3ـ هجْر الأستاذ للتعريف الصريح الخاص بالبدعة الشرعية وترْك الإشارة إليه مطلقا هجرا كاملا

فقد سبق ما جاء في تعريفات الأستاذ مِن خَرق للعلم وللأمانة ، ومن مجانبته للأمانة جحدُه التعريف الخاص بالبدعة الشرعية .
وبيان البدعة الشرعية هو كما يلي :

قال شيخ الإسلام :
" وأما البدعة الشرعية فكل مالم يدل عليه دليل شرعي "
وقال ابن كثير في تفسيره :
" وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة: هو بدعة؛ لأنه لو كان خيرا لسبقونا إليه، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها " ا.هـ
و عرفها الحافظ بقوله كما في نزهة النظر :
" هي اعتقاد ما أحدث على خلاف المعروف عن النبي صلى الله عليه و سلم لا بمعاندة بل بنوع شبهة " ا.هـ
وقال السخاوي عن البدعة شرعا :
" ولكنها خصت شرعا بالمذموم مما هو خلاف المعروف عن النبي صلى الله عليه و سلم فالمبتدع من اعتقد ذلك لا بمعاندة بل بنوع شبهة " ا.هـ
وقد سبق كلامه كاملا
وقال السيوطي في الأمر بالاتباع :
" البدعة عبارة عن فعلة تصادم الشريعة بالمخالفة أو توجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان ".
وجاء في مواهب الجليل
" قَالَ فِي شَرْحِهِ الشَّيْخُ زَرُّوق وَالْبِدْعَةُ لُغَةً الْمُحْدَثُ ، وَفِي الشَّرْعِ إحْدَاثُ أَمْرٍ فِي الدِّينِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَلَيْسَ مِنْهُ ، وَمَرْجِعُهُ لِاعْتِقَادِ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ ا.هـ

وأما اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة أجزل الله لأعضائها المثوبة فعرفوها بقولهم :
" أما البدعة الدينية فهي: كل ما أحدث في الدين مضاهاة لتشريع الله " ا.هـ
وفي فتاوى الأزهر وفق الله أصحابه لكل خير وأجزل لهم المثوبة جاء فيها :
" وأفيد سعادتكم أن كل عبادة لم يرِد بها نص عن النبى صلى اللّه عليه وسلم .
ولم يأت فى عمله - صلى اللّه عليه وسلم - ولا فى عمل أصحابه اقتداء به وإن لم نعرف وجهة الاقتداء فهى بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار فهى ممقوتة للشارع يجب منعها ا.هـ
ثم جاء في عقب هذا الكلام أحكام على عدة أعمال بالبدعية منها :
ـ قراءة بقية سورة الكهف جهرا يوم الجمعة لأجل عدم غوغاء الفلاحين بالكلام الدنيوى .
ـ الترقية قبل الخطبة مع مراعاة الآداب فى الإلقاء وحديث إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب إلى أخره .
ـ الأذان قبل الوقت يوم الجمعة بما يشتمل على استغاثات وصلوات على النبى - صلى اللّه عليه وسلم - لتنبيه الفلاحين الموجودين بالغيطان الغافلين عن مكان الجمعة .
ـ الصلاة والسلام على النبى - صلى اللّه عليه وسلم - عقب الأذان فى الأوقات الخمس إلا المغرب .
ـ الذكر جهرا أمام الجنازة بكيفية معتدلة خالية عن التلحين ا.هـ
فكل هذه عدوها بدعا كأمثلة للتعريف وهي مسؤول عنها بعينها في السؤال .
واستثنوا الأذان بين يدي الخطيب فجوزوه من دون الأمثلة السابقة
مع أن في بعض الفتاوى لهم ما يخالف هذا التطبيق وكأنه لاختلاف المجيب لأن الجواب ليس جماعيا
وسيأتي ملخص يوضح ما اشتملت عليه هذه التعريفات .

وقال الإمام الهمام جبل هذا العلم الشاطبي رحمه الله وقد أخرت تعريفه لما احتواه من بسط حيث قال :
" ومن هذا المعنى [ يعني اللغوي ] سميت البدعة [ يعني الشرعية ] بدعة فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع وهيئتها هي البدعة وقد يسمى العلم المعمول على ذلك الوجه بدعة فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة وهو إطلاق أخص منه في اللغة حسبما يذكر بحول الله ...
ثم قال :
فأفعال العباد وأقوالهم لا تعدو هذه الأقسام الثلاثة :
ـ مطلوب فعله
ـ ومطلوب تركه
ـ ومأذون في فعله وتركه
والمطلوب تركه لم يطلب تركه إلا لكونه مخالفا للقسمين الأخيرين لكنه على ضربين :
أحدهما : أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة خاصة مع مجرد النظر عن غير ذلك ، وهو إن كان محرما سمي فعلا معصية وإثما وسمي فاعله عاصيا وآثما ، وإلا لم يسم بذلك ودخل في حكم العفو حسبما هو مبين في غير هذا الموضع ولا يسمى بحسب الفعل جائزا ولا مباحا لأن الجمع بين الجواز والنهي جمع بين متنافيين
والثاني : أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة لظاهر التشريع من جهة ضرب الحدود وتعيين الكيفيات والتزام الهيئات المعينة أو الأزمنة المعينة مع الدوام ونحو ذلك ، وهذا هو الابتداع والبدعة ويسمى فاعله مبتدعا.
فالبدعة إذن عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وهذا على رأي من لا يدخل العادات في معنى البدعة وإنما يخصها بالعبادات
وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول : البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية " ا.هـ

والأول هو تعريف البدعة الشرعية ، أما هذا الثاني الذي يشمل العادات فهو تعريف شامل للبدعة اللغوية المتصل فعلها بالشرع
ثم قال شارحا :
" وقوله في الحد تضاهي الشرعية يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك بل هي مضادة لها من أوجه متعددة
منها : وضع الحدود كالناذر للصيام قائما لا يقعد ضاحيا لا يستظل والاختصاص في الانقطاع للعبادة والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة ..
ومنها : التزام الكيفيات والهيئات المعينة كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه و سلم عيدا وما أشبه ذلك
ومنها : التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة كالتزام صيام يرم النصف من شعبان وقيام ليلته
وثم أوجه تضاهي بها البدعة الأمور المشروعة فلو كانت لا تضاهي الأمور المشروعة لم تكن بدعة ـ لأنها تصير من باب الأفعال العادية
وأيضا فإن صاحب البدعة إنما يخترعها ليضاهي بها السنة " ا.هـ
إلى أن قال :
" وفي الحد أيضا معنى آخر مما ينظر فيه وهو أن البدعة من حيث قيل فيها : أنها طريقة في الدين مخترعة ـ إلى آخره ـ يدخل في عموم لفظها البدعة التركية كما يدخل فيه البدعة غير التركية " ا.هـ

حتى قال القرافي وهو ممن تأثر بتقسيم العز :
" فَالْبِدْعَةُ إذَا عَرَضَتْ تُعْرَضُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ وَأَدِلَّتِهَا فَأَيُّ شَيْءٍ تَنَاوَلَهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ وَالْقَوَاعِدِ أُلْحِقَتْ بِهِ مِنْ إيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ، وَإِنْ نَظَرَ إلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهَا بِدْعَةً مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا يَتَقَاضَاهَا كُرِهَتْ فَإِنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الِاتِّبَاعِ ، وَالشَّرَّ كُلَّهُ فِي الِابْتِدَاعِ " ا.هـ

