د.أبو القاسم سعد الله

العلم بين العلماء والسلطان



كلمة ألقيتها بمناسبة تدشين (معهد المناهج) بالجزائر العاصمة في اليوم‏المذكور. وبهذه المناسبة تفضل القائمون (ومنهم الدكتور ‏إبراهيم بحاز والدكتور محمد‎ ‎موسى بابا عمي) على المعهد بتكريمي تكريما يعجز القلم عن تسجيله رغم أن القلب سيظل‎ ‎يلهج بشكره.
-------------------------------
أيها الحضور الكريم، اسمحوا لي قبل كل شيئي أن أتقدم بالشكر والامتنان إلى‎ ‎كل من أسهم في هذا التكريم الذي أعتز به وأعتبره ‏تكريما لكل من أرسى لبنة في صرح‎ ‎الثقافة العربية الإسلامية في الجزائر. وبهذه المناسبة أتمنى لمعهد المناهج التقدموالازدهار.‎
‎ ‎نحن في عصر حضارة البحث العلمي والتكنولوجيا، وهو العصر الذي قاد بالضرورة‎ ‎بعض القوى المعاصرة إلى أن تغزو العالم ‏عن طريق العلم والبحث بدل الجيوش الجرارة‎ ‎والشركات الاحتكارية الكبرى. أما حضارتنا فأساسها تعلم العلم والرحلة في طلبه‎ ‎وتعليمه للآخرين لأنه السبيل إلى معرفة الله والسعادة في الدنيا قبل الآخرة،‎ ‎والمتعلم عندنا مجاهد يستحق الثناء الجميل والخلود ‏العظيم.
لقد نوه القرآن الكريم بالعلم والعلماء وبالراسخين في العلم خاصة في أكثر‎ ‎من آية. وأخذ العلماء أنفسهم هذا التنويه مأخذ الجد ‏وبنوا لأنفسهم منه هالة من‎ ‎العظمة ورضوا بحرفة البحث والإنتاج العلمي واستغنوا بذلك عن الحياة السياسية،‎ ‎وتقاسموا السلطة مع ‏السلطان، فهو الذي يسوس الحكم وهم الذين يصوغون له الحكم. ‎يكفيهم أنهم اعتبروا أنفسهم حماة الشريعة أما السلطان فهو حامي ‏الحمى. كما يكفيهم‎ ‎أنهم هم ورثة الأنبياء ومصابيح الظلام إذا ادلهمت الخطوب في وجه الأمة. ومن أجل هذا‎ ‎الشد والجذب بين ‏السلطتين السياسية والعلمية استقل كبار الأئمة الأولين عن السلطة‎ ‎فعانوا الاضطهاد والقهر وحتى الضرب المبرح والسجن والتهديد ‏بالقتل.‎
‎ ‎تلك أمة قد خلت ومرحلة قد انصرمت. ثم حلت مرحلة أخرى مرت بها هذه العلاقة‎ ‎الجدلية بين الحاكم والعالم، بين صاحب ‏السيف وصاحب القلم والفكر (أو بين السياسي‎ ‎والمثقف بلغة اليوم) بعملة شد وجذب آخر: حاول العلماء في هذه المرحلة أن يكونوا‎ ‎أيضا مستقلين عن الحاكم مبتعدين عن بلاطه أسوة بالأولين، ولكن الساحة لم تخل -مع‎ ‎ذلك- من علماء يتقربون إلى الحكام ويزينون ‏لهم أفعالهم. أما المرحلة الثالثة فهي‎ ‎التي فقد فيها العلماء علمهم ففقدوا أيضا استقلالهم عن السلطان واستسلموا لإرادته‎ ‎وأصبحوا لا ‏يصدرون أو يوردون إلا عن إذنه. ‎
