بسم الله الرحمان الرحيم

من بدع الجرح والتعديل قبول جرح العوام و المجاهيل

من المعلوم المتفق عليه بين المسلمين أن الجرح و التعديل ليس من أركان الإسلام الخمسة، و لا من أركان الإيمان الستة، و إنما هو علم خص به الله أهل السنة و الجماعة ميزهم به عن غيرهم، فهو علم تاه فيه علماء كبار، فتكلم فيه بعضهم بالتعصب، و آخرون بالتمذهب، و آخرون بالتقليد، و أنصف فيه آخرون و تكلموا بعلم وعدل وحكمة، وهم معروفون للجميع، ولذلك قال ابن تيمية في " المسودة": الناس فيه بمنزلة القضاة و الشهود، وقال في" الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر": هو فرض كفاية "، و معلوم أنه فرض كفاية على أهل العلم.
وذكر ابن أبي حاتم في"الجرح و التعديل"{10/1} علماء الحديث فقسمهم إلى أربع طبقات أجازه للطبقة الأولى فقط و التي قال عنها:" منهم الثبت الحافظ الورع المتقن الجهبذ الناقد للحديث ،فهذا لا يختلف فيه و يعتمد على جرحه و تعديله و يحتج بحديثه وكلامه في الرجال"،ثم ذكر الثانية و التي لم يذكر عنها الجرح و التعديل وهي و الله قل ما توجد في المتأخرين إن وجدت فقال:" ومنهم العدل في نفسه الثبت في روايته الصدوق في نقله الورع في دينه الحافظ لحديثه المتقن فيه،فذلك العدل الذي يحتج بحديثه ويوثق في نفسه."
قال ناصر الدين الدمشقي"الرد الوافر"{19/1}:"و إذا كان جمهور النقاد و أئمة أهل الإسناد كلامهم منقسم في الجرح و التعديل إلى قوي و متوسط وكلام فيه تسهيل"، وفي عصره، قل من يدري هذا الفن أو يرويه أو يحقق تراجم من رأى من أهل عصره فضلا عمن لم يره أو مات قبل عصره، فكيف بهذا العصر".
و مع أهمية هذه المقدمة العلمية فإنها لا تعني السلفيين المعاصرين في شيء إذ الناظر فيما صدر بينهم من جرح يجد غالبيته سؤالات لعوام حركوا لافتعاله أو استفزهم جهلهم ولم يرضيهم فلان أو علان، وقرروا الحمل عليه.
فمشكل السلفيين اليوم بل البدعة التي وقع فيها من يتلهف على الجرح انه يأخذ بمقالات العوام في أهل العلم فيمن مارسوا العلم و عرفوا جنس الأدلة ومراتبها، ومعلوم أن الجرح له قواعد عند أهل العلم لم نجد واحدا منهم قبل جرح العوام و المجاهيل إلا عند بعض السلفيين المعاصرين وهذا علامة على أن منهجهم أساسه بدعة صوفية أو رافضية تستحل الكذب و البهتان إذ أهل السنة و الحديث مبرؤون من هذا المنهج مادام أنهم لم يقبلوا الجرح من كل محدث مهما كان ورعا عدلا في نفسه كما بيناه في المقدمة فكيف يقبلون جرح المجاهيل و عوام المسلمين؟!
فهذا ابن حبان على جلالته و مكانته في الجرح و التعديل يقول فيه الحافظ ابن حجر: " ابن حبان ربما جرح الثقة حتى كأنه لا يدرى ما يخرج من رأسه ".
والذين ابتدعوا هذه البدعة الجديدة في علم جليل كعلم الجرح و التعديل حتى أخرجوه عن حده و انقلب إلى ضده، نصبوا في كل بلدة جاهلا مفرطا في الجهل و الظلم ينعق بأصولهم استرضوه بموافقته على جهله أو تزكيته رغم ضعفه وخبث نفسه يصدر لهم مواد التجريح كلما احتاجوا إليها،ومعلوم أن هذا صنيع المبتدعة لا صنيع أئمة السنة .
كما أن من وجوه البدعة في أكثر الجرح الذي يمارسه هؤلاء على دعاة السنة و علمائها:
1 ـ يجرحون مخالفهم بما يفوق الحاجة حتى إنهم يكتبون في الرجل ما لم يكتبوه في الجعد بن درهم والجهم بن صفوان و كبار المبتدعة الذين يسكنون بجوارهم ،أو هم أصهارهم و أقرباؤهم ،ومعلوم أن الجرح شرع للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها.