قال الحافظ في الفتح عن حديث الذي ذبح أضحيته قبل صلاة العيد :
" قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: وفيه أنَّ العملَ وإن وافق نية حسنة لَم يصح إلاَّ إذا وقع على وفق الشرع " ا.هـ

نجد مما تقدم أنه قد اجتمع في تعريف البدعة الآتي :

1ـ كل فعل أو قول لم يدل عليه مستند من حديث أو آية أو أثر صحابي .
2ـ ولو كان أصله مشروعا كأن يكون المحدَث مجرد زيادة أو نقصان على ما هو مشروع
3ـ فتحصل المشابهة والمضاهاة للتشريع باعتبار أن تلك الزيادة من شأن الشارع في أشباهها من العبادات
4ـ كتحديدات مكانية أو زمانية أو وصفية يداوَم عليها ونحوها من التحديدات فكل العبادات لم تأت مجردة من تحديد إما صفة وهو أعمها وإما بأكثر من ذلك فإحداث تحديدات محدثة هي مشابهة لتحديدات الشارع
5ـ وبدافع الإكثار من التعبد غالبا وربما من باب النشاط الطارئ أحيانا ولو مع إقلال
6ـ ولو لم يظهر منها معارضة للشرع سوى أنها محدثة
7ـ ولو كان الدافع شبهة لا عنادا .
8ـ وكلها مذموم ليس فيها ما يمدح

وهذه النقاط توضح ما دل عليه مجموع تلك التعريفات وكل ما سيأتي إنما هو إيضاح لها .

ولا أعرف عالما معتبرا خالف في حد البدعة هذا سوى على سبيل الشذوذ ، وإنما قد تجد من بعض المتأخرين المخالفة في بعض التطبيقات
وستأتي جملة وافرة من التطبيقات عن السلف والأئمة من بعدهم تُجلي لك تماما أن البدعة بالمعنى الذي اجتمعت عليه تلك التعريفات هو المتفق عليه عندهم ، وهو الذي لا يصح سواه عن السلف .

والعلماء الذين نقلنا تعريفاتهم ، فمنهم من تأثر ببعض ذلك كالسخاوي وهو متأخر جدا وأما السيوطي فأقلهم خطأ ولكن تجد لهم تطبيقات صحيحة كثيرة لا تجدها لدى مروجي البدع في زماننا
مما يدل على أن معنى البدعة بذلك الانفتاح والانفلات لا يتصل بطرائق حتى المتأخرين من أهل العلم إلا شذوذا
كالقول بأنه يسوغ إقامة المحدثات ما لم تصادم أصول الشرع فهذا والله ضلال مبين
ولذلك لا تجد من الأئمة المحققين ولو من المتأخرين من يقول بهذا سوى على سبيل الشذوذ لو وجد .
وستأتي جملة وافرة من التطبيقات عن السلف والأئمة من بعدهم تُجلي لك تماما أن البدعة بالمعنى الذي اجتمعت عليه تلك التعريفات هو المتفق عليه عندهم ، وهو الذي لا يصح سواه عن السلف ، لكن اخترت لك الآن بعضا منها مما يبرز جانبا مهما من معناها لطالما أنكره الأستاذ وهو اعتبارهم سبب الحكم بالبدعة وتعليلهم بأنه لأجل عدم وروده عن النبي وصحابته أو السلف وحدوثه بعدهم وهو معنى لا يحتاج إلى الاستدلال ولكن الأستاذ اضطرنا إليه

ـ فمما جاء عنهم في هذا :

عن مالك : سئل عن القراءة بالمسجد [ يعني مخصصة بعقب الصلوات ] فقال :
لم يكن بالأمر القديم وإنما هو شيء أحدث ولم يأت آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها والقرآن حسن
قال ابن رشد : يريد التزام القراءة في المسجد بإثر صلاة من الصلوات على وجه ما مخصوص حتى يصير ذلك كله كما بجامع قرطبة إثر صلاة الصبح ( قال ) : فرأى ذلك بدعة.

قال ابن وضاح في البدع والنهي عنها :
نا محمد بن عمرو ، عن مصعب قال : سئل سفيان عن رجل يكثر قراءة قل هو الله أحد ، لا يقرأ غيرها كما يقرأها ، فكرهه ، وقال : « إنما أنتم متبعون ، فاتبعوا الأولين ، ولم يبلغنا عنهم نحو هذا ، وإنما نزل القرآن ليقرأ ولا يخص شيء دون شيء »

وعن إحداث كيفية في الركوع مخالفة للسنة
قال عبد الرزاق عن ابن جريج قال قال إنسان لعطاء : إني أرى أناسا إذا ركعوا خفضوا رؤوسهم ، حتى كانوا يجعلون أذقانهم بين رجلهم ، فقال : لا ، هذه بدعة ، لم يكن من مضى يصنعون ذلك
وفي الفروع عَنْ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : سَأَلْت أَحْمَدَ [ بن حنبل ] عَنْ الرَّجُلِ يَقُولُ بَيْنَ التَّرَاوِيحِ : الصَّلَاةَ قَالَ لَا يَقُولُ الصَّلَاةَ ، كَرِهَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، إنَّمَا كَرِهَهُ لِأَنَّهُ مُحْدِثٌ

وفي أسنى المطالب :
" قَالَ [ العز ] ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْقِيَامُ لِلْمُصْحَفِ بِدْعَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ "

وفي المجموع للنووي :
" وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه وآخرون يلتفت إليه في حال انصرافه كالمتحزن عليه * وقال جماعة من أصحابنا يخرج ماشيا تلقاء وجهه ويولي الكعبة ظهره ولا يمشي قهقرة أي كما يفعله كثير من الناس قالوا بل المشي قهقري مكروه لانه بدعة ليس فيه سنة مروية ولا أثر لبعض الصحابة فهو محدث لا أصل له فلا يفعل ا.هـ
قال الإمام ابن رجب :
" وفي هذه الأزمان التي بَعُدَ العهد فيها بعُلوم السلف يتعيَّن ضبطُ ما نُقِلَ عنهم مِنْ ذلك كلِّه ، ليتميَّزَ به ما كان من العلم موجوداً في زمانهم ، وما حدث من ذلك بعدَهم ، فيُعْلَم بذلك السنةُ من البدعة ا.هـ
وقال في البحر الرائق :
" وَظَاهِرُ مَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ اخْتِيَارُ أَنَّهُ بِدْعَةٌ فَإِنَّهُ قَالَ :
قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ : لَمْ يَثْبُتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ أُصَلِّي كَذَا وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بَلْ الْمَنْقُولُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ كَبَّرَ وَهَذِهِ بِدْعَةٌ .

وَسُئِلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ عَنْ الرَّجُل يَذْكُرُ فَيَقُولُ : اللَّهُ اللَّهُ وَيَقْتَصِرُ عَلَى ذَلِكَ هَلْ هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِمَثَابَتِهِ فَهَلْ هُوَ بِدْعَةٌ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ أَمْ لَا ؟ فَأَجَابَ هَذِهِ بِدْعَةٌ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ الْجَهَلَةُ ، وَالذِّكْرُ الْمَشْرُوعُ كُلُّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً أَوْ اسْمِيَّةً وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَذْكَارِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي اتِّبَاعِ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ دُونَ الْأَغْبِيَاءِ مِنْ الْجَاهِلِينَ انْتَهَى .



