هجر المبتدع
لصاحب الفضيلـة العلاَّمة
الشَّيخ بكر بن عبد اللَّه أَبو زيد
- سلّمهُ اللّه تعالى - .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد :
فإنه في حال من انفتاح ما كان يخشاه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته في قوله عليه الصلاة والسلام: (أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم) (1).
وانفتاح العالم بعضه على بعض، حتى كثرت في ديار الإسلام الأخلاط، وداهمت الأعاجم العرب، وكثر فيهم أهل الفرق، يحملون معهم جراثيم المرض العقدي والسلوكي.
وفي وسط من تداعي الأمم كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق...) (2) وأمام هذا: غياب رؤوس أهل العلم حينًا، وقعودهم عن تبصير الأمة في الاعتقاد أحيانًا، وفي حال غفلة سرت إلى مناهج التعليم بضعف التأهيل العقدي، وتثبيت مسلمات الاعتقاد في أفئدة الشباب، وقيام عوامل الصد والصدود عن غرس العقيدة السلفية وتعاهدها في عقول الأمة.
في أسباب تمور بالمسلمين مورًا، يجمعها غايتان :
* الأولى : كسر حاجز (الولاء والبراء) بين المسلم والكافر، وبين السني والبدعي، وهو ما يسمى في التركيب المولَّد باسم: (الحاجز النفسي)، فيكسر تحت شعارات مضللة:(التسامح) (تأليف القلوب) (نبذ: الشذوذ والتطرف والتعصب)، (الإنسانية) (3) ونحوها من الألفاظ ذات البريق، والتي حقيقتها (مؤامرات تخريبية) تجتمع لغاية القضاء على المسلم المتميز وعلى الإسلام.
* الثانية : فُشو (الأمية الدينية) حتى ينفرط العقد وتتمزق الأمة، ويسقط المسلم بلا ثمن في أيديهم وتحت لواء حزبياتهم، إلى غير ذلك مما يعايشه المسلمون في قالب:(أزمة فكرية غثائية حادة) أفقدتهم التوازن في حياتهم، وزلزلت السند الاجتماعي للمسلم (وحدة العقيدة)، كلٌّ بقدر ما علَّ من هذه الأسباب ونهل، فصار الدخل، وثار الدخن وضعفت البصيرة، ووجد أهل الأهواء والبدع مجالًا فسيحًا لنثر بدعهم ونشرها، حتى أصبحت في كف كل لافظ، وذلك من كل أمر تعبدي محدث لا دليل عليه (خارج عن دائرة وقف العبادات على النص ومورده).
فامتدت من المبتدعة الأعناق، وظهر الزيغ، وعاثوا في الأرض الفساد، وتاجرت الأهواء بأقوام بعد أقوام، فكم سمعنا بالآلاف من المسلمين وبالبلد من ديار الإسلام يعتقدون طرقًا ونحلًا محاها الإسلام. إلى آخر ما هنالك من الويلات، التي يتقلب المسلمون في حرارتها، ويتجرعون مرارتها، وإن كان أهل الأهواء في بعض الولايات الإسلامية هم :
مغمورون، مقموعون، وبدعهم مغمورة مقهورة، بل منهم كثير يؤوبون لرشدهم، فحمدًا لله على توفيقه، لكن من ورائهم سرب يحاولون اقتحام العقبة، لكسر الحاجز النفسي وتكثيف الأمية الدينية في ظواهر لا يخفى ظهور بصماتها في ساحة المعاصرة وأمام العين الباصرة.
والشأن هنا في تذكير المسلم بالأسباب الشرعية الواقعية من "المد البدعي، واستشرائه بين المسلمين، والوعاء الشامل لهذه الذكرى": القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، والتبصير في الدين، وتخليص المنطقة الإسلامية من شوائب البدع والخرافات والأهواء والضلالات، وتثبيت قواعد الاعتقاد السلفي المتميز على ضوء الكتاب والسنة في نفوس الأمة.
ومن أبرز معالم التميز العقدي فيها، وبالغ الحفاوة بالسنة والاعتصام بها، وحفظ بيضة الإسلام عما يدنسها :
نصب عامل "الولاء والبراء" فيها، ومنه: إنزال العقوبات الشرعية على المبتدعة، إذا ذكروا فلم يتذكروا، ونهوا فلم ينتهوا، إعمالًا لاستصلاحهم وهدايتهم وأوبتهم بعد غربتهم في مهاوي البدع والضياع، وتشييدًا للحاجز بين السنة والبدعة، وحاجز النفرة بين السني والبدعي، وقمعًا للمبتدعة وبدعهم، وتحجيمًا لهم ولها عن الفساد في الأرض، وتسرب الزيغ في الاعتقاد، ليبقى الظهور للسنن صافية من الكدر، نقية من علائق الأهواء وشوائب البدع، جارية على منهاج النبوة وقفو الأثر، وفي ظهور السنة أعظم دعوة إليها ودلالة عليها، وهذا كله عين النصح للأمة.
فالبصيرة إذًا في العقوبات الشرعية للمبتدع: باب من الفقه الأكبر كبير، وشأنه عظيم، وهو رأس في واجبات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصل من أصول الاعتقاد بدلالة الكتاب والسنة والإجماع، ولهذا تراه بارز المعالم في كتب الاعتقاد السلفي "اعتقاد أهل السنة والجماعة".
