بسم الله
والصلاة والسلام على رسول الله

رفع الظلمة
عن
الإحتباء يوم الجمعة

جمعها ورتبها
حمزة بن حبيب الإسحاقي الصومالي
قرأها وأذن بنشرها
فضيلة الشيخ العلامة
يحي بن علي الحجوري
حفظه الله

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .
فهذه ورقات جمعتها فيما قال أهل العلم والفضل في مسألة :
( الإحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب ) وفي جوازها أصلا في غير الجمعة .
فقلت مستعينا بالله .

تعريف الاحتباء :
قال في القاموس(1) :احتبى بالثوب ، اشتمل ، أو جمع ظهره وساقيه بعمامة ونحوها . اه
وقال أبو السعادات رحمه الله (2) :
الاحتباء هو : أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعها به مع ظهره ويشده عليها ، وقد يكون الإحتباء باليد عوضا عن الثوب ، يقال : احتبى يحتبي احتباء ، والاسم : الحبوة ، بالكسر والضم ( الحبوة ) و ( الحبوة ) .
وذكر الزمخشري رحمه الله (3) بعد أن ذكر الحبوة قال :
والاحتباء خاص بالعرب ، وذكر حديث : (( الاحتباء حطان العرب )) ولم أقف عليه .

الأصل في الشريعة أن الاحتباء جائز
ذكر بعض أهل العلم أن الاحتباء حرام ، ولم يفرقوا ، منهم التوريشي قال :
ووجه النهي _ والله أعلم _ أنها مجلبة ، ثم إنها هيئة لا يكون معها تمكن فربما يفضي الى انتقاض الطهارة ... الخ (4) .
ونقل عنه الخطابي ، وسكت عنه ، والإشبيلي (5).
وهذا ليس على إطلاقه ، بل ثبتت أدلة تدل على جواز ذلك ، منها :
* (( حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة محتبيا هكذا )) (6) .
* وأيضا ثبت من حديث ابن عباس قال : (( بت ليلة عند خالتي ميمونة بنت الحارث .. فذكر صلاته ، قال : (( فصلى إحدى عشرة ركعة ثم احتبى حتى إني لأسمع نفسه راقدا فلما تبين له الفجر صلى ركعتين خفيفتين )) (7) .
* وأيضا حديث ابن عمر رضي الله عنه قال : (( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتب بشملة وقد وقع هدبها على قدميه )) (8) .


وحاصل المسألة :

أن الاحتباء جائز إلا في حالة ، نذكرها إن شاء الله ، وهي :
الاحتباء المنهي عنه في بعض الأوقات
فقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين وعن لبستين وعن بيع الملامسة والمنابذة ، وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيئ وأن يشتمل الرجل بالثوب الواحد (9) .
وكما هو ظاهر في الحديث أن النهي : هو إذا انكشفت العورة .
قال الشيخ يحي الحجوري حفظه الله (10) :
وهذا مقيد بما إذا لم يخف كشف العورة ، أما إذا خيف انكشاف العورة فواجب تجنب ما يكون ذريعة لكشفها في الجمعة وغيرها في حق من يخشى أن يحصل منه ذلك . اه

اختلاف العلماء في الاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب
قال ابن المنذر(11) :
اختلف أهل العلم في الاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب ، فرخص فيه أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم . اه
واختلفوا على قولين :
أحدهما : جوازه ، وهو مذهب الجمهور من أهل العلم .
الثاني : لا يجوز .