والأمثلة على هذا يعسر حصرها والله كلها تدل على أن السلف يعللون تبديعهم للأعمال ويُرجعون سبب حكمهم بالبدعة لكونها محدثة لم تكن على عهد رسول الله ولا صحابته
ولكون هذه الأمثلة لا تحصر فإني أعتبر تشنيع الأستاذ في هذا على مخالفه ودعواه أن هذا لا يوجد هو استخفاف بالقناة التي جعلها منبرا للخلط بل واستخاف بالشرع قبل ذلك واستخفاف بالمسلمين كافة

ـ ومما يجلّي مفهوم البدعة عند السلف أيضا أنهم حتى فيما ثبت عن النبي من عمله أو اختلفوا في ثبوته عن النبي نجدهم يحكمون ببدعيته بمجرد عدم علمهم بأنه ثابت ، أو ترجيحهم عدم ثبوته .
وهذا يدل بجلاء على أنه حتى ما كان لا ينافي أصول الشرع فإنهم يعتبرونه بدعة ما دام أنه حسب علمهم محدث .
ولو كانوا يراعون ما جاءت به النصوص العامة وما لا يصادم أصول الشرع كما زعم المخالف لما حكموا بالبدعة على تلك الأعمال لمجرد عدم علمهم بالنصوص الخاصة مع أنها جاءت بها النصوص العامة وهذا يبطل مزاعم المخالفين .
وأكتفي بمثال واحد من بين أمثلة كثيرة تركتها خشية الإطالة .

فعن عائشة وبعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن أمرن بجنازة سعد بن مالك رضي الله عنه أن يُمَر بها عليهن ، فمُر به في المسجد فجعل يوقف على الحجر فيصلين عليه
ثم بلغ عائشة رضي الله عنها أن بعض الناس عاب ذلك وقال هذه بدعة ما كانت الجنازة تدخل المسجد
فقالت : ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لاعلم لهم به عابوا علينا أن دعونا بجنازة سعد تدخل المسجد وما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل ابن بيضاء إلا في جوف المسجد

فهل كانت صلاة الجنازة في المسجد تصادم أصول الشرع حتى حكم أولئك ببدعيتها أو إنكارها ؟



4ـ إنكاره للبدعة الإضافية
أنكر الأستاذ وجود ما يسمى بالبدعة الإضافية والتي تصدق على أكثر الأمثلة في هذا الباب ، بل هي المقصودة بكل ما سبق وسيأتي ، وهذه نتيجة حتمية لما طرحه من مفهوم للبدعة مخالف لما كان عليه السلف بل لما كان عليه عامة أهل العلم المحققين ، وبيانه كالتالي
البدعة الاضافية هي ما كان أصله مشروعا كالاعتكاف بصورته الشرعية ، ولكن على وجه محدث كأن يكون في غير المسجد
فسيأتي عن ابن عباس حكمه عليه بالبدعة لأن المكان محدث لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في غير المسجد يعني الاعتكاف المخصوص في السنة
فمع أن الاعتكاف عبادة لكن فعله على وجه محدث صيره بدعة وهذه هي البدعة الاضافية .
والإضافة في كونها : من جانب هي عبادة ، ومن جانب هي محدثة
فهي بدعة نسبية أو إضافية
وهكذا كل عبادة تُحدَّد وتُخصَّص بغير دليل شرعي سواء بوقت أو عدد أو سبب أوكيفية ( صفة ) أو مكان
فالصيام عبادة عظيمة لكن من كان يخص شهر ربيع الأول بالصيام فيكون قد أحدث وابتدع لأن النبي لم يكن يخص ربيعا الأول بالصيام
فمِن جانبِ أصلِ العمل هو عبادة ومن جانب تخصيص ربيع الأول هو محدث وبدعة فيكون الحكم على مجموع العمل بأنه محدث
وهكذا
قال الشاطبي رحمه الله :
" ومن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقية أن يكون أصل العبادة مشروعا إلا أنها تخرج عن أصل شرعيتها بغير دليل توهما أنها باقية على أصلها تحت مقتضى الدليل وذلك بأن يقيد إطلاقها بالرأي أو يطلق تقييدها وبالجملة فتخرج عن حدها الذي حد لها ..
فإذا خص منه يوما من الجمعة بعينه أو أياما من الشهر بأعيانها ـ لا من جهة ما عينه الشارع ـ فإن ذلك ظاهر بأنه من جهة اختيار المكلف كيوم الأربعاء مثلا أو الجمعة والسابع والثامن في الشهر وما أشبه ذلك بحيث لا يقصد بذلك وجها بعينه مما لا ينثني عنه فإذا قيل له : لم خصصت تلك الأيام دون غيرها ؟ لم يكن له بذلك حجة غير التصميم أو يقول : إن الشيخ الفلاني مات فيه أو ما أشبه ذلك فلا شك أنه رأي محض بغير دليل ضاهى به تخصيص الشارع أياما بأعيانها دون غيرها فصار التخصيص من المكلف بدعة إذ هي تشريع بغير مستند
ومن ذلك تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات التي لم تشرع لها تخصيصا كتخصيص اليوم بكذا وكذا من الركعات أو بصدقة كذا وكذا أو الليلة الفلانية بقيام كذا وكذا ركعة أو بختم القرآن فيها أو ما أشبه ذلك فإن ذلك التخصيص والعمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق أو بقصد يقصد مثله أهل العقل والفراغ والنشاط كان تشريعا زائدا " ا.هـ
فالتخصيص الغير مقصود كمن لا يجد وقتا لعبادة ما إلا في وقت خاص لظروف شغل أو نحوه فلا يدخل في البدعة ، لأنه لم يقصد وكذا من خطر له في وقت من الأوقات أن يتقرب إلى الله بعبادة من العبادات ثم كررها في نفس الوقت ، ولو مرارا دون تقصّد ولا تحري فلا يدخل في البدعة خلافا لما ألصقه الأستاذ بمخالفيه تشويها وتشنيعا .

ثم قال الشاطبي :
" ومن ذلك أيضا جميع ما تقدم في فضل السنة التي يكون العمل بها ذريعة إلى البدعة من حيث إنها عمل بها ولم يعمل بها سلف هذه الأمة
ومنه تكرار السورة الواحدة في التلاوة أو في الركعة الواحدة فإن التلاوة لم تشرع على ذلك الوجه ولا أن يخص من القرآن شيئا دون شيء لا في صلاة ولا في غيرها ـ فصار المخصص لها عاملا برأيه في التعبد لله
وخرج ابن وضاح عن مصعب قال : سئل سفيان عن رجل يكثر قراءة : { قل هو الله أحد } لا يقرا غيرها كما يقرؤها فكرهه وقال : إنما أنتم متبعون فاتبعوا الأولين ولم يبلغنا عنهم نحو هذا وإنما أنزل القرآن ليقرأ ولا يخص شيء دون شيء
وخرج أيضا ـ وه في العتبية من سماع ابن القاسم ـ عن مالك رحمه الله أنه سئل على قراءة { قل هو الله أحد } مرارا في الركعة الواحدة فكره ذلك وقال : هذا من محدثات الأمور التي أحدثوا" ا.هـ