كل هذا تحت سلطان القاعدة العقدية الكبرى (الولاء والبراء)(4) التي مدارها على الحب والبغض في الله تعالى، الذي هو (أصل الدين) وعليه تدور رحى العبودية.
وهذه العقوبات الشرعية التي كان يتعامل بها السلف مع أهل البدع والأهواء، متنوعة ومتعددة في مجالات:
الرواية، والشهادة، والصلاة خلفهم وعليهم، وعدم توليتهم مناصب العدالة كالإمامة والقضاء، والتحذير منهم ومن بدعهم وتعزيرهم بالهجر، إلى آخر ما تراه مرويًا في كتب السنة والاعتقاد، مما حررت مجموعه في "أصول الإسلام لدرء البدع عن الأحكام".
وما في هذه الرسالة هو في خصوص (الزجر بالهجر للمبتدع ديانة)(5) لأهميته في: التميز، والردع، وعموم المطالبة به، ولأنه أصبح في الغالب من (السنن المهجورة)، تحت العوامل المذكورة في صدر هذه المقدمة، لهذا رأيت إفراده بهذه الرسالة إحياءً لهذه السنة، ونشرًا لها بضوابطها الشرعية التي تحفظ للمبتدع كرامته مسلمًا، وتكشف بدعته بوصفه مبتدعًا، ما لم تكن مكفرة كبدعة: القدر (6) والباب، والبهاء... وتحفظ على أهل السنة والجماعة كف بدعته ومداخلتها في صفوفهم، وهذا واجب باتفاق المسلمين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في بيان وجوب النصح لصالح الإسلام والمسلمين :
ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين، هذا أفضل، فبيَّن أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته، ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعًا، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداءً اهـ (7)
هذا وما سيمر نظرك عليه في هذه الرسالة، فإنه ينتظم في جملته: أحكام الهجر الشرعي للكافر والمبتدع الضال ببدعته والعاصي المجاهر بمعصيته، لكن صار نسج الكلام وجلب الروايات والنقول في "هجر المبتدع"، لأن ضرره أعظم وخطره أشد، كما مر بك في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ويأتي له نظائر إن شاء الله تعالى.
وتجد رؤوس المعتبرات في هذه الرسالة على ما يلي :
1 - مقاصد الإسلام في الهجر.
2 - أنواعه.
3 - شروطه.
4 - صفته.
5 - منزلة هجر المبتدع من الاعتقاد.
6 - الأدلة العلمية من الكتاب والسنة والإجماع.
7 - إعمال الصحابة فمن بعدهم له في مواجهة المبتدع.
8 - ضوابط الهجر في الشرع.
9 - عقوبة من والى المبتدعة.
10 - التحذير من إشاعة البدعة.
فاللهم (ارزقنا هديًا قاصدًا)(8) و(جنِّبنا منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء).
= = = = = = = = = = = = = = = = = = = = = =
(1) انظر: فتح الباري 6 / 58 2، 263.
(2) السلسلة الصحيحة برقم / 956، وصحيح الجامع الصغير برقم / 8035.
(3) عن "مذهب الإنسانية" انظر: مذاهب فكرية معاصرة لمحمد قطب: 589 604، وفي: معجم المناهي اللفظية، حرف الألف، ومقدمة طه العلواني لكتاب: النهي عن الاستعانة والاستنصار في أمور المسلمين بأهل الذمة والكفار، لمصطفى الوارداني.
(4) هذه القاعدة مبحوثة في كتب الاعتقاد، وقد أفردت بمؤلفات منها: تحفة الإخوان للشيخ حمود التويجري، سبيل النجاة، للشيخ حمد بن عتيق، الولاء والبراء، للشيخ محمد سعيد القحطاني، الموالاة والمعاداة للشيخ محمد الجلعود، الولاء والبراء للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وخمستها مطبوعة.
(5) للسيوطي رسالة باسم (الزجر بالهجر) ولم أقف عليها، وللشيخ محمد الزمزمي بن محمد الصديق الغماري رسالة باسم: "إعلام المسلمين بوجوب مقاطعة المبتدعين والفجار والظالمين" طبعت بتطوان بلا تاريخ، رد بها على أخيه عبد الله في رسالته: (القول المسموع في بيان الهجر المشروع)، وكان الزمزمي قد قاطع آخاه عبد الله لما لديه من الدعوة إلى القبوريات وإلى بناء المساجد على القبور، وخدمة زاوية أبيه، في سلسلة يطول ذكرها من البدع المضلة، فبلغت الصورة الغضبية مبلغها من عبد الله فألف رسالة: (النفحة الزكية) هجر فيها دلالة النصوص على الهجر، وخرق إجماع الأمة عليه، وهي من الباطل الذي لا يلتفت إليه، والله الهادي إلى سواء السبيل.
(6) ما أحسن ما قاله الحربي أبو إسحاق رحمه الله تعالى: من لم يؤمن بالقدر لم يتهنَّ بعيشه انظر: ولاية الله للشوكاني /396
(7) الفتاوى 28 /231 232
(8) اقتباس من حديثين مرفوعين رواهما ابن أبي عاصم في "السنة" برقم / 13، 95، وانظر: ظلال الجنة 1/12، 46.
يتبـع - إن شـاء اللّه تعالى - .