الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وبعد :
فهذه مسألةٌ دقيقة جليلة , أتمنى فمن أحد أفاضلنا أن يتكرّم بتوضيح كلام أهل الكلام مزيدا للفائدة .
( فصـــل )
قال المؤلف رحمه الله ابن قدامة في روضة الناظر وجنة المناظر :
الأمر بالشيء نهى عن ضده من حيث المعنى فأما الصيغة فلا ، فان قوله (قم) غير قوله (لا تقعد) وإنما النظر في المعنى وهو أن طلب القيام هل هو بعينه طلب ترك القعود .... ) إلى آخره .
قال الشيخ الشنقيطي - رحمه الله - :
اعلم أن كون الأمر بالشيء نهياً عن ضده فيه ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول : أن الأمر بالشيء هو عين النهى عن ضده وهذا قول جمهور – ليس لازم القول قولا المتكلمين ، قالوا أسكن مثلا ، السكون المأمور به فيه ، هو عين ترك الحركة ، قالوا وشغل الجسم فراغاً هو عين تفريغه للفراغ الذي انتقل عنه ، والبعد من المغرب هو عين القرب من المشرق وهو بالإضافة إلى المشرق قرب وإلى المغرب بعد قالو ومثل ذلك طلب السكون فهو بالنسبة إليه أمر ، وإلى الحركة نهى ، والذين قالوا بهذا القول اشترطوا في الأمر كون المأمور به معيناً وكون وقته مضيقاً ولم يذكر ذلك المؤلف ، أما إذا كان غير معين كالأمر بواحد من خصال الكفارة فلا يكون نهياً عن ضده ، فلا يكون في آية الكفارة نهى عن ضد الإعتاق ، مثلا ، لجواز ترك الإعتاق من أصله والتلبس بضده والتكفير بالإطعام مثلا ، وذلك بالنظر إلى ما صِدقُه أي فرده المعين كما مثلنا لا بالنظر إلى مفهومه وهو الأحد الدائر بين تلك الأشياء .
فان الأمر حينئذ نهى عن ضد الأحد الدائر ، وضده هو ما عدا تلك الأشياء المخير بينها وكذلك الوقت الموسع فلا يكون الأمر بالصلاة في أول الوقت نهياً على التلبس بضدها في أول الوقت وتأخيرها إلى وسطه أو آخره بحكم توسيع الوقت .
قال مقيده عفا الله عنه :
الذي يظهر والله أعلم ( أن قول المتكلمين ومن وافقهم من الأصوليين أن الأمر بالشيء هو عين النهى عن ضده ، مبنى على زعمهم الفاسد أن الأمر قسمان : نفسى ولفظى ، وأن الامر النفسى ، هو المعنى القائم بالذات المجرد عن الصيغة وبقطعهم النظر عن الصيغة ، واعتبارهم الكلام النفسي ، زعموا أن الأمر هو عين النهى عن الضد ، مع أن متعلق الأمر طلب ، ومتعلق النهى ترك ، والطلب استدعاء أمر موجود ، النهى استدعاءُ ترك ، فليس استدعاء شىء موجود ، وبهذا يظهر أن الأمر ليس عين النهى عن الضد وأنه لا يمكن القول بذلك الا على زعم أن الامر هو الخطاب النفسى القائم بالذات المجرد عن الصيغة ، ويوضح ذلك اشتراطهم فى كون الامر نهياً عن الضد أن يكون الامر نفسياً يعنون الخطاب النفسى المجرد عن الصيغة ، وجزم ببناء هذه المسألة على الكلام النفسي صاحب الضياء اللامع وغيره ، وقد أشار المؤلف إلى هذا بقوله من حيث المعنى ، وأما الصيغة فلا ولم ينتبه لان هذا من المسائل التي فيها النار تحت الرماد ، لان أصل هذا الكلام مبنى على زعم باطل وهو أن كلام الله مجرد المعنى القائم بالذات المجرد عن الحروف والألفاظ ، لان هذا القول الباطل يقتضى أن ألفاظ كلمات القرآن بحروفها لم يتكلم بها رب السموات والارض ، وبطلان ذلك واضح وسيأتى له إن شاء الله زيادة إيضاح فى مباحث القرآن ومباحث الأمر .
المذهب الثاني : إن الأمر بالشيء ليس عين النهى عن ضده ، ولكنه يستلزمه ، وهذا هو أظهر الأقوال لان قولك أسكن مثلا يستلزم نهيك عن الحركة لان المأمور به لا يمكن وجوده مع التلبس بضده لاستحالة اجتماع الضدين وما لا يتم الواجب الا به واجب كما تقدم ، وعلى هذا القول أكثر أصحاب مالك ، وإليه رجع الباقلانى فى آخر مصنفاته وكان يقول بالأول .
المذهب الثالث : أنه ليس عينه ولا يتضمنه وهو قول المعتزلة والأبيارة من المالكية ، وإمام الحرمين والغزالي من الشافعية ، واستدل من قال بهذا بأن الآمر يجوز أن يكون وقت الأمر ذاهلا عن ضده أو أضداده وإذا كان ذاهلا عنه فليس ناهياً عنه إذ لا يتصور النهى عن الشيء مع عدم خطوره بالبال أصلا ، ويجاب عن هذا بأن الكف عن الضد لازم لأمره مستلزم ضرورة للنهى عن ضده لاستحالة اجتماع الضدين قالوا ولا تشترط إرادة الآمر كما أشار إليه المؤلف رحمه الله .
قال مقيده عفا الله عنه :
قولهم هنا ولا تشترط إرادة الآمر ! في هذا المبحث غلط ، لان المراد بعدم اشتراط الإرادة في الأمر إرادة الآمر وقوع المأمور به أما إرادته لنفس اقتضاء الطلب المعبر عنه بالأمر ، فلا بد منها على كل حال وهى محل النزاع هنا
ومن المسائل التي تنبني على الاختلاف في هذه المسألة : قول الرجل لامرأته ان خالفت نهيي فأنت طالق ، ثم قال قومي فقعدت فعلى أن الأمر بالشيء نهى عن ضده ، فقوله قومي هو عين النهى عن القعود فيكون قعودها مخالفة لنهيه المعبَر عنه بصيغة الأمر فتطلق وعلى أنه مستلزم له فيتفرع على الخلاف المشهور في لازم القول هل هو قول أولا ، وعلى أنه ليس عين النهى عن الضد ولا مستلزما له فإنها لا تطلق .
ومن المسائل المبينة عليها أيضاً ما لو سرق المصلى فى صلاته أو لبس حريراً أو نظر محرما ، فعلى أن الأمر بالشيء نهى عن ضده فيكون الأمر بالصلاة هو عين النهى عن السرقة مثلا فتبطل الصلاة ، بناء على أن النهى يستلزم الفساد ، فعين السرقة منهي عنها في الصلاة بنفس الأمر بالصلاة ، فعلى أن النهى يقتضى الفساد فالصلاة باطلة . وسيأتي لهذا زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى وخلاف العلماء في مثل هذه الفروع مشهور .
( تنبيـــه )
تكلم المؤلف رحمه الله على الأمر بالشيء الذي له ضد ولم يذكر حكم الشيء الذي له أضداد متعددة وحكمها واحد فالأمر بالشيء نهى عن الضد الواحد أو مستلزم له إلى آخره ، ونهى عن جميع الأضداد المتعددة أو مستلزم لها إلى آخره مثال الواحد ضد السكون ، وهو الحركة ومثال المتعددة النهى عن القيام فضده القعود والاضطجاع .
نسأل الله الفهم السليم والرأي السديد