ومما أجاب به عما يروجه بعضهم من تسويغ للبدع التي من هذا النوع بحجة أنها مشروعة في أصلها مبينا أن الحكم إنما يبنى على مجموع العمل بما فيه من قيد محدث فيكون العمل محدثا بالمآل
قال الصيرفي الماهر الإمام الشاطبي رحمه الله :
" فإذا كانت الصفة الزائدة على المشروع على هذه النسبة صار المجموع منهما غير مشروع فارتفع اعتبار المشروع الأصلي
ومن أمثلة ذلك أيضا قراءة القرآن بالإدارة على صوت واحد فإن تلك الهيئة زائدة على مشروعية القراءة وكذلك الجهر الذي اعتاده أرباب الزوايا ..
واعلموا أنه حيث قلنا : إن العمل الزائد على المشروع يصير وصفا لها أو كالوصف فإنما يعتبر بأحد أمور ثلاثة : إما القصد وإما بالعادة وإما بالشرع أو النقصان
أما بالعادة فكالجهر والاجتماع في الذكر المشهور بين متصوفة الزمان فإن بينه وبين الذكر المشروع بونا بعيدا إذ هما كالمتضادين عادة وكالذي حكى ابن وضاح عن الأعمش عن بعض أصحابه قال : مر عبد الله برجل يقص في المسجد على أصحابه وهو يقول : سبحوا عشرا وهللوا عشرا : فقال عبد الله : إنكم لأهدى من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم أو أضل بل هذه ( يعني أضل ) وفي رواية عنه أن رجلا كان يجمع الناس فيقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة سبحان الله ـ قال ـ فيقول القوم ويقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة الحمد لله ـ قال ـ فيقول القوم ـ قال ـ فمر بهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال لهم : هديتم لما لم يهد نبيكم ! وإنكم لتمسكون بذنب ضلالة
وذكر له أن ناسا بالكوفة يسبحون بالحصى في المسجد فأتاهم وقد كوم كل رجل منهم بين يديه كوما من حصى ـ قال ـ فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد ويقول : لقد أحدثتم بدعة وظلما وقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم علما ؟ فهذه أمور أخرجت الذكر المشروع كالذي تقدم من النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة أوالصلوات المفروضة إذا صليت قبل أوقاتها فإنا قد فهمنا من الشرع القصد إلى النهي عنها والمنهي عنه لا يكون متعبدا به وكذلك صيام يوم العيد ...
وعن يونس بن عبيد أن رجلا قال للـ حسن : يا أبا سعيد ! ما ترى في مجلسنا هذا ؟ قوم من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد نجتمع في بيت هذا يوما وفي بيت هذا يوما فنقرأ كتاب الله وندعو لأنفسنا ولعامة المسلمين ؟ قال : فنهى الحسن عن ذلك أشد النهي والنقل في هذا المعنى كثير
حكى ابن وضاح عن عبد الرحمن أبي بكرة قال : كنت جالسا عند الأسود بن سريع وكان مجلسه في مؤخر المسجد الجامع فافتتح سورة بني إسرائيل حتى بلغ : ( وكبره تكبيرا ) فرفع أصواتهم الذين كانوا حوله جلوسا فجاء مجالد بن مسعود متوكئا على عصاه فلما رآه القوم قالوا : مرحبا اجلس قال : ما كنت لأجلس إليكم وإن كان مجلسكم حسنا ولكنكم صنعتم قبلي شيئا أنكره المسلمون فإياكم وما أنكر المسلمون فتحسينه المجلس كان لقراءة القرآن وأما رفع الصوت فكان خارجا عن ذلك فلم ينضم إلى العمل الحسن حتى إذا انضم إليه صار المجموع غير مشروع
ويشبه هذا ما في سماع ابن القاسم عن مالك في القوم يجتمعون جميعا فيقرؤون في السورة الواحدة مثل ما يفعل أهل الإسكندرية فكره ذلك وأنكر أن يكون من عمل الناس
وسئل ابن القاسم أيضا عن نحو ذلك فحكى الكراهية عن مالك ونهى عنها ورآها بدعة " ا.هـ

قال العلامة أبو شامة :
" ولا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع بل يكون جميع أفعال البر مرسلة في جميع الأزمان ليس لبعضها على بعض فضل إلا ما فضله الشرع وخصه بنوع من العبادة فان كان ذلك اختص بتلك الفضيلة تلك العبادة دون غيرها كصوم يوم عرفة وعاشوراء ... ومن الأزمان ما جعله الشرع مفضلا فيه جميع أعمال البر كعشر ذي الحجة وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر أي العمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر فمثل ذلك يكون أي عمل من اعمال البر حصل فيها كان له الفضل على نظيره في زمن آخر
فالحاصل أن الملكف ليس له منصب التخصيص بل ذلك الى الشارع وهذه كانت صفة عبادة رسول الله قال الحافظ البيهقي في السنن الكبير باب من كره ان يتخذ الرجل صوم شهر يكمله من بين الشهور أو صوم يوم من الأيام وساق فيه من الصحيحين حديث أبي سلمة عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت كان رسول الله يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وحديث علقمة قال قلت لعائشة رضى الله عنها هل كان رسول الله صلع يخص من الأيام شيئا قالت لا كان عمله ديمة
قال الأمام الشافعي وأكره ان يتخذ الرجل صوم شهر يكمله كما يكمل رمضان وكذلك يوم من بين الأيام قال وإنما كرهته ليتأسى رجل جاهل فيظن ان ذلك واجب أو فعل حسن
وذكر الشيخ أبو الخطاب في كتاب أداء ما وجب من بيان وضع الوضاعين في رجب عن المؤتمن بن أحمد الساجي الحافظ قال كان الإمام عبد الله الأنصاري شيخ خراسان لا يصوم رجب وينهي عن ذلك ويقول ما صح في فضل رجب ولا في صيامة عن رسول الله شيء وقد رويت كراهة صومه عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر وعمر رضى الله عنهما وكان عمر يضرب بالدرة صوامه
قال وسئل سفيان الثوري رحمه الله تعالى عمن يقرأ قل هو الله أحد لا يقرأ غيرها يكررها فكرهه وقال إنما أنزل القرآن ليقرأ ولا يخص شيء دون شيء وإنما انتم متبعون ولم يبلغنا عنهم مثل هذا قال محمد بن مسلمة ولا يؤتى شيء من المساجد يعتتقد فيه الفضل بعد المساجد الثلاثة إلا مسجد قباء قال وكره أن يعد له يوما بعينه فيؤتى فيه خوفا من البدعة وأن يطول بالناس زمان فيجعل ذلك عيدا يعتمد أو فريضه تؤخذ ولا بأس أن يؤتى كل حين ما لم تجيء فيه بدعة

وقال
وقرأت في كتاب شرح الجامع للزعفراني الحنفي فصلا حسنا أعجبني إثباته ههنا قال وكان يكره ان يتخذ شيئا من القرآن حتما يوقت لشيء من الصلاة وكره أن تتخذ السجدة وهل أتى على الإنسان لصلاة الفجر يقرآن كل جمعة "
ثم قال :
" وإنما كره الملازمة في قراءة السورة فأما أحيانا فمستحب لأن الحديث قد صح أن النبي صلع قرأهما في صلاة الفجر ولكن فعل ذلك لا يدل على اللزوم ا.هـ

وَقَالَ ابن الحاج فِي الْمَدْخَلِ مشيرا للبدعة الإضافية :
"وَيَنْهَى الْإِمَامُ الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّسْبِيحِ بِاللَّيْلِ ، وَإِنْ كَانَ ذِكْرَ اللَّهِ حَسَنًا سِرًّا وَعَلَنًا لَكِنْ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّارِعُ وَلَمْ يُعَيِّنْ فِيهَا شَيْئًا مَعْلُومًا "

