الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين أما بعد :
فإن من أشكل أبواب الفقه هو باب الحيض ، و من أشكل هذا الباب هو مسألة المستحاضة ؛
قال العلامة النووي في المجموع :
(اعلم أن باب الحيض من عويص الأبواب ، ومما غلط فيه كثيرون من الكبار لدقة مسائله ؛ واعتنى به المحققون وأفردوه بالتصنيف في كتب مستقلة ، وأفرد أبو الفرج الدارمي -من أئمة العراقيين- مسألة المتحيرة في مجلد ضخم ليس فيه إلا مسألة المتحيرة وما يتعلق بها ، وأتي فيه بنفائس لم يسبق إليها ، وحقق أشياء مهمة من أحكامها ؛ وقد اختصرت أنا مقاصده في كراريس) اهـ.
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( القواعد النورانية ) :
( .. فإن مسائل الاستحاضة من أشكل أبواب الطهارة )اهـ.
و من المسائل المتعلقة بالمستحاضة مسألة غُسل المستحاضة ، و قد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على سبعة أقوال! و سبب اختلافهم هو اختلاف ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك أو تضعيف بعض رواياتها عند بعض أهل العلم ، فاختلف مسلك العلماء فيها.
و قبل ذكر هذه الأقوال ، لابد من العلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في وجوب الغسل على المستحاضة عند انقضاء زمن الحيض ، وإن كان الدم جاريا ، وهذا أمر مجمع عليه لحديث فاطمة بنت أبي حبيش ، حيث قال لها النبي – صلى الله عليه وسلم – ( ..دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ، ثم اغتسلي وصلي). متفق عليه.
قال النووي – رحمه الله تعالى – في المجموع :
( فيه دليل على وجوب الغسل على المستحاضة إذا انقضى زمن الحيض ، وإن كان الدم جاريا ، وهذا مجمع عليه )اهـ.
أقوال أهل العلم في غسل المستحاضة:
القول الأول:
أنها تغتسل كل يوم مرة في أي وقت شاءت من النهار ، قال ابن عبد البر : " رواه معقل بن يسار عن علي-رضي الله عنه-" ، قلت : و قد صح ذلك عن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها - كما في سنن أبي داود ، وذكره أبو داود عن القاسم بن محمد وهو صحيح.
و هذا القول لا دليل عليه من حديث النبي – صلى الله عليه وسلم - ، قال ابن رشد في (بداية المجتهد) :
" و أما من ذهب إلى أن الواجب أن تطهر في كل يوم مرة واحدة ، فلعله إنما أوجب ذلك عليها لمكان الشك ، ولست أعلم في ذلك أثرا " اهـ.
قلت : وفيه من الآثار ما سبق .
ومنهم من قال : تغتسل من ظهر إلى ظهر ، و ذكر هذا أبوداود في سننه عن سعيد بن المسيب و صححه الألباني ، وذكر أبوداود أنه رُوي عن ابن عمر و أنس بن مالك ، وصحح الألباني قول أنس .
القول الثاني :
أنها تؤخر الظهر وتغتسل لها و للعصر غسلا واحدا ، وتؤخر المغرب و تغتسل لها وللعشاء غسلا واحدا ، وتجمع الصلاتين في الوقتين ، و تغتسل غسلا مستقلا لصلاة الصبح .
و هذا مذهب ابن عباس و عطاء والنخعي ، روى ذلك عنهم ابن سيد الناس في (شرح الترمذي) ؛ واستدلوا بحديث حمنة بنت جحش –رضي الله تعالى عنها - قالت كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة ، فأتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- أستفتيه وأخبره ، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش ، فقلت: يا رسول الله إني أستحاض حيضة كثيرة شديدة فما تأمرني فيها ؟ قد منعتني الصلاة والصيام .
قال:
( أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم) .
قالت: هو أكثر من ذلك! .
قال: (فتلجمي).
قالت: هو أكثر من ذلك .
قال: (فاتخذي ثوبا).
قالت: هو أكثر من ذلك ، إنما أثج ثجا! .
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- :
( سآمرك بأمرين أيهما صنعت أجزأ عنك من الآخر ، وإن قويت عليهما فأنت أعلم ، فقال لها: إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثا وعشرين ليلة أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها وصومي وصلي فإن ذلك يجزئك ، وكذلك فافعلي كما تحيض النساء وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهن ، وإن قويت على أن تؤخرين الظهر وتعجلين العصر فتغتسلين وتجمعين الصلاتين الظهر والعصر، وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي ، وتغتسلين مع الفجر فافعلي وصومي إن قدرت على ذلك . فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
( وهذا أعجب الأمرين إلي )اهـ.
رواه أبو داود و أحمد والترمذي و صححاه ، وحسنه الألباني في الإرواء و المشكاة و صحيح السنن.
و استدلوا أيضا بحديث فاطمة بنت أبي حبيش – و اسم أبي حبيش هو قيس بن المطلب- من حديث أسماء عند أبي داود :
فعن أسماء بنت عميس قالت: قلت: يا رسول الله إن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت منذ كذا وكذا فلم تصل ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبحان الله! هذا من الشيطان ، لتجلس في مركن فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا ، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلا واحدا ، وتغتسل للفجر غسلا واحدا ، وتتوضأ فيما بين ذلك)اهـ.
و إسناده صحيح على شرط مسلم ، وكذلك قال الحاكم والذهبي ، و صححه أيضا ابن حزم ، انظر(صحيح أبي داود) رقم(307) .