القائلين بالتحريم وأدلتهم

استدلوا بأحاديث منها :
حديث معاذ بن أنس عن أبيه .
قال الإمام أبو دود رحمه الله :
حدثنا محمد بن عوف ثنا المقرىء ثنا سعيد بن أبي أيوب عن أبي مرحوم عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه : (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحبوة يوم الجمعه والإمام يخطب )) .
وأخرجه أحمد (3ِِِ.439) ، والترمذي (514) والبيهقي( 335,3) كلهم من طريق سعيد أبي أيوب عن أبي مرحوم .
لكن الحديث :ضعيف ، فيه رجلان ضعيفان :
الأول : أبو مرحوم واسمه عبد الرحيم بن ميمون ، ضعفه يحي بن معين ، وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به (12) .
وفيه أيضا سهل بن معاذ بن أنس الجهني : ضعيف ، ضعفه ابن معين ، وقال ابن حبان في الثقات : (( لست أدري أوقع التخليط منه )) (13) .
فالحاصل أن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة .
واستدلوا بحديث :
قال ابن ماجه رحمه الله :
حدثنا محمد بن المصفى الحمصي حدثنا بقية بن الوليد عن عبد الله بن واقد عن محمد ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب )) .
وهذا الحديث أيضا ضعيف لأن في سنده بقية بن الوليد أبو يحمد الحمصي ، قال فيه أهل العلم كلاما طويلا كما في ترجمته ، وقال عنه أبو مسهر : (( أحاديث بقية ليست نقية ، فكن منها على تقية )) (14).
وقد عنعن هذا الحديث ، إذا الحديث ضعيف ، وكذلك شيخه مجهول .
فالحاصل : أن الحديث ضعيف ، لا تقوم به حجة .
_ واستدلوا بحديث جابر عن ابن عدي في الكامل ( 1350.3 ) كما نقله الشوكاني في نيل الأوطار (534.3 ).
وهذا الحديث أيضا ضعيف ، وضعفه : أن في سنده عبد الله بن ميمون القداح المكي ، قال البخاري عنه : ذاهب الحديث ، وقال ابو حاتم متروك ، وقال ابن حبان : لا يجوز أن يحتج بما انفرد به ، وقال الترمذي منكر الحديث ، وقال النسائي : ضعيف (15) .
ونص بعض أهل العلم أنه لم يصح في الباب شيء ، كالعراقي كما في النيل (16) ، وأقره الشوكاني ، وممن ذهب إلى ذلك : مكحول ، وعطاء ، والحسن في رواية (17) واختاره المباركفوري كما في ((تحفة الأحوذي)) (65.3 ) .


القائلين بجواز الاحتباء يوم الجمعة

واستدلوا بأحاديث منها حديث أخرجه أبو داود :
حدثنا داود بن رشيد ثنا خالد بن حيان الرقي ثنا سليمان بن عبد الله بن الزبرقان عن يعلى بن شداد بن أوس قال : (( شهدت مع معاوية ببيت المقدس فجمع بنا فنظرت فإذا جل من في المسجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيتهم محتبين والإمام يخطب )) .
ورجال هذا الحديث ثقات ، إلا سليمان بن عبد الله فيه لين .
ويعلى بن شداد : صدوق ، كما في ترجمتهما .
فالحاصل أن الحديث يحسن بالشواهد .
واستدلوا أيضا بأثر أخرجه أبو داود معلقا ، قال : كان ابن عمر يحتبي والإمام يخطب و أنس بن مالك ... وذكر جمعا من السلف .
ووصل هذا الأثر ابن أبي شيبة في المصنف (452.1 رقم 5238) قال :
حدثنا أبو خالد الأحمر عن محمد بن عجلان عن نافع ووكيع عن العمري وأبي أسامة قال حدثنا عبد الله عن نافع ... به .
وقد ذكر ما ذكرنا عموما الإمام الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (18) قال :
حديث معاذ بن أنس هو من رواية ابنه سهل بن معاذ وقد ضعفه يحي بن معين وتكلم فيه غير واحد وفي اسناده أيضا أبو مرحوم عبد الرحيم بن ميمون مولى بني ليث ضعفه ابن معين وقال أبو حاتم الرازي : لا يحتج به .
قال : وفي الباب عن عبد الله بن عمر عند ابن ماجه قال : (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب )) وفي اسناده بقية بن الوليد وهو مدلس .
وقد رواه يعلى بن شداد بن أوس عن الصحابة وسكت عنه أبو داود والمنذري ، وفي إسناده سليمان بن عبد الله بن الزبرقان وفيه لين وقد وثقه ابن حبان . اه
أضف الى ذلك أن هذا الاحتباء يوم الجمعة هو عمل كثير من السلف ، منهم الأئمة الأربعة وكثير ممن قبلهم .
قال الإمام مالك رحمه الله : لا بأس بالاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب (19) .
وبوب الإمام الشافعي في كتابه الأم قال : باب الاحتباء في المسجد والإمام على المنبر (20) .
وقال الإمام أحمد : أرجو أن لا يكون به بأس ، حكى عنه الترمذي (21) .
ونقل عن الإمام أبي حنبفة رحمه الله : إن شاء يحتبي وإن شاء لم يحتب (22) .
هذا ما ذهب إليه الأئمة الأربعة ، وقد ثبت هذا عن السلف من قبل الأئمة ، من الصحابة والتابعين ومن أراد التوسع في ذالك فالينظر : مصنف ابن أبي شيبة (453.1) ، ومصنف عبد الرزاق (354.3) والسنن الكبرى للبيهقي (335.3) .
وذكر البنوري في معارف السنن(23) خلف ذهب الى هذا .
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه اله :
وقد جاء هذا النهي من هذه الطرق ولم يصح ولا عمل به إلا عبادة بن سني وإلا فقد خطب معاوية ببيت المقدس وأصحاب رسول الله كلهم محتبين ، ويكفهم فعل ابن عمر الثابت في الاحتباء مع ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم . اه (24)