وقال الإمام القرافي في هذا الشأن أيضا :
"... بِدَعٌ مَكْرُوهَةٌ ، وَهِيَ مَا تَنَاوَلَتْهُ أَدِلَّةُ الْكَرَاهَةِ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدُهَا كَتَخْصِيصِ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ أَوْ غَيْرِهَا بِنَوْعٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَمِنْ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ تَخْصِيصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ أَوْ لَيْلَتِهِ } بِقِيَامٍ ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ الْمَحْدُودَاتِ كَمَا وَرَدَ فِي التَّسْبِيحِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ فَيُفْعَلُ مِائَةٌ وَوَرَدَ صَاعٌ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ فَيُجْعَلُ عَشَرَةُ آصُعٍ بِسَبَبِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا إظْهَارُ الِاسْتِظْهَارِ عَلَى الشَّارِعِ ، وَقِلَّةُ أَدَبٍ مَعَهُ بَلْ شَأْنُ الْعُظَمَاءِ إذَا حَدَّدُوا شَيْئًا وُقِفَ عِنْدَهُ ، وَالْخُرُوجُ عَنْهُ قِلَّةُ أَدَبٍ وَالزِّيَادَةُ فِي الْوَاجِبِ أَوْ عَلَيْهِ أَشَدُّ فِي الْمَنْعِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْأَصْلُ ، وَالْمَزِيدُ عَلَيْهِ " ا.هـ
واشتهر نقله في كثير من كتب الأئمة المالكية

وقال الحافظ ابن حجر مستدركا على النووي وعلى العز بن عبد السلام :
" قَالَ النَّوَوِيّ : وَأَمَّا تَخْصِيص الْمُصَافَحَة بِمَا بَعْد صَلَاتَيْ الصُّبْح وَالْعَصْر فَقَدْ مَثَّلَ اِبْن عَبْد السَّلَام فِي " الْقَوَاعِد " الْبِدْعَة الْمُبَاحَة مِنْهَا . قَالَ النَّوَوِيّ : وَأَصْل الْمُصَافَحَة سُنَّة ، وَكَوْنهمْ حَافَظُوا عَلَيْهَا فِي بَعْض الْأَحْوَال لَا يُخْرِج ذَلِكَ عَنْ أَصْل السُّنَّة .
قُلْت : لِلنَّظَرِ فِيهِ مَجَال ، فَإِنَّ أَصْل صَلَاة النَّافِلَة سُنَّة مُرَغَّب فِيهَا وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدَ كَرِهَ الْمُحَقِّقُونَ تَخْصِيص وَقْت بِهَا دُون وَقْت ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ تَحْرِيم مِثْل ذَلِكَ كَصَلَاةِ الرَّغَائِب الَّتِي لَا أَصْل لَهَا " ا.هـ
مع أن العز قرر كما سبق في الفتاوى بدعية المصافحة

وقال صاحب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي في توضيح البدعة

" وَكَذَا الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ دُبُرَ الصَّلَوَاتِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لِلْعَبْدِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ التَّكْبِيرِ بَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِكَوْنِهِ بِدْعَةً ..
وَمَا كَانَ سُنَّةً فِي وَقْتِهِ كَانَ بِدْعَةً فِي غَيْرِ وَقْتِهِ فَلَا يقضى .

الأدلة على منع البدع ولو كانت إضافية :

جل ما سبق بل كله وما سيأتي في التطبيقات دال على المنع من البدع الإضافية بجلاء بل هذا الرد بكامله في هذه الناحية
ومن الأدلة ما رواه أنس رضي الله عنه في الثلاثة رهط الذين استقلّوا عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم:
" أما أنا أصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا اصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " أنتم قلتم كذا وكذا أما والله وإني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفكر ,اصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني "

فالإكثار من الصلاة والصوم جاءت النصوص العامة تحث عليه وكذا التفرغ من ملاذ الدنيا والإقبال على الطاعة للتكثر من العبادات ولكن كل هذا لما كان مخالفا لما كان عليه عمله صلى الله عليه وسلم كان العمل بتلك النصوص العامة بدعة ضلالة
وترك الزواج مباح في قول جماهير أهل العلم لاستحبابه في الأصل عندهم ، والسعي للتفرغ للعبادة والطاعة أمر مطلوب شرعا دلت عليه كثير من النصوص العامة ، ولكن لما كان في مجموع هذا مخالفة للسنة ، وكان ترك الأول إنما كان سببا لتحقيق الثاني وهذا من المبالغة كان العمل بتلك النصوص العامة بدعة فأين ما يشترطه المخالف من مخالفة النصوص ؟
وتأمل كيف كان هذا النوع من العبادة المأمور بها يحمل في حقيقته رغبة عن السنة ومخالفة للسنة وإعراضا عن السنة بينما ظاهره إقبال ومنه تعلم أن العبادة إن لم تكن على السنة فهي ضلال

ويدل على أن فعل العبادة ( المشروعة من حيث أصلها ) يكون بدعة إذا أضيف إليه قيد محدث من تخصيص لمكان أو نحوه وأن هذا كان ممنوعا وأن المنع أصل ثابت ، الذي يدل على هذا ما جاء عَنْ أَنَسٍ قَالَ
قَالَ عُمَرُ :
وَافَقْتُ رَبِّى فِى ثَلاَثٍ ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) ...
رواه البخاري
و عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، سمع جابرا ، يحدث عن حجة النبي ، صلى الله عليه وسلم قال : لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر : هذا مقام أبينا إبراهيم ؟ قال : « نعم » قال : أفلا تتخذه مصلى ؟ ، فأنزل الله تعالى : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى

فعمر رضي الله عنه لم يجرؤ على اتخاذ المكان خلف المقام مصلى يخصه بالصلاة حتى جاء واستأذن النبي ص في ذلك ولم يجبه النبي ص حتى نزل الوحي .
فكيف يقال إن هذا التخصيص الذي خطر في بال عمر هو مستحب من الأصل ولا يحتاج إلى دليل خاص لعموم الأدلة التي تحث على الإكثار من السجود ؟
إذًا لماذا جاء يستأذن النبي ولماذا انتظر النبي الوحي ؟
ما ذاك إلا لأنه ممنوع في الأصل والحديث ظاهر في ذلك