قاله الألباني في المشكاة.
قلت: حديث حمنة فيه التخيير بين الغسل وتركه و ليس فيه الإلزام ، وحديث فاطمة بنت أبي حُبيش في رواية أبي داود رده الجمهور وقالوا : إنه مخالف لرواية البخاري من حديث أم المؤمنين عائشة ، وهناك من أهل العلم من سلك سبيل الجمع ، فجعل الأمر فيه للاستحباب بدليل الأحاديث الأخرى التي لم يأت فيها الأمر بالغسل لكل صلاة ، أو جاء فيها التخيير كما في حديث حمنة.
و هذا الأخير هو الذي يجمع بين النصوص ، و سيأتي في القول السابع.
القول الثالث :
و هو مذهب جمهور أهل العلم : مالك و أبي حنيفة و الشافعي و أحمد :
من أنها تغتسل غسلا واحدا عند انقضاء وقت حيضها ، و ضعفوا الأحاديث التي في السنن ، وقالوا : إنها خلاف الحديث الذي في الصحيحين حديث فاطمة بنت أبي حبيش.
القول الرابع :
أن الغسل واجب عليها لكل صلاة .
و رووا هذا عن علي و ابن الزبير و ابن عباس وسعيد بن جبير ، وذكره أبود عنهم بلفظ رُوي ، وصححه الألباني ، و هو قول ابن عُلية ، و استدلوا بحديث أم حبيبة عند أبي داود و النسائي :
( أنها استحيضت فأمرها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن تغتسل لكل صلاة ).
و قالوا : لأنه لا يأتي عليها وقت صلاة إلا وهي شاكة هل هي حائض أو طاهر مستحاضة .
و هذا غير مسلّم إذا كانت قد عرفت أيام عادتها ، فإنها بنص حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – غير حائض في غيرها.
القول الخامس :
أن الغسل لكل صلاة خاص بالتي لا تعرف عادتها ولا تميز دم الحيض من الاستحاضة ، وحملوا حديث أم حبيبة على ذلك ، وقال بهذا الشافعي والخطّابي.
لكن هذا المذهب يعكر عليه عدم استفسار النبي – صلى الله عليه وسلم – عن حالة كل من النساء اللائي استفتينه عن الاستحاضة ، وعدم استفصاله كل واحدة معناه شمول كل حالات المستحاضة .
و القاعدة عند أهل الأصول:
ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنزّل منزلة العموم في المقال.
القول السادس:
بأن الأحاديث التي فيها الأوامر بالغسل لكل صلاة منسوخ بحديث فاطمة بنت أبي حبيش ، وهذا ما نزع إليه العلامة الطحاوي في (شرح معاني الآثار).
قال السفاريني في (كشف اللثام شرح عمدة الأحكام) :
( وقال الطحاوي: حديث أم حبيبة منسوخ بحديث فاطمة بنت أبي حبيش ، لأن فيه الأمر بالوضوء لكل صلاة دون الغسل.
و الجمع بين الحديثين بحمل الأمر بالغسل على الندب أولى ، و لهذا استحبه سيدنا الإمام أحمد – رضي الله عنه – و الله أعلم)اهـ.
و لا يخفى أن القول بهذا فيه ضعف ، ذلك أن القول بالنسخ يحتاج إلى معرفة اللاحق من السابق ، وإلى تعذر الجمع بين النصوص ، و الجمع هنا ممكن فهو أولى من القول بالنسخ.
القول السابع:
أن الغسل لكل صلاة مستحب وليس بواجب ، و بهذا يجمع بين الأدلة – كما سبق- .
قال الموفق ابن قدامة المقدسي في (المغني) في قوله –صلى الله عليه وسلم – (تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي) :
" وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي سَائِرِ الْأَحَادِيثِ مُسْتَحَبُّ غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَالْغُسْلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَفْضَلُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ ، وَالْأَخْذِ بِالثِّقَةِ وَالِاحْتِيَاطِ ، وَهُوَ أَشَدُّ مَا قِيلَ ، ثُمَّ يَلِيهِ فِي الْفَضْلِ وَالْمَشَقَّةِ الْجَمْعُ بَيْنَ كُلِّ صَلَاتَيْنِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ ، وَالِاغْتِسَالُ لِلصُّبْحِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ : { وَهُوَ أَعْجَبُ الْأَمْرَيْنِ إلَيَّ } .
ثُمَّ يَلِيهِ الْغُسْلُ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً بَعْدَ الْغُسْلُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَيْضِ ، ثُمَّ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، وَهُوَ أَقَلُّ الْأُمُورِ وَيُجْزِئُهَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ "اهـ.
و قال السفّاريني في (كشف اللثام) :
(و قال الإمام أحمد : إن اغتسلت لكل صلاة فهو أحوط ، و كذا قال إسحاق)اهـ.
و قال :
(.. و الجمع بين الحديثين بحمل الأمر بالغسل على الندب أولى ، و لهذا استحبه سيدنا الإمام أحمد – رضي الله عنه – و الله أعلم)اهـ.
الترجيح:
و يظهر لي أن القول السابع هو أظهر هذه الأقوال – والعلم عند الله تعالى – ذلك أن به تأتلف الأقوال و تجتمع ، ولا يرد عليه ما ورد على ما سبقه.
و الله أعلم.
و الحمد لله رب العالمين.