2 ـ يجرحون بمسائل علمية لاح فيها الخلاف من زمن السلف الصالح فيجرحون بما رجحوا و اختاروا ولو لم يسعفهم الدليل ولكنهم يجرحون لمجرد الاختلاف،ويخرجو ن جوالب الفتن ومسببات الشقاق مخرج النصيحة في الدين و التشدد في السنة!
3- عندما يجرحون يقتصرون نقل الجرح فقط بحجة عدم الموازنة ،على ما في نقولهم من الكذب و البهتان و افتقارها إلى شروط صحة السند،مع أن القاعدة عند أهل الحديث انه من وجد فيه الجرح والتعديل وجب نقلهما، لأن في الاقتصار على الجرح إجحافا بحق المجروح، وقد عاب المحدثون من يفعل ذلك أشد العيب.
4- يجرحون من لا حاجة إلى جرحه لأن الجرح شرع للضرورة، لأنهم يظنون وهم أهل الظن و الريب و الشك أن مجابهة مخالفيهم بالطعن والقذف و التشهير بمثالبهم دليل على وفرة العلم ودقة الفهم،وقوة التمسك بالسنة وهم في الحقيقة متمسكون ببدعة منهجية خطيرة و بأهوائهم ونزواتهم ، حتى صار "من عاداتهم الخبيثة: أنهم كلما خالفهم عالم في مسألة من مسائل العلم أو حتى مسائل العادات و المباحات فعّلوا أذنابهم الجهلة لينسجوا له بعض الحكايات ثم توجهوا إلى جرحه بأفعاله الذاتية، وبحثوا عن أعماله العرضية، ومزجوا ألف كذبة وكذبة بصدق واحد، وأحاطوه بألسنتهم الحداد من كل جهة فصبوا الطعن عليه صبا وركبوا التهم له تركيبا،و تأولوا عليه بالحقيقة و المجاز،و النص و الظاهر،و المنطوق و المفهوم بحيث يتعجب منه كل مسلم وعاقل فيقول: كيف لإبليس أن يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر،و يناضل عن السنة ويجاهد البدعة،ويدعوا إلى الخير وينهى عن الشر؟!
فلا يجد جوابا ينزل عليه من سماء عقله إلا انه ربما يكون زنديقا منافقا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فغرضهم من الجرح و التجريح إسكات خصمهم ومخالفهم بالسب والشتم،حتى يخشى على نفسه فإن كان حريصا على منزلته عند العوام جارى الموج في البحر و طاطا رأسه للعاصفة حتى تمر بسلام، وهكذا سكت عن الحق كثير من الدعاة لما وقع البغي على اخص أصحابهم من الدعاة و العلماء فلم يناصروا الحق ويقوموا مع المصيب المحق على المخطئ الباغي.
وهؤلاء المبتدعة في علم الجرح و التعديل اجبن الناس يرمون مخالفهم من بعيد و يرفضون مناظرته و يدفعونها بالتعدي والمشاتمة.
وعليه فإنه كما نص أهل الحديث و فقهاء السنة لا يصدر الجرح بله أن يقبل إلا ممن استوفى شروط الجرح و التعديل قال اللكنوي ـ رحمه الله ـ في "الرفع والتكميل":
"يجب عليك ألا تبادر إلى الحكم بجرح الراوي بوجود حكمه من بعض أهل الجرح والتعديل، بل يلزم عليك أن تنقح الأمر فيه، فإن الأمر ذو خطر وتهويل. ولا يحل لك أن تأخذ بقول كل جارح في أي راو كان. فكثيرا ما يوجد أمر يكون مانعا من قبول جرحه، وله صور كثيرة لا تخفى على مهرة كتب الشريعة، فمنها:
أن يكون الجارح في نفسه مجروحا[وجل هواة التجريح مبتدعة في المنهج إما نصّبوا رجلا منهم يمتحنون على موالاته أو من خصومهم يمتحنون على معاداته،وهذه بدعة] فحينئذ لا يبادر إلى قبول جرحه وكذا تعديله ما لم يوافقه فيه غيره.