وقد تنوعت النصوص للدلالة على أن مجرد كون العمل عبادة لا يعني أنه يكون عبادة دائما ، بل متى ما أضيف إليه قيد مخالف للسنة فإنه يفقد شرعيته ، لأن الحكم إنما على مجموع العمل بما اتصل به من قيد ،
فقراءة القرآن من أعظم القربات إلى الله ، ولكن في حال الركوع تكون القراءة منهيا عنها بسبب هذا القيد ، ولا يقال القرآن في نفسه منهي عنه وإنما النهي بما دخله من قيد الركوع أو السجود كما جاء النص بذلك ، ولا يقال أيضا كيف تكون قراءة القرآن حراما ، فهذا اعتراض خاطئ لأن الذي نقل لنا القرآن هو الذي قال بحرمته أو كراهته في هذه الحال
وأيضا الصلاة أعظم أعمال الإسلام لكن إن أديت قبل الغروب أو حال الشروق كانت منهيا عنها لقيد الوقت ليس إلا وهذا منصوص عليه
أيضا إذا خصت ليلة الجمعة بالصلاة أصبحت منهيا عنها لهذا القيد لا بالنظر إلا أصلها
أيضا غسل أعضاء الوضوء بالماء رفعا للحدث هو من أطهر الطاعات لكن إن تجاوز العدد المسنون أصبح منهيا عنه لا باعتبار أصله وإنما لهذا القيد وهو الزيادة على العدد المشروع وفي هذا جاء النهي
أيضا الصوم من أفضل القربات وجنة للعباد ، لكن فعله يوم العيد أو يوم الشك على وجه الاحتياط هو منهي عنه ، لا باعتبار أصله ولكن لقيد الزمان وفيه جاءت النصوص
وهكذا كل العبادات التي نهى الشارع عنها باعتبار ما يطرأ عليها من قيود لا باعتبار أصلها .
فلا يقال كيف تكون الصلاة التي أمر الله بها حراما أو كيف يكون الصيام أو قراءة القرآن ونحوها من الطاعات كيف تكون هذه العبادات محرمة ؟
فهذا كلام من لم يَعِ هذا الباب ، وكلام من يردّ الدليل الظاهر بغير دليل .
ومن ذلك ما يطرأ من قيود نهى الشارع عنها بالعموم بحيث كلما اتصلت بعبادة أخرجتها عن أصلها من كونها مشروعة إلى كونها إما محرمة أو مكروهة .
كفعلها رياء ، أو فعلها في ظرف يصرف صاحبها عن استشعار شيء من معانيها من شدة انهماك بغرض يحول بين العبد وبين استحضار قلبه كلية حتى يكون أشبه بالذي يدافع الأخبثين ونحو هذا من أحوال
أو فعلها على وجه يجر إلى منكر أشد من مجرد ترك العبادة في ذلك الظرف
إلى غير هذه القيود التي نهى الشارع عنها بالعموم ومع هذا فقيام قيد منها بالعبادة يصيرها ممنوعة خلافا للأصل
وهنا نقول وكذلك كل قيد محدث من تخصيص مكان لم يخصه الشارع ، أو زمان أو عدد أو هيئة لأي عبادة ، فإن هذا القيد المحدث يُصيّر تلك العبادة ممنوعة ، للنصوص التي حرمت الإحداث والابتداع بالعموم .
وبعد هذا فلا ينبغي أن نستشكل تحريم العلماء للدعاء جماعة دبر كل صلاة ولا نقول كيف يكون الدعاء الذي أمر الله به محرما ؟
وإنما نفهم أن العلماء لم يحرموه لأنه دعاء ، ولكن للقيد المحدث الذي هو مخالف للسنة ، فالاجتماع في وقت لم يخصه الشارع هو من المحدثات التي نهى عنها الشارع
وعليه فتحريم العبادة لأجل وقت محدث أو مكان محدث أو عدد محدث هو أمر تشهد له عشرات النصوص ولا ينكره إلا من لم يعرف تلك النصوص ومقصد الشارع منها
فلماذا لم يستشكل هذا المعترض تحريم النبي ص للصيام في اليوم الذي يلي يوم التاسع والعشرين من شوال ولم يستشكل النهي عن قيام ليلة الجمعة تخصيصا مع أن الصوم والصلاة مأمور بهما في النصوص العامة
فلا شك للأدلة الواردة في النهي
ونحن نقول أيضا الدعاء بعد كل صلاة جماعة والأذان يوم العيد وغيرها من المحدثات ينبغي ألا نستشكل النهي عنها فقد نهت الأدلة عنها عندما نهت عن كل محدث ويكفي أن السلف والعلماء أجمعوا على إنكار كثير من العبادات الثابتة بالنصوص العامة لأجل ما أضيف إليها من محدثات ، كإنكارهم الأذان يوم العيد والاجتماع على الذكر بصورة جماعية مرتبة مداومة وكالمداومة على صلاة النافلة جماعة ، وكذكر الله بالألحان المطربة وغيرها كثير جدا
وحتى تتيقن أخي الكريم فإني أرفقت هذا الرد بأكثر من مائة وخمسة عشر نقلا أكثرها عن السلف وبعضها عن الأئمة من بعدهم ، كلها تقرر المنع من البدعة الاضافية لعشرات المسائل بلغت أكثر من خمس وخمسين مسألة ورتبتها حسب الحدث المضاف وجلها صحيح من حيث الرواية ، ولم أعتمد في مسألة على أثر ضعيف فإنه إذا كان ضعيفا أذكره استئناسا وهو مع هذا قليل .

ولكن قبل إيراد هذه التطبيقات السنية والتي سأرجئ نقلها إلى آخر الرد أذكر بعض الآثار والأقوال عن السلف التي تظهر حجم البدع في العبادات عندهم وتبين شدة نكارتها لديهم ، وتجلّي أن التهوين من البدع الإضافية ذات الإحداث في العبادات التي أصلها مشروع هو تهوين مناف لمذهب الصحابة والسلف الذين يصنفون الابتداع من هذا النوع من أخطر الأعمال ويشددون على من يقع فيه .
فبالله عليك أخي القارئ تأمل هذه الآثار التي سأنقلها هنا عن السلف الصالح وبالله عليك انظر ما اشتملت عليه من تغليظ وتشديد في الانكار وزجر ، بل وتعزير وفي نفس الموضوع الذي نتكلم عليه( بدع العبادات ) كرفع اليدين على المنبر والجهر بالبسملة وكالتعريف يوم عرفة وكالتثويب للصلاة في غير الوارد وكأذان الجمعة الأول وكالاعتكاف في غير المسجد وكرفع الصوت مبالغة بالذكر .

روى وكيع في ((كتابه )) عن هشام بن الغاز ، قال : سألت نافعاً عن الأذان يوم الجمعة ؟ فقالَ : قالَ ابن عمر : بدعةٌ ، وكل بدعة ضلالة ، وإن رآه الناس حسَناً .
يعني الأذان الأول
وهذا إسناد صحيح
وقال الحافظ ابن رجب في الفتح :
" وقد روي عن ابن عباس ، أنه سئل عن اعتكاف المرأة في مسجد بيتها ؟ فقال : بدعة ، وأبغض الأعمال إلى الله البدع ، لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة "
وفي الفروع لابن مفلح
" لِمَا رَوَاهُ حَرْبٌ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ جَعَلَتْ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ نَفْسِهَا فِي بَيْتِهَا ، فَقَالَ : بِدْعَةٌ ، وَأَبْغَضُ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ الْبِدَعُ ، فَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدٍ "
وعَن ابن عَبْد الله بْن مغفل ، قَالَ :
سمعني أَبِي وأنا فِي الصلاة أقول : " بسم الله الرحمن الرحيم " .
فَقَالَ : أي بني ، محدث ، إياك والحدث . قَالَ : ولم أرأحداً من أصْحَاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ أبغض إليه الحدث فِي الإسلام - يعني : مِنْهُ - قَالَ : وقد صليت مَعَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ، ومع أَبِي بَكْر ومع عُمَر ومع عُثْمَان ، فَلَمْ أسمع أحداً منهم يقولها ، إذا أنت صليت فقل : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
وقرر حسنه ابن رجب في الفتح له كما يدل عليه سياق كلامه بشكل واضح
عن عبد الله بن أبي الهذيل العنزي قال :
كنا جلوسا مع عبد الله بن خباب بن الأرت وهو يقول : سبحوا كذا وكذا ، واحمدوا كذا وكذا ، وكبروا كذا وكذا . قال : فمر خباب فنظر إليه ثم أرسل إليه فدعاه ، فأخذ السوط فجعل يضرب رأسه به وهو يقول : يا أبتاه ، فيم تضربني ؟ فقال : مع العمالقة ، هذا قرن الشيطان قد طلع ، أو قد بزغ