وقد عرفت المرحلة الأخيرة بعصر التخلف العلمي، أي حين توقف العلماء عن‏‎ ‎إعمال العقل وتعطلت عجلة الحرية الفكرية وجفت ‏منابع المعرفة وأحيط العالم الإسلاميبسياج من حديد حتى لا تتسرب إليه المخترعات المريبة والأفكار الدخيلة والآراءالملحدة –في ‏نظر علمائنا- التي ظهرت في العالم الغربي. فكان العالم الإسلامي يجهل‎ ‎مدى تقدم أوروبا، وهو يحسب أن العالم كله يعيش كما يعيش ‏المسلمون، أو هو لا يعنيه‎ ‎تقدم غير المسلمين. وقد دام موقف علمائنا بضعة قرون، أي حتى ظهر منهم من ملك‎ ‎الشجاعة والإخلاص ‏‏(مثل الأفغاني والكواكبي) وواجه زملاءه السادرين في كهوف المصالح‎ ‎والأمية العلمية –إذا جاز التعبير- ونادى بضرورة تغيير حال ‏المسلمين لأن التغيير‎ ‎سنة من سنن الحياة وأن القرآن نفسه قد حثنا على التغيير وعلى أن نتعلم من الأصدقاء‎ ‎والأعداء على حد سواء ‏من أجل المحافظة على الدين والدفاع عن كيان الأمة.‎
‎ ‎انفتح إذن باب الحديد هذا قليلا مع الاستعمار الغربي للأقطار الإسلامية، أي‎ ‎منذ نهاية القرن الثامن عشر( الثاني عشر هجري) ‏تقريبا وذلك حين غزا العلم الأوروبي‎ ‎عقل المسلم فكاد يشله عن الحركة، ولكن عيون بعض المسلمين كانت ترى وآذانهم كانت‎ ‎تسمع ‏فاستيقظت الأذهان إما بالمجاورة والاختلاط والحروب وإما بالرحلة في طلب العلم‎ ‎في العواصم الأوروبية. وقد كان ذلك هو ‏مصيرعلماء الهند ومصر وتركيا وإيران ثم‎ ‎الجزائر. ‎
‎ ‎فالجزائر كانت، كأخواتها المسلمات والعربيات، قد عانت من الانغلاق والجمود،‎ ‎ثم من الغزو والاستعمار، فجربت المجاورة ‏واليقظة والحرب، فكان علماؤها على أصناف: ‎صنف تقليدي ربط رزقه ومصيره بالمستعمرين فلم يفد شعبه في شيء، وصنف تعلم ‏من‎ ‎الاستعمار وآمن بالذوبان في الأمة المحتلة، وصنف تعلم تعليما هجينا، تعليما تلقاه‎ ‎غالبا خارج محيطه الجغرافي، فكان به غريبا ‏بفكره ولسانه بين قومه، فعمل على إحداث‎ ‎نهضة على قدر عزيمته. ومن هذا الصنف بعض أعضاء (جمعية العلماء المسلمين‎ ‎الجزائريين). فهؤلاء لم يكونوا من أصحاب الثقافات العالية ولا الشهادات الأكاديمية‎ ‎ولكنهم كانوا يحملون مشروعا فكريا مستنيرا ‏وشعورا وطنيا متدفقا وعزيمة فولاذية.‎
‎ ‎وهنا أذكر أنه في عهد الثورة - وقد اختلطت الأصناف الثلاثة السابقة في‏ (‎اتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين) وغيره من ‏المنظمات الوطنية- كان الطلبة مثلا‏‎ ‎إذا اجتمعوا لوضع وثيقة تتعلق بمستقبل الجزائر بعد الاستقلال يلحون على ترديد شعار‎ ‎ثلاثي ‏العبارة وهو أن ثقافتنا ستكون‎ ‎وطنية، وثورية وعلمية. ‎إن كل عبارة من‎ ‎هذه العبارات له دوافعه في الذاكرة العامة، فالطلبة كانوا ‏يعتقدون أن استعمار‎ ‎الجزائر سببه أن ثقافتنا فقدت روحها الوطنية وفعاليتها الحركية ومنهجها العلمي. وقد‎ ‎سارت وثائق الثورة ‏الأخرى (برنامج طرابلس وأمثاله) على هذا المنوال، كما أشرنا.‎
