قول الرازي : الحدود غير مكتسبة ينقض نصف علم المنطق
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل الله فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
مما هو معلوم عند طلبة العلم أن علم الكلام يقوم على مقدمتين ,وهما التصور والتصديق ؛ فالتصور يعرف بالحدود , والتصديق يعرف بالقياس .

1- التصوّر :
هو إدراك الشيء أو إدراك بسيط لمعنى واحد مفرد كأن يتصور الإنسان معنى ( شجرة ) (شمس) أو بعبارة أخرى : استثبات معنى شيء مفرد في الذهن .
2- التصديق :
هو الاعتقاد بالشيء . أو إدراك تتصور فيه شيئين أو معنيين بينهما علاقة ما ؛ كأن تتصور أن ( الشجرة خضراء ) أو أن ( الشمس مضيئة ) أو بعبارة أخرى : إدراك معقد فيه حكم شيء على شيء .
وجعل المناطقة من لم يعرف هذا العلم فلا يوثق بعلمه كما ذكر ذلك الغزالي في أول المستصفى .

ومسألة الحدود من المسائل المهمة التي تعتبر نصف هذا العلم , وقد قسموا التصور إلى تصور ضروري وإلى تصور مكتسب أو نظري , وهذا الأخير رتبوا له طرقا ومقدمات لمعرفته , مذكورة في كتب المنطق .
وأما الضروري فهو مستغن عن الحد .
وقد نقض شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه القواعد والمقدمات التي رتبوها , وتكلم على مسألة الحدود والتعويل عليها .

وذكر رحمه الله أن التصورات مستغنية عن الحدود , وأكد ذلك باعتراف أكابر من خاض في هذا العلم , وهو فخر الدين الرازي .
قال شيخ الإسلام : وقد تفطن الفخر الرازي لما عليه أئمة الكلام , وقرر في محصله وغيره أن التصورات لا تكون مكتسبة , وهذا هو حقيقة قولنا إن الحد لا يفيد تصور المحدود .
مجموع الفتاوى (9|89)
وقال الإيجي : المذهب الثاني في هذه المسألة أن التصور لا يكتسب بالنظر بل كل ما يحصل منه كان ضروريا حاصلا بلا اكتساب ونظر بخلاف التصديق فإنه ينقسم إلى ضروري ومكتسب وبه قال الإمام الرازي واختاره في كتبه لوجهين :
أحدهما أن المطلوب التصوري إما مشعور به مطلقا فلا يطلب لحصوله بناء على أن تحصيل الحاصل محال بالضرورة أو لا يكون مشعورا به أصلا ؛ فلا يطلب أيضا لأن المغفول عنه بالكلية , وهو المسمى بالمجهول مجهول المطلق لا يمكن توجه النفس بالطلب نحوه بالضرورة أيضا ... .
المواقف (1|67)
وهذه الكلمة من الرازي تنسف وتنقض نصف هذا العلم .

وقد أكد شيخ الإسلام ما قاله الرازي , فقال رحمه الله : إن الله جعل لابن آدم من الحس الظاهر والباطن ما يحس به الأشياء ويعرفها فيعرف بسمعه وبصره وشمه وذوقة ولمسه الظاهر ما يعرف ويعرف أيضا بما يشهده ويحسه بنفسه وقلبه ما هو أعظم من ذلك؛ فهذه هى الطرق التى تعرف بها الاشياء ,فأما الكلام فلا يتصور أن يعرف بمجرده مفردات الأشياء إلا بقياس تمثيل أو تركيب ألفاظ وليس شىء من ذلك يفيد تصور الحقيقة .
فالمقصود أن الحقيقه إن تصورها بباطنه أو ظاهره استغنى عن الحد القولى وإن لم يتصورها بذلك امتنع أن يتصور حقيقتها بالحد القولى ,وهذا أمر محسوس يجده الإنسان من نفسه ؛فإن من عرف المحسوسات المذوقة مثلا كالعسل لم يفده الحد تصورها ومن لم يذق ذلك كمن أخبر عن السكر ,وهو لم يذقه لم يمكن أن يتصور حقيقته بالكلام والحد بل يمثل له ويقرب إليه ويقال له طعمه يشبه كذا أو يشبه كذا وكذا وهذا التشبيه والتمثيل ليس هو الحد الذى يدعونه .
وكذلك المحسوسات الباطنة مثل الغضب والفرح والحزن والعلم والغم والعلم ونحو ذلك من وجدها فقد تصورها ,ومن لم يجد ها لم يمكن إن يتصورها بالحد ولهذا لا يتصور الأكمه الألوان بالحد ولا العنين الوقاع بالحد فإذن القائل بأن الحدود هى التى تفيد تصور الحقائق قائل للباطل المعلوم بالحس الباطن والظاهر .
مجموع الفتاوى (9|48)
وقال رحمه الله : المحققون من النظار على أن الحد فائدته التمييز بين المحدود وغيره كالاسم ليس فائدته تصوير المحدود وتعريف حقيقته ,وإنما يدعى هذا أهل المنطق اليونانيون أتباع أرسطو ومن سلك سبيلهم تقليدا لهم من الإسلاميين وغيرهم ؛فأما جماهير أهل النظر والكلام من المسلمين وغيرهم فعلى خلاف هذا وإنما أدخل هذا من تكلم في أصول الدين والفقه بعد أبي حامد في أواخر المائة الخامسة وهم الذين تكلموا في الحدود بطريقة أهل المنطق اليوناني ,وأما سائر النظار من جميع الطوائف الأشعرية والمعتزلة والكرامية والشيعة وغيرهم فعندهم إنما يفيد الحد التمييز بين المحدود وغيره وذلك مشهور في كتب أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر وأبي إسحق وابن فورك والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وإمام الحرمين والنسفى وأبي علي وأبي هاشم وعبد الجبار والطوسي ومحمد بن الهيصم وغيرهم .
ثم إن ما ذكره أهل المنطق من صناعة الحد لا ريب أنهم وضعوها وضعا وقد كانت الأمم قبلهم تعرف حقائق الأشياء بدون هذا الوضع وعامة الأمم بعدهم تعرف حقائق الأشياء بدون وضعهم وهم إذا تدبروا وجدوا أنفسهم يعملون حقائق الأشياء بدون هذه الصناعة الوضعية .
مجموع الفتاوى (9|89) والرد على المنطقيين (14)
والله أعلم