عن سعيد بن السيب أنه رأى رجلا يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين يكثر فيها الركوع والسجود فنهاه فقال يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة قال لا ولكن يعذبك على خلاف السنة

وذكر أشهب عن مالك أنه قال في حلق الشارب هذه بدع وأرى أن يوجع ضربا من فعله
وروى البيهقي عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي قال ذكر مالك بن أنس إحفاء بعض الناس شواربهم فقال مالك ينبغى أن يضرب من صنع ذلك ثم ذكر أنها بدعة ظهرت
وروى ابن أبي شيبة في رفع اليدين على المنبر فقال
حدثنا ابن نمير وأبو معاوية عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال رفع الإمام يوم الجمعة يديه على المنبر فرفع الناس أيديهم فقال مسروق : قطع الله أيديهم
حدثنا ابن إدريس عن حصين عن عمارة بن رويبة قال رأى بشر بن مروان رافعا يديه على المنبر فقال قبّح اللهُ هاتين اليدين لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيديه هكذا وأشار بأصبعه المسبحة.

وفي أسنى المطالب من كتب الشافعية
قال عن المبالغة في رفع الصوت بالصلاة على النبي في الخطبة
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ .. الرَّفْعُ الْبَلِيغُ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْعَوَامّ فَإِنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ بَلْ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ
قال الشاطبي عن التثويب في غير ما ورد فيه :
" فتأمل كيف منع مالك من إحداث أمر يخفى شأنه عند الناظر فيه ببادىء الرأي وجعله أمراً محدثاً ، وقد قال في التثويب : إنه ضلال ، وهو بين ، لأن :
" كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" ولم يسامح للمؤذن في التنحنح ولا في ضرب الأبواب ، لأن ذلك جدير بأن يتخذ سنة ا.هـ

قال الشاطبي

" وأيضا فمن شنع على المبتدع بلفظ الابتداع فاطلق العبارة بالنسبة إلى المجتمعين يوم عرفة بعد العصر للدعاء في غير عرفة ـ إلى نظائرها ـ فتشنيعه حق " ا.هـ
قال أبو شامة
وروى المالكي في كتاب رياضة النفوس أن يحيى بن عمر الفقيه الأندلسي كان يعبر في القيروان على موضع ناس حاكه فإذا كانت أيام العشرين يرفعون أصواتهم بالتكبير والتهليل فنهاهم فلم ينتهوا وكان شديدا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال فدعا الله عليهم ثم انقرضوا وخربت ديارهم برهة من الزمان

وقال ابن وضاح حدثني عن موسى ، عن ابن مهدي ، عن سفيان ، عن همام بن الحارث التيمي ، قال : « لما قص إبراهيم التيمي أخرجه أبوه من داره وقال : ما هذا الذي أحدثت ؟ »

وَقَالَ رَجُلٌ لِإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيِّ : خَاصَمَنِي رَجُلٌ ، فَقَالَ لِي يَا سِفْلَةُ ، فَقُلْت وَاَللَّهِ مَا أَنَا بِسِفْلَةٍ ، فَقَالَ إبْرَاهِيمُ هَلْ تَمْشِي خَلْفَ النَّاقَةِ وَتَصِيحُ يَا مَعْلُوفُ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَالَ : لَا ، فَقَالَ هَلْ تَصِيحُ " الصَّلَاةَ الْإِقَامَةَ " قَالَ لَا ، قَالَ : لَسْتَ بِسِفْلَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ ا.هـ
يريد لو كنت تفعل هذه البدعة لكنت من السفلة
وأنا أبين مراده الظاهر ولا أحكم من عندي
وفي شرح العمدة لشيخ الإسلام :
" وعن أبي العالية قال كنا مع ابن عمر في سفر ونزلنا بذي المجاز على ماء لبعض العرب فحضرت الصلاة فأذن مؤذن ابن عمر ثم أقام الصلاة فقام رجل فعلا على رحل من رحالات القوم ثم نادى بأعلى صوته الصلاة يا أهل الماء الصلاة فجعل ابن عمر يسبح في صلاته حتى إذا قضت الصلاة قال ابن عمر من الصائح بالصلاة قالوا أبو عامر يا أبا عبد الرحمن فقال له ابن عمر لا صليت ولا تليت أي شيطانك أمرك بهذا أما كان في الله وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم والصالحين ما أغنى عن بدعتك هذه إن الناس لا يحدثون بدعة وان رأوها حسنة إلا أماتوا سنة فقال رجل من القوم إنه ما أراد إلا خيرا يا أبا عبد الرحمن فقال ابن عمر لو أراد خيرا ما رغب بنفسه عن سنة نبيه والصالحين من عباده رواه ابن بطة " ا.هـ
وأختم النقول بكلام لابن رجب عن الذين يضبطون أبواب الشرع بضوابط محدثة ، كما يفعل مروجوا البدع بمفهوم البدعة ، الذين يحرصون على تشويه هذا الباب بآرائهم المحدثة
قال العلامة ابن رجب :
" ومن ذلك أعني محدثات العلوم ما أحدثه فقهاء أهل الرأي من ضوابط وقواعد عقلية وردِّ فروع الفقه إليها. وسواء أخالفت السنن أم وافقتها طرداً لتلك القواعد المقررة وإن كان أصلها مما تأولوه على نصوص الكتاب والسنة لكن بتأويلات يخالفهم غيرهم فيها وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام على من أنكروه من فقهاء أهل الرأي بالحجاز والعراق: وبالغوا في ذمه وإنكاره.
فأما الأئمة وفقهاء أهل الحديث فإنهم يتبعون الحديث الصحيح حيث كان إذا كان معمولا به عند الصحابة " ا.هـ

فهاهم السلف والأئمة من بعدهم وهذا والله غيض من فيض
هاهم يعلنون ألوان النكير على من يفعل هذه البدع التي لا تخرج عن كونها من البدع الإضافية والتي روج لها الأستاذ وعنف على من ينكرها
فمنهم من يرى ضرب الفاعل ومنهم من يطرده ولو كان ابنه ومنهم من يباشر الضرب ومنهم من يدعوا على الفاعل دعاء شديدا ومنهم من يحرض على التبديع والتشنيع في حق من يفعلها ومنهم من يشبّه ظهورها بقرن الشيطان ناهيك عن التقبيح والزجر والأوصاف المنفرة
وهذا كما ذكرت لك غيض من فيض


سابعا : استدل الأستاذ على جواز التخصيص لأي عبادة بأي وقت بحديث بلال بن رباح

عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِبِلاَلٍ عِنْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ « يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِى بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِى الإِسْلاَمِ ، فَإِنِّى سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَىَّ فِى الْجَنَّةِ » . قَالَ مَا عَمِلْتُ عَمَلاً أَرْجَى عِنْدِى أَنِّى لَمْ أَتَطَهَّرْ طُهُورًا فِى سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلاَّ صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِى أَنْ أُصَلِّىَ .