‎ ‎وتحقق الاستقلال كما أمل الطلبة وكل الجزائريين، فماذا حدث لشعار‎ ‎الوطنية والثورية والعلمية؟ عمليا لم يتحقق شيئي منه. ‏فالمنظومة التربوية‎ ‎ابتعدت عنه، فكانت ثقافة الجزائر في عهد الاستقلال أبعد ما تكون عن الروح الوطنية،‎ ‎ولم تحافظ على المد ‏الثوري فكانت أبعد ما تكون عن الروح الثورية، ولم تؤسس لفلسفة‎ ‎تعليمية عقلية فكانت أبعد ما تكون عن الروح العلمية. لقد راحت ‏منظومتنا التربوية‎ ‎تبحث في سوق الإيديولوجيات عن فكرة تبني عليها منهجها التربوي فأخرجت لنا مئات‎ ‎الآلاف من التلاميذ والطلبة ‏ولكن القليل فقط من العلماء الوطنيين العقلانيين‎ ‎الأكفاء. فأغلبية المتعلمين عندنا اليوم ليس لهم هوية وطنية يعتزون بها، ولا ثقافةديناميكية ينتجون فيها، ولا منهج علمي يهديهم إلى ما وصل إليه المتقدمون الآخرون. إنهم يعيشون عالة على موائد الشباع بل على ‏فتات التجارب التي نفض منها الغيرأيديهم. ‎
‎ ‎إن الثورة العلمية التي عاشها الغرب منذ قرون ورأينا نحن آثارها في أيام‎ ‎الاستعمار، قد بلغت اليوم دولا وشعوبا ليست أكثرنا ‏عددا ولا أنشطنا ذكاء ولكنها دول‎ ‎أحسنت توظيف العلم والعقل فكان لها ما أرادت من الصدارة في وقت قصير -ربما هو أقصر‎ ‎من ‏عمر استقلال الجزائر-. وأبرز مثال على ذلك إيران وفيتنام وماليزيا وإسرائيل‎ ‎وسنغفورة (دون الحديث عن الهند وباكستان). أين ما ‏بذلته الثورة الجزائرية من تضحيات‎ ‎في سبيل بناء دولة العدل والعلم والتقدم السريع؟ أين تقدمنا بالقياس إلى ثرواتنا‎ ‎وثروات الآخرين؟ ‏إننا ما زلنا ضحايا المدرسة الاستعمارية التي شككت في هويتنا، ولم‎ ‎نحدد طريقنا إلى التقدم: هل هو الليبرالية أو الاشتراكية أو ‏الرأسمالية أو‎ ‎الفوضوية؟ أما تجربة الشريعة الإسلامية فليس هناك استعداد حتى لمناقشتها.‎
‎ ‎وبعد، فبالرجوع إلى (المنجد) نجده يعرف العلم بأنه إدراك الشيء بحقيقته، أو‎ ‎هو اليقين والمعرفة. وقد جمع العلم على علوم ‏ومنها العلم الرياضي كالحساب والموسيقى‎ ‎والمساحة، ومن العلوم أيضا العلم اللدني والعلم النظري وعلم الفلك... ومنها العلوم‎ ‎المدونة ‏والمتعارفة والآلية..‎
‎ ‎ومن الأكيد أن لكل علم من هذه العلوم منهجية خاصة به. ورغم أنني لم أطلع‎ ‎على برنامج المعهد الجديد فإنني أتصور أنه قد اهتم ‏بمناهج هذه العلوم التي كانت لنا‎ ‎فيها جولات موفقة، ثم غفلنا عنها فأخذها غيرنا واستعملها لتطوير نفسه ثم استعملهاسلاحا ضدنا. ‏وهذا ما يقودني إلى العودة من حيث بدأت، فإذا كنا في عصر البحث العلمي‎ ‎والتكنولوجيا، وفي عصر الغزو والتسلط عن طريق ‏البحث العلمي وتطوير المناهج‎ ‎والآليات، فأين نحن من كل هذا؟