قال ابن حجر في ترجمة أحمد بن شبيب -بعد ما نقل عن الأزدي قوله فيه: "غير مرضي"- قلت: "لم يلتفت أحد إلى هذا القول، بل الأزدي غير مرضي".
ومنها: أن يكون الجارح من المتعنتين المشددين، فإن هناك جمعا من أئمة الجرح والتعديل له تشدد في هذا الباب يجرحون الراوي بأدنى جرح، فمثل هذا الجارح توثيقه معتبر، وجرحه لا يعتبر إلا إذا وافقه غيره من المعتدلين.
ضوابط الاختلاف وموجبات الائتلاف في ظل الممارسات الخاطئة لعلم الجرح و التعديل و أثارها السيئة على الأمة.

الاختلاف بين الناس فطرة فيهم، لاختلاف مدارك العلوم النقلية و العقلية، فاختلاف التحصيل، و اختلاف الثقافة و التلقي، واختلاف النفوس في جبلتها و طبيعتها و بديهتها وذكائها وغير ذلك، مما له علاقة بالعلم و الحكم و الرأي، أمر كامن داخل النفس البشرية، ولذلك تعددت آراء الناس و اجتهادا تهم، واختلافاتهم في كل شيء.
ولما كان الإسلام دين الفطرة الذي جاء ليكملها و ينميها بالمعارف الإلهية و النبوية، ولم يأت ليقصيها من مجال المعرفة الإنسانية، فقد ضبط الاختلاف بين المسلمين، و بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل الأخرى، وحدد أصول التعامل البيني بين مختلف التوجهات، وجعل حدودا للمسلم لا يجب عليه أن يتجاوزها و إلا كان ظالما، وهذه الضوابط والأصول بعضها علمي عقلي، و بعضها الآخر خلقي نفسي.
و اليوم أصبحنا نشاهد خلافا بين المسلمين بعضه حق، إذ هو من الدفاع عن أصول الإسلام و ثوابته، التي يجب أن يجتمع عليها كل المسلمين،ولكن الدعوة إلى هذه الأصول لا يكون إلا بحوار علمي موضوعي بعيد عن الحروب الكلامية والتراشق بالتهم، فإن بعضا ممن ينتسب للإسلام قد تنازل عن هذه الوسيلة الشرعية بل ألغاها كلية من منهجه، و استعاض عنها بنوع من التدابير الأمنية ارتدت عليه فألغته من المجتمع،أو حاصرته في زاوية منه انتهى فيها دوره الدعوي، لأنه نسي مهمته الأولى وهي الدعوة إلى الله ،العمل لانقاد الناس وتقمص مهمة القضاة، ومعلوم أن القاضي لا أخ له في مجلس القضاء.
فهؤلاء الذين ينسبون أنفسهم للسلفية و امتنعوا عن التعاون على الخير مع غيرهم من السلفيين بسبب بدعهم في الجرح و التعديل ،و بسبب هذه التدابير الأمنية الردعية الدفاعية لم يفهموا القرآن،بل تركوا ما دل عليه كقاعدة يتعامل بها المسلمون على مدار الزمن و تمسكوا بما هو مؤقت يرجع لظروف معينة و يتلبس بشروطها،فأدخلوا في مسمى الهجر و البدعة ما ليس منها، فحكموا بحكم مراد النصوص من الهجر و المقاطعة على ما ليس منها، فسووا بين ما فرق الله عز وجل بينهما.
ثم لزمهم بعد ذلك أن أخرجوا من مسمى الأخوة الإسلامية والولاء الإسلامي و التعاون على البر و التقوى بعض أفراده الداخلة تحته، فسلبوا عنها حكمه، ففرقوا بين ما جمع الله بينهما.
فهؤلاء تركوا الواجب الشرعي في التعاون على البر و التقوى بحجة مقاطعة المخالف وهجره، و أهملوا شؤون الأمة العامة ، وشؤون المجتمع بحجة الورع و اجتناب الشبهات، ومعلوم أن التعاون نوعان: تعاون على البر و التقوى من الجهاد بالكلمة و القلم و اليد وفق الشروط الشرعية ، وتعاون على الحكم بحكم الله من إقامة الحدود،و إعطاء المستحقين حقوقهم، و استيفاء الحقوق، ورعاية الضعفاء من اليتامى و الأرامل و تربية النشأ و مساعدة الفقير ، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،مما أمر الله و رسوله، ومن أمسك عن هذا التعاون خشية عدم مقاطعة المخالف أو خشية أن يكون عونا له فقد ترك فرضا على الأعيان أو على الكفاية متوهما أنه متورع و سني ومتبع لمنهج السلف الصالح فما أكثر ما يشتبه الفشل و الجهل و الجبن بالورع إذ كل منهما كف و إمساك و امتناع.