فقال الأستاذ ها هو بلال خصص الصلاة بحال الوضوء ولم ينكر عليه النبي ص وعليه فلا حرج على أي أحد أن يخصص أي عبادة بأي وقت أو مكان
والجواب عليه بسؤاله :
أين في الحديث أن ما فعله بلال كان من عنده ومن تلقاء نفسه وليس عن دليل شرعي سابق ؟
أين ما يدل على أنه محدث من عند بلال ؟
وسؤال النبي ص له لا يوحي بأنه سأله عن شيء جديد غير معمول به عند غير بلال ؟
بل قوله : " أرجى عمل عملته في الإسلام " ظاهر منه السؤال عن جنس العمل الشرعي المعهود المنصوص عليه في الكتاب والسنة مما يعمله بلال والذي يريد النبي أن يعرفه تحديدا من بلال نفسه وما الذي يظنه بلال منها في أنه كان من الأسباب الرئيسية لتقدمه في الجنة من بين جملة الطاعات التي يقدمها بلال والجواب إنما كان عن هذا
فلو قال الأستاذ معترضا بأن بلالا أجابه بما أحدثه من عنده مما لم يسبق أن جاء به النص لكان جوابه هذا مجرد دعوى تخالف أصل الرواية حملا للجواب عن جنس المسؤول عنه
ولجاز لنا أيضا أن ندعي أنه أجابه بما كان يعمله من السنن المنصوص عليها بنصوص خاصة
وأنبه إلى أن الأستاذ حذف شطر الحديث الذي يدل على ما ذكرت وهو قوله :
" يَا بِلاَلُ حَدِّثْنِى بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِى الإِسْلاَمِ " حذفه الأستاذ الداعية إلى الله حتى لا يشوش على استدلاله وأتى بلفظ آخر ونسبه للبخاري وهو قوله :
" بم سبقتني إلى الجنة يا بلال ؟ فقال : يا رسول الله لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلا ..." مثل بقيته .
وهذا سياق ملفق بين لفظ أبي هريرة كما هو الشطر الثاني وبين لفظ بريدة كما هو شطره الأول وليس في البخاري كما نقل الأستاذ والدليل على أن هذا التلفيق لم يكن منقولا وإنما معمولا أنه لا يوجد هكذا في المصادر المسندة فليذكر لنا الأستاذ من أين أتى به هكذا ملفقا ولماذا نسبه للبخاري وهو لا يوجد فيه ؟
وإذا علمنا أن ما فعله بلال من صلاة بعد كل وضوء هو من السنن الثابتة بالنصوص الخاصة وقد وردت فيه روايات مرفوعة تستحبه بطل احتجاج الأستاذ من أصله ، وتأكد ما ذكرته من أن النبي إنما سأله عن العمل الذي يظن بلال أنه سبب ما من الله به عليه من تقدمه في الجنة لا أن النبي إنما سأله عن عمل مجهول من أصله
فروى البخاري ومسلم من حديث عثمان قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِى هَذَا ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ »
وروى أبو نعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة
من طريقين عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن زيد بن خالد الجهني ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من توضأ ثم صلى ركعتين لا سهو فيهما غفر له ما تقدم من ذنبه »
ومن طريق محمد بن أبان ، عن زيد بن أسلم نحوه
وهو جيد بطريقيه
وروى أبو يعلى كما في المطالب العالية والطبراني في الدعاء وغيرهما بإسناد حسن
عن أبي الدرداء رضي الله عنه : قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » من توضأ ثم قام فصلى ركعتين ، أو أربع ركعات مكتوبة أو غير مكتوبة ، أتم فيها الركوع والسجود ، ثم يستغفر الله ، إلا غفر الله له «
وروي من حديث معاوية مرفوعا
فما قام به بلال لم يكن من عنده وليس بمحدث بل عنده فيه دليل إلا أن يقول الأستاذ إن بلالا فعله قبل ورود الأحاديث وأنه هو الذي أحدث هذا التخصيص
فعندها سنقول له : لم يعد الكلام علميا ! فبِوحي عرفتَ هذا أم بإلهام أم برؤيا منام ؟
وسبحان الله حرصُ مخالفنا على الاستدلالات الواهية يجسد لك قدر المعاناة التي يعيشها بسبب ضعف الحجة
مع أنه ولو لم يصح شيء من الأحاديث التي دلت على استحباب السنة الخاصة للصلاة بعد كل وضوء فليس في الحديث دليل للأستاذ لأن عدم علمنا بمستند بلال الخاص لا يعني أنه لا دليل وأنه أحدث ذلك من عنده
وسياق الحديث لا يدل على أن ما فعله بلال كان من عنده دون نص فلا حجة في الحديث ولو لم تصح تلك الروايات فكيف وهي صحيحة مع أن إقرار النبي وحده كاف لمنع القياس لو ثبت فعلا أن ما فعله بلال كان من محض اجتهاده.

ـ أما استدلال الأستاذ بحديث خبيب وصلاته ركعتين قبل أن يُقتل فهو لا يقوم على ساق
أين التخصيص ؟
صراحة هذا كلام من لا يعرف التخصيص ، فالقتل يحصل مرة و لا يتكرر ، وخبيب لم يبين أنه قصد معنى التخصيص ، فمن أين اعتبرناه قد خصص ؟
رجل سيترك الدنيا ماذا سيطلب ؟
جاءت النصوص تحض كل مسلم على أن تكون خاتمته حسنة فنظر خبيب فوجد من أنسب الأعمال التي تناسب وضعه هو صلاة ركعتين فما أظن من المناسب أن يقول لهم اتركوني إلى موسم الحج حتى أحج ثم اقتلوني !!
وعلى فهمك يا أستاذ لو لم يُصلّ خبيب وقرأ قرآنا مثلا لقلت ها قد خصص ! أو تصدق على أحد المستضعفين من مسلمي مكة لقلت قد خصص
وعليه فاتك أن تستدل أيضا بدعائه على الكفار فتقول خصص الدعاء بالقتل !
وأيضا فاتك أن تستدل بعثمان فقد قتل وهو يقرأ القرآن ويعلم أن القوم قاتلوه من خلال ما كان يشاهده من تدهور أمر الحصار وما آل إليه ومن خلال الرؤيا التي رآها يومها فهو أيضا قد خصص
ثم يا أستاذ ! الحجة أين ؟ فيما فعله خبيب ؟ أم فيما قرره النبي ؟
فإقراره صلى الله عليه وسلم هو الذي سن به لكل من حصل له ما حصل لخبيب أن يفعل مثله
قال العلامة القسطلاني في "إرشاد الساري" :
"وإنما صار فعل خبيب سنةً، لأنه فعل ذلك في حياة الشارع - صلى الله عليه وسلم - واستحسنه".
وقال أيضاً:
"وإنما صار ذلك سنةً، لأنه فعل في حياته - صلى الله عليه وسلم - فاستحسنه و أقره".
وقال أيضاً:
"واستُشكل قوله: "أول من سن"، إذ السنة إنما هي أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأحواله، وأجيب بأنه فعلهما في حياته - صلى الله عليه وسلم - واستحسنهما"انته كلام القسطلاني.
قال أبو غدة ( وهو على شرط الأستاذ ) :
" وواضح من حديث أبي هريرة وقصة قتل خبيب فيه : أن لفظ ( السنة) ولفظَ ( سن) معناه: الفعل المشروع المتبوع في الدين، وعلى هذا فلا يصح لمتفقهٍ أن يستدل على سنية صلاة الركعتين عند القتل، بأن الحديث جاء فيه لفظ "سن"، فتكون صلاتهما سنةً مستحبةً، لأن حكم السنية لصلاة ركعتين هنا استفيد من دليلٍ آخر خارج لفظ "سن" بلا ريب وهو إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفعله)
يتبع بالحلقة السادسة والأخيرة