الراجح في هذه المسألة
والله تعالى أعلم : أن الاحتباء جائز في يوم الجمعة والإمام يخطب ، لأنه ما ورد في تحريمه دليل صحيح يحتج به ، والأصل كما بينا .
وعند أهل العلم قاعدة وهي (( أن الأصل في العادات مباح إلا لناقل )) .
وأنه ورد في ذلك _ يعني جواز الاحتباء _ أدلة صحيحة صريحة .
أضف إلى ذلك أنه عمل بها أهل العلم ، أولهم الصحابة ، ومن بعدهم من الأئمة كما بينا .
وهذا ما رجحه الشوكاني (25) ، والعراقي (26) ، وشيخنا يحي الحجوري (27) .


الخاتمة

الحمد لله ، وهذا ما تيسر لنا من جمع ما قال أهل العلم في هذه المسألة ، نسأل الله الإخلاص في الأعمال ، والمقاصد إليه كلها ، ونسأل الله التوفيق .
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
حمزة بن حبيب الصومالي
يوم الإثنين 11.صفر.1429 ه
(1) (584.1)
(2) النهاية (335.1)
(3)الفائق (357.1)
(4)انظر((معارف السنن))(391.1)
(5)في تحفة الأحوذي(63.3)باب كراهية الاحتباء يوم الجمعة ,
(6)رواه البخاري(179.4)،وال يهقي(335.3)وزاد: (( وشبك أبو حاتم بيده )) .
(7)رواه مسلم(538.1)
(8)صحيح: أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1183(، وأبو داود(4075)، والبيهقي(363.3)وأح د(63.5)، وقال الحافض ابن حجر في الفتح (78.11): ولا دلالة فيه على نفي الاحتباء فإنه تارة يكون باليد وتارة بالثوب )) . اه
(9)رواه البخاري(379.10) مع الفتح،ومسلم،وما لك،انظر:((تحفة الأشراف))(192.10).
(10)أحكام الجمعة وبدعها(363) .
(11)الأوسط(81.4)
(12)تهذيب التهذيب(585.4)والل ان(607.2)
(13)التهذيب(131.2)وا لسان(331.1)
(14)التهذيب1،239)وا لسان(331.1)
(15)التهذيب(442.2)وا لسان(512.2)
(16)(524.3) .
(17)مصنف ابن أبي شيبة(119.2)
(18)(524.2)
(19)انظر المدونة:(149.1)
20)الأم(305.1)
(21)(368.1)
(22)انظر كتاب الأصل(380.1)
23)(563.3)
(24)عارضة الأحوذي(302.2)
(25)(524.2)
(26)كما في عون المعبود(323.3)
(27)كما في كتابه القيم أحكام الجمعة وبدعها(263).