إن الدعوة إلى الحوار بين المنتمين إلى السلفية، لا تعني التخلي عن هذه الأصول أو المساومة عليها ،بل الحوار الممكن بين السلفيين هو التعريف بهذه الأصول و الثوابت المنهجية ،فليس في الإسلام شيء يقبل التنازل عنه صغيرا كان أو كبيرا،ولكن مراتب الأعمال تختلف بحسب القدرة و الإمكان، فالغرض من الحوار إظهار الحق بسائر الأدلة ثم البحث عن المشترك و تجليته ثانيا ، أما أن يكون الحوار نوعا من المفاوضات للإيجاد اتفاق سياسي أو اجتماعي على حساب جوهر وجودك الديني، فهذا ليس من الحوار في شيء.
والمشكل في الاختلاف العلمي عند السلفيين في هذا العصر أنه لم يحبس بين العلماء و وطلبة العلم فقط، بل عندما تلبس بالحب و البغض، بالمدح و القدح لم يعد اختلافا علميا بل نعرة مذهبية أو طائفية، بل قد بلغ أواره بين أهل الجماعة الواحدة، حتى نزل إلى سوق العوام، و أصبح الصبية و الأحداث يتحدثون بالجرح و التعديل، كأنهم يعرفون الجرح و التعديل، غير مميزين بين المتشدد و المتساهل، بين إجماع السلف و آراء بعضهم، و تميع هذا العلم الشريف الذي لا يقدر قدره و يعرف منزلته إلا الجهابذة من علماء المسلمين.
و المؤسف أن كثيرا من هذا الجرح و التعديل هو إما مدح محب أو قدح ساخط، ولا علاقة له بتاتا بعلم الجرح و التعديل إلا في النادر، فقد يصدر من الرجل الواحد كلاما بعضه حق وبعضه هو محض رأيه و تأويله، بل قد فقد هذا العلم قيمته عندما ارتد على نفسه بفعل بعض الدعاة الأحداث المتهورين، الذين استخدموه لأغراضهم الشخصية للتخلص ممن يعتقدون انه ينافسهم على رآسة العوام.
متى ما تقتد بالباطل الحق يأبه ... وإن قدت بالحق الرواسي تنقد
فمن وثقه أهل العلم ووثقته الأمة، جرحه بعض هؤلاء المولعين بالكلام في الناس جرحا مبهما غير مفسر، بل يوثقون في مناسبة و يجرحون في أخرى تحكما، و معلوم أن تعارض أقوال الشخص الواحد يستلزم تناقضه، و كون قوله الأول هو الصواب أو الثاني يحتاج إلى دليل.
و لا يعني هذا أن من وثقته الأمة أو وثقه العلماء لا يجوز انتقاد أقواله، و لكن يجب التفريق بين الانتقاد و الجرح،بين نقد القول و نقد الشخص، فليس كل من ننتقده يستلزم أن جرحناه كما كان المحدثون قديما يجرحون رواة الحديث المتهمين بالكذب و ما شابهه، فالتوثيق يبقى دليلا عاما و الانتقاد دليلا خاصا، أو استثناءا من العموم.
ثم الواجب النظر في أصل الخلاف، فإن كان حول مسائل اختلف فيها السلف و الأئمة فيجب أن يوضع في إطاره التاريخي فهما لملابسته لا استحضارا له في الحاضر كسبب لشن الحرب على المخالف،فإن إدراك تاريخ نشوء الخلاف ، و العلاقة التشابكية في العلم كفيل بفهم المخالف و عذره،واستثمار جهده فيما ينفع الأمة في حاضرها و مستقبلها، و حينئذ يسهل بسط الأدلة أمامه.
وكما قلت سابقا:الغرض من الحوار بين السلفيين إظهار الحق بالأدلة المعتبرة عند المخالف منا إذا أمكن و إلا فالبحث عن المشترك و إبرازه و تجليته وتقريب وجهات النظر مادامت المسائل المختلف حولها لم تنشأ في هذا العصر.
أما المسائل الفرعية و الاجتهادية التي تشحن بها الكتب عادة في الخلاف فهي إما من سطوة القلم الذي إذا تحرك بالكتابة قد يكتب ما لو راجعه الإنسان حذفه، فكثير من الانتقادات المنشورة على الشبكة من بعض الإخوة هي محض تضخيم لأشياء صغيرة ، ليست قادحة في العادة .
و الجرح و التعديل عند المحققين من أئمة العلماء الناس فيه قسمان : شهود وقضاة ، فالشاهد يؤدي ما رأى أو سمع، و ليس له في الحكم شيء ،كما هو حال غالبية صغار طلبة العلم ، أما القضاة فهم المحيطون بمقاصد الجرح و التعديل، العالمون بأحوال الناس اجتماعيا و نفسيا ، العالمون بموجبات الاختلاف وموارد الاجتهاد، يضعون الكلام في موضعه ، المميزون بين المطاعن القادحة و غير القادحة ، العارفون بمخرج الكلام ، فهم الذين يجرحون بالاجتهاد و يجرحون بالرواية ، أما غيرهم فلا يجوز لهم شرعا الخوض في جرح أهل العلم و الدعاة، و التسلط عليهم بالنقد الهدام.
قال الله تعالى:{وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون}فقوله تعالى:"لعلهم ينتهون" أي كي ينتهوا عن الطعن في دينكم و المظاهرة عليكم.
وعند مالك و الشافعي ـ رحمهما الله ـ الذمي إذا طعن في الدين انتقض عهده[1].
الشاهد أن الطعن في الدين أمر خطير وجريمة نكراء،ومما لا يرتضيه الناس فلا يقبلون أن يطعن أحد في دينهم مهما كان هذا الطاعن إلا أن يكونوا زنادقة منافقين ،أما أهل الإيمان فإن أعز شيء عليهم دينهم، و ألد أعدائهم من يطعن فيه.
فالطعن في الدين مما يوغر الصدور و يثير الأحقاد و يشتت الجموع و يشق الصفوف و يفسد ذات البين و يقطع الأرحام و القربات، لذلك كان السلف الصالح من أئمة الدين الفقهاء يتحرون عند الكلام عن الغير أشد التحري، و لا يجعلونه موضوع مواعظهم و حلقاتهم، بل يخصون به أخص تلامذتهم المعتنين به ، ولا ينشرونه بين العوام .
سأل مهنا يحي بن معين عن الواقدي، فقال له:" أنت تعرفه و أحب أن تعفيني،قال مهنا :لم؟قال ابن معين :إن ابن له أخ لي ،قال مهنا:فدعه".
قول يحي بن معين : أنت تعرفه أي تعرف حاله وترجمته، فلا يضرك إن امتنعت عن الكلام عليه رعاية لحق ابنه ،لأن رفض أداء الشهادة مفسق عند العلماء،قالوا:إ امتنع عن الشهادة من غير عذر فقد فسق، و الفسق يسلب أهلية الشهادة مطلقا[2].
فسواء قلنا الجرح و التعديل هو من قبيل الشهادة أو من قبيل الخبر إذا انبنى عليه حكم أو خرج الكلام مخرج الحكم فهو من الشهادة، قد يكون خبرا إذا نقله المخبر دون تصديق أو تكذيب ولم يحكم به، و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم:" كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع".
فمتى إذا يكون الجرح و التعديل من الغيبة و الطعن في الدين بغير حق؟، ومتى يكون عملا شرعيا مقبولا ومحمودا يجازى عليه فاعله؟ وكيف لنا أن نفرق بينهما؟ وما هي ضوابط كل واحد منهما؟وما هي شروط الجارح والمعدل العلمية و العملية السلوكية ؟
الفرق بين الغيبة و الجرح و التعديل:

سأل مهنا الإمام أحمد عن الفرق فقال:" إذا لم ترد عيب الرجل" أي إذا لم ترد بجرحه عيبه و انتقاصه و التقليل من شأنه، و قصدت الدفاع عن الديانة فهو نصيحة و إلا كان غيبة.
قال أبو الحارث : سمعت أبا عبد الله غير مرة يقول:ما تكلم أحد في الناس إلا سقط و ذهب حديثه قد كان بالبصرة رجل يقال له "الأفطس" كان يروي عن الأعمش و الناس، و كانت له مجالس وكان صحيح الحديث إلا أنه كان لا يسلم على لسانه أحد فذهب حديثه وذكره".
قال في رواية الأثرم و ذكر الأفطس وأن اسمه عبد الله بن سلامة ،قال:" إنما سقط بلسانه فليس نسمع أحدا يذكره".
وتكلم يحي بن معين في أبي بدر فدعا عليه، قال أحمد:"فأراه استجيب له"، و المراد بذلك و الله أعلم :عدم التثبت و الغيبة بغير حق.
قال أبو زرعة : "كل من لم يتكلم في هذا الشأن على الديانة فإنما يعطب نفسه،وكان الثوري و مالك يتكلمون في الناس على الديانة فينفذ قولهم ،وكل من لم يتكلم فيهم على غير الديانة يرجع الأمر عليه".
فالفرق بين الغيبة و الجرح دقيق و خفي على أكثر الناس إذ محله النية التي محلها القلب ، و النية أمر باطني يتلبس بأحوال النفس، و بالمشاعر الباطنية من رضا و سخط ،و حب و كره وهذه لها سطوة على الاعتقاد و على اللسان ، و التجرد منها دائما و الثبات على ذلك أمر صعب للغاية فلا يشعر بها و هي تنفذ إلى فكره و تتخلل كلامه.
ولذلك قال البخاري:" ما اغتبت أحدا منذ علمت أن الغيبة حرام"، وهذا يظهر في كلامه في الجرح و التعديل،فإن من تأمل ذلك علم ورعه في الكلام في الناس و إنصافه فيمن ضعفه،فإنه كثيرا ما يقول:"منكر الحديث"،سكتوا عنه"،"فيه نظر" و قل أن يقول:"كذاب وضاع"و إنما يقول:"كذبه فلان"، "رماه فلان" يعني بالكذب{هدي الساري}{480}.
شروط الجارح و المعدل:

1 ـ يجب علينا أن نعلم أولا أن الأئمة يمكن أن يخطئوا ولا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم، وكلامهم ينبسط على ما يعلمون، لا على مالا يعلمون فالخطأ وارد،فلا يجب أن نأخذ كلامهم على أنه مسلم، بل يجب السبر و التحقيق، فإننا و إن كنا نوثق جميع أئمة السلف فإنا لا نعتقد تصديق جميع ما يروى عنهم، بل نعتقد أن فيه كذبا عليهم أو خطأ منهم ،أما المعاصرون ممن يسلك مسلك الجرح والتعديل في دعوته ومواعظه فإن كلامهم يقل فيه الصواب، و يجب أخذه بحذر شديد، فالعداوة مستحكمة حتى بين أبناء المذهب الواحد و الجماعة الواحدة و الصراع بينهم على الزعامات قد بلغ غايته، ومعلوم أن شهادة العدو على عدوه إن كانت جارحة لا تقبل لأن العداوة داعية للتجريح، و إن كانت معدلة مزكية قبلت، لأن العداوة مانعة من التزكية أو الإنصاف عند غالب الناس إلا من رحم الله.
لقد أصبح التجريح في هذه الأيام حربا ضروسا تجلب له كل الوسائل، و يتقوى عليه بكل سبب ممكن، و يسلك لأجله كل سبيل ولو كان مظلما موحشا حتى أصبح الجارح يتقوى بعدوه لأنه عدو عدوه، فتراه يستشهد بكلام الرجل ثم يحط عليه ،بل صار التجريح مقصودا لذاته مطلوبا لنفسه، يتمسك فيه المولعون بالشبهة الميتة، و بأقوال العوام و المجاهيل، بل حتى بأقوال الفسقة، لا يهمهم إلا الحمل على فلان و إسقاط علان، وكل من لا يعمل على شاكلتهم فهو ضدهم حتى عاد السلاح على صاحبه فأرداه قتيلا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العي العظيم.
ورفعت الرايات و عقدت الألوية وقالوا جميعا عن بكر ة أبيهم: الحرب خدعة والكذب سلاح، حتى إن الواحد من هؤلاء إذا طلب بدليل غيبته وبهتانه الذي يسميه في عرفه جرحا و تعديلا جاء بجملة من الثناء أو المدح قيلت فيه في شأن آخر، و يذكرني هذا بترجمة أبي إسحاق الجوزجاني عند ابن عدي عندما قال فيه :"سكن دمشق فكان يحدث على المنبر و يكاتبه أحمد بن حنبل فيتقوى بذلك ،ويقرأ كتابه على المنبر ،وكان شديد الميل إلى أهل دمشق في التحامل على على ـ رضي الله عنه".
فلا شك أن كتاب الإمام أحمد في شأن غير ما يريد أن يتقوى به الجوزجاني، ولكن هذه حال من أعوزته الأدلة، وخانه العلم لإظهار بدعته أو الترويج لجرمه كما يحصل في هذا العصر.
ومعلوم أن التناقض و السهو و النسيان لا يخلو منه أتقى الناس و أعلمهم ،قال الإمام أحمد كان ابن مهدي ذكر له عن ابن المبارك عن ورقاء عن سعيد بن جبير إذا أقر بالحد ثم أنكر لم يقم عليه فأنكره إنكارا شديدا ثم نظر فوجده في كتابه".
قال البويطي:سمعت الشافعي يقول :" قد ألفت هذه الكتب ولم آل فيها ،ولا بد أن يوجد فيها الخطأ،إن الله تعالى يقول{ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}.
2 ـ التبصر بمواقع الجرح و التعديل:

من المعلوم أن الناس قد اختلفوا فيما يجرح به وكما قال الشافعي ـ رحمه الله ـ: لابد من ذكر سبب الجرح للاختلاف الناس فيما يجرح به، بخلاف العدالة فإن سببها واحد لا اختلاف فيه.
قلت : هذا عند العلماء الأتقياء أما الآن فقد أصبحنا نرى من يعدل رجلا لا لشيء إلا لأنه صاحبه، و يعينه على عدوانه على آخرين، أما الجرح فحدث ولا حرج، و عليه فحتى إذا لم نشترط ذكر السبب فلا بد على العالم الجارح المعدل أن يكون عدلا بصيرا بجهات الجرح و التعديل، و أن يكون عارفا بمواقع الخلاف في ذلك، و الظاهر عليه أنه لا يطلق الجرح إلا في صورة علم الوفاق عليها، و إلا كان مدلسا ملبسا بما يوهم الجرح على من لا يعتقده، وهو خلاف مقتضى العدالة و الدين ، و بمثل هذا يظهر أنه ما أطلق التعديل إلا بعد الخبرة الباطنة و الإحاطة بسريرة المخبر عنه، و معرفة اشتماله على سبب العدالة دون البناء على ظاهر الحال.انظر "الإحكام لابن حزم".
3 ـ العدل و الإنصاف:

على العالم الذي يخوض في هذا العلم أن يقرن التقوى بقلبه و لسانه، و يتجرد عن الحب و البغض و الرضا و السخط حال جرحه أو تعديله ، فلا يحمله سخطه على شخص أو مذهب أو رأي على جرح صاحبه، كما لا يحمله حبه ورضاه على تعديله،وهذا يعرف في هذا العلم بمدح المحب و قدح الساخط،و الأمثلة عليه بالعشرات.
سأل أحدهم الإمام أحمد عن البحتري فجرحه فقال الرجل:إنه ابن عمي، فقال الإمام أحمد:الله المستعان ولا مداهنة في الدين.
فعلى من ينصب نفسه لجرح الدعاة و العلماء أن يكون عالما متقيا التقوى الباطنية، فرجل من مسلاخ سفيان الثوري إن تكلم في الناس فقد بال دما من خوف الله،ولما قال له الفريابي:" أرى الناس يقولون سفيان الثوري و أنت تنام الليل؟ فقال له:" اسكت ملاك هذا الأمر التقوى".
كذلك يجب أن يكون متسربلا بالخشية، متدرعا بالورع ضابطا للسانه[3]، إن تكلم فعلى الديانة متزنا يقتدي بالسلف الصالح في شمول فهمهم لعلوم الدين، ومعرفتهم بالمذاهب، و اعتدال منهجهم و سلامة سلوكهم من الإفراط و التفريط ،و اجتناب الشطط في أي جانب من جوانب الدين.متقنا للكلام، ضابطا له، قال ابن عون ـ رحمه الله :" سمعت محمدا يعني ابن سيرين يقول في شيء راجعته فيه :إني لم أقل لك: ليس به بأس إنما قلت لك : لا أعلم به بأسا".
والمقصود بالتقوى الباطنية أن يكون على منوال سفيان الثوري و الإمام أحمد و البخاري في التقوى و الورع، فإن ذلك معين له على مقاومة تأثير النفس، ودفع ما تحمل من أحقاد على أقوال و آراء يتسرب البغض منها إلى قائلها وهو لايشعر،كما تعينه التقوى الباطنية على مقاومة الغلو و التطرف و الإسراف في أصحابه و بطانته، فإنهم يريدونه على هواهم، و أن يحب ما يحبون و يبغض ما يبغضون، فيردهم بتقواه إلى منهج الاعتدال و الحكمة ،فاضطراب العلماء بين اعتقاد الرجحان ورجحان الاعتقاد أمر مشاهد فيهم، معلوم عنهم.
كما عليه رعاية حقوق العلم و حقوق العلماء، و حقوق الألفة بين المسلمين ، فلا يتكلم إلا عن ضرورة ، و بأقل الألفاظ التي تؤدي الغرض، فلا يسلط لسانه و قلمه على شخص يجعل ديدنه الكلام في جرحه، يلوح به في كل مناسبة ،ولا يجعل جل اعتنائه بالعلوم في هذا الباب، فيفني فيه عمره،فإن من كتبوا في "الجرح و التعديل" كتبوا في جميع العلوم.
فمن جعل الجرح و التعديل ديدنه قد يكون يحب الطعن في الناس، و قد أزرى بهذا العلم الشريف و مثله لا ينبغي الاحتجاج به،قال عون بن عبد الله:" ما أحسب أحدا تفرغ لعيب الناس إلا من غفلة غفلها عن نفسه"و قال بكر بن عبد الله المزني:"إذا رأيتم الرجل موكلا بعيوب الناس ناسيا لعيبه فاعلموا أنه قد مكر به".
4 ـ الفرق بين منهج التركيب و منهج التحليل في الجرح و التعديل:

الجرح و التعديل قد يقع رواية و قد يقع اجتهادا، فمن العلماء من هم فيه بمنزلة الشهود ينقلون الأخبار و يؤدون الشهادات فقط لا دراية لهم بالمذاهب و العلوم و مسالكها، فأحكامهم لا يعتد بها المحققون من العلماء ودورهم لا يتعدى أداء الشهادة على وجهها،ومنهم من هم فيه بمنزلة القضاة يسمعون الشهادة و يتصرفون فيها قبولا وردا[4].
وعليه فمن كان من القسم الأول ـ وهو حال أكثر أهل العلم ممن لم يبلغوا درجة الاجتهاد ولذلك فإن العلماء الذين كتبوا في الجرح و التعديل تفصيلا يمكن عدهم على أصابع اليد ـ و تجاوز دور أداء الشهادة إلى التصرف فيها ،و بناء الأحكام عليها، يجنحون إلى منهج التركيب في الحكم على الأشخاص، و التركيب غرضه تسجيل المثالب أو التركيز عليها فقط.
وهذا الصنف إذا دققت النظر في كلامهم و منهجهم وجدتهم إما مقلدة في الفقه و العقائد، ضعفاء في علوم الآلة، لا يعرفون المسالك، قد يجرحون بقول هو عين قول أهل السنة و الجماعة يحسبونه كلاما أو فلسفة، و قد يمدح قول هو عين قول الضالين من الفرق،عاجزين عن البحث و الاستقصاء، و السبر و التحقيق وفي غالب الأحيان يجرحون من يخالف مذهبهم أو شيوخهم، فيدفعون عن أنفسهم المخالف بجرحه و ثلبه، و بالتالي الجرح و التعديل عندهم قد نقلوه من وظيفته التي هي حماية الأسانيد و جماعة المسلمين إلى سلاح أو مرجح من المرجحات الفقهية و العقدية .
وهؤلاء هم من عوام المحدثين أو العلماء يجرحون بما ليس بجرح، و أكثر المعاصرين ممن نصب نفسه للكلام في العلماء و الدعاة قد جرى على عادة عوام المحدثين ممن