه .


    والتَّثْبِيطُ : هو التخذيل عن الشيء ، والمراد : ما يقصده الإنسان ويطلبه .


    والمعنى : أن المصنف رحمه الله أراد أن يبين ضعف الحال في طلب العلم فبعد أن كانت الهمم في الطّلب عالية ، والأسباب المعينة عليه متوفرة تغيّر الحال ، وإختلف ، فأصبح على عكس ذلك ، مما إقتضى وضع ما يناسب حال الناس من مختصرات تقرّب العلم ، وتسهّل الوصول إليه ؛ مراعاة لضعف حال الناس في طلب العلم ، ثم إن الإنسان يضعف عن الخير بأمرين :


    الأمر الأول : من نفسه .


    والأمر الثاني : خارج عن نفسه .


    فأشار إلى الأمر الأول بقوله : ( إذِ الهِمَمْ قَدْ قَصُرتْ ) وأشار إلى الثاني بقوله : ( والأسبابُ المثبّطةُ عن نيلِ المرادِ قدْ كَثُرتْ ) .


    قوله رحمه الله :[ ومع صِغرِ حَجْمهِ حَوى ما يُغنيِ عَنِ التَّطْويل ]: قوله [ حوى ما يغني عن التطويل ] والغناء المراد به الكفاية هذا يغنيني أي : يكفيني ، وقد تستعمل مادته بمعنى حسن الصوت ، ومنه التغني وحمل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : ( مَنْ لم يَتَغَنّ بالقرآنِ فَليسَ منّا ) ، وقد تستعمل بمعنى الإقامة : ومنه قوله تعالى :{ كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ }(2) أي : لم تقم بمكانها .


    والتطويل المراد به هنا كما ذكرنا الإسهاب ، ومراده رحمه الله أن يبيّن أن إختصاره لم يكن مُخِلاً بالكتاب ، بل كان مناسباً .


    ويرد هنا إشكال ، وهو أن : العلماء-رحمهم الله- في بعض الأحيان يذكرون عبارات فيها ثناء على كتبهم ، أو بيان لفضل هذه الكتب ، والمؤلفات ، وهذا يتضمن التزكية ، والمدح للنفس ، وقد ثبت في الشرع النهي عن تزكية النفس أليس ثناؤه على كتابه من باب التزكية ، والمدح ؟ هذا إشكال ، ويحتاج إلى جواب ؟


    والجواب: أن التزكية ، والثناء على النفس لها حالتان :


    الحالة الأولى : أن تتضمن الإدلاء على الله ، والعُجْبَ بالنفس ، والإغترار بها ، والعياذ بالله فهذا نسأل الله السلامة ، والعافية هو المحرّم ، ولا يجوز ؛ كأن يُثني الإنسان على نفسه بكثرة علم ، وعبادة مغتراً ، ومتعالياً ، وقد عاتب الله-جل وعلا- موسى-u- لما ذكر علمه ، وهو عالم ، ولم يكن ذلك منه تفاخراً كما ثبت في الصحيح ، فكيف بمن فعل ذلك تفاخراً ، وبيّن الله في كتابه أنّ الذين عذّبهم ، وأهلكهم من شأنهم أنهم فرحوا بماعندهم من العلم ، حتى حاق بهم ما كانوا به يستهزؤن .


    الحالة الثانية : التَّزكية على سبيل معرفة الحق ، والترغيب فيه ، فمثلاً يقول : تعلمت هذا العلم من العلماء ، أو أفتيتك بهذه الفتوى من العلماء ، أو هذا الأمر الذي ذكرته لك من الكتاب ، والسُّنة ، فتثني على علمك حينما ترى إستخفاف الناس به ، أو تريد حملهم على العمل بالحقِّ ، والسُّنة ، فهذا فَعَلَهُ الصحابة رضي الله عنهم ، كما قال أنس رضي الله عنه في الحديث الصحيح :[ ما تعدُّوننا إلا صبياناً ، لقد كنت تحت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يمسُّني لعابها أسمعه يقول : لبيك عمرةً ، وحجةً] وقال أبو العباس سهل بن سعد الساعدي-t- كما في صحيح البخاري : [ ما بقي أحدٌ أعلمَ بمنْبرِ النبي-r- منّي ] فهذا نوع من الثناء على نفسه بالعلم حتى يُقدَّر قدرُه .


    فأجاز العلماء أن يثني الإنسان على نفسه لمعرفة قدره ؛ كما قال سبحانه حكاية عن نبيِّه يوسف عليه السلام :{ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }(1) فإذاً إذا كان الإنسان عنده حقٌّ وعلم فبيّن نعمة الله عليه من باب معرفة قدره فإنه لا حرج عليه ، فهذا من باب الترغيب في قبول الحق ، والعمل به ، ونرجو ألا يكون من باب التزكية ، والثّناء المذموم شرعاً .


    قوله رحمه الله :[ ولا حول ولا قوة إلا بالله ] : للعلماء فيها وجهان :


    الوجه الأول : منهم من يقول لا حول : أي لا تَحوُّل من حالٍ إلى حالٍ ، ولا قوة على ذلك التحول ولا بلاغ إلا بالله ، فأصل الحول من التغيّر ، والتبدل ، ولذلك يطلق على السَّنة ؛ لأن الغالب أن الإنسان إذا مرّتْ عليه سنة كاملة تحوّل حاله ، وتغيّر فيمرض ، ويصح ، ويغنى ، ويفتقر ، ويهلك ماله ، ويزيد إلى غير ذلك من العوارض ، فالحول مدة ليست يسيرة .


    وعلى هذا المعنى يكون قولهم لا حول أي : لا تحوّل من حال شر إلى حال خير إلا بالله العلي العظيم .


    الوجه الثاني : لا حول في دفع ضُرٍّ ، ولا قوة في بلوغ خير إلا بالله ، فالله-جل وعلا- منه الحول ، والطول ، والقوة ، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي-r- أنّه لما سمعَ المؤذنَ يقولُ : حيَّ على الصلاةِ ، حيّ على الفلاحِ قال :[ لا حَوْلَ ، ولا قُوةَ إِلا باللهِ ] قال بعض العلماء : مناسبته أنه بَرِأَ من الحول ، والقوة في إجابة داعي الله ؛ إلا بعد توفيق الله-جل وعلا- ومعونته ، فقد يكون الإنسان راغباً في حضور الصلاة ، وأدائها ، ولكن يُحالُ بينه ، وبينها بسقمٍ ، أو مرضٍ ، وقد يحال بينه ، وبينها بتأخرٍ ، أو تقاعسٍ فلا حول للإنسان ، ولا قوة في بلوغ الخير إلا بالله-جل وعلا- ، وهكذا في دفع الشَّر ، وهذه الكلمة كنزٌ من كنوز الجنة كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام .


    قوله رحمه الله :[ وهو حَسْبُنا ] : وهو : أي الله ، الحسب : الكفاية ، حسبي : كفايتي ، حسبنا : جاء بصيغة الجمع التي تشمله ، وتشمل السامع ، والقارئ ، والمؤمنين المتوكلين عليه سبحانه ، وهو حسبنا أي : كافينا .


    قوله رحمه الله :[ ونِعْمَ الوكيلُ ] : ثناء على الله-جل وعلا- ، والوكيل : هو القائم على الشيء ، المتوكل عنه ، والله خالق كل شيء ، وهو على كل شيء وكيل ، فهو القائم على كل نفس ، وهو المتوكل بكل نفس-I- ، وبكل شيء ، فهو حسبنا في بلوغ هذا الأمر الذي رسمناه ، والمنهج الذي ذكرناه .


    قوله رحمه الله :[ ونِعْمَ الوكيلُ ] : أي نعم من يُتَوكّلُ عليه ، أو يُوْكَل إليه الأمر .


    وهذه المقدمة فيها فوائد : نجملها فيما يلي :


    أولاً : الثناء على الله-U- ، واستفتاح الكتب بذلك ، وفي حكمها الخطب ، والمواعظ ونحوها .


    ثانياً : الفصل بين مقدماتها ، ومضامينها .


    ثالثاً : أن تكون هذه المقدمة مشتملة على التعريف بالكتاب ، وبيان منهج المؤلف فيه ، وفي تقسيم مادته ، وترتيبها .


    هذه فوائد يستفيد منها طالب العلم في البحث ، وكتابة رسالة ، أو موضوع ، ثم خَتْمُ ذلك بالثناء على الله-جل وعلا- وسؤاله المددَ ، والعونَ .


    فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يستفتح مقدمته بالثناء على الله-U- ، ويختمها أيضاً بسؤال الله-U- المعونة ، والتوفيق .


    ونسأل الله العظيم ، رب العرش الكريم ، أن يجزي هؤلاء الأئمة ، وإخوانهم من علمائنا خير ما جزى عالماً عن علمه ، اللهم أسبغ عليهم واسع الرحمات ، وإجعل لهم جزيل المغفرات ، وعلو الدرجات ، وألحقنا بهم على أحسن ما تكون عليه الخاتمة ، والممات ؛ إنك عل كل شيء قدير ، وبالإجابة جدير ، والله تعالى أعلم .






    (1) / الفاتحة ، آية : 1 .



    (2) / العلق ، آية : 5 .



    (1) / الضحى ، آية : 11 .



    (2) / النحل ، آية : 53 .



    (3) / سبأ ، آية : 13 .



    (1) / التوبة ، آية : 103 .



    (2) / الأحزاب ، آية : 56 .



    (1) / ص ، آية : 20 .



    (2) / ص ، آية : 24 .



    (2) / يونس ، آية : 24 .



    (1) / يوسف ، آية : 55 .
    سبحان الله وبحمده
    سبحان الله العظيم

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2009
    المشاركات
    578

    افتراضي رد: دروس الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي . شرح كتاب زاد المستقنع للحجاوي .

    الزاد للمبتدئين ...
    من يتحفنا بالجواز ...؟؟؟
    نقرأ من شرح الشيخ الشنقيطي مع تعليقات إضافية من الشرح الممتع لابن عثيمين ...
    هل هذا مناسب لمجموعة من طلبة العلم المبتدئين ..؟؟؟؟؟
    إذا أصلحنا أعمالنا التي يحبها الله ونستطيعها ، أصلح الله أحوالنا التي نحبها ولانستطيعها ...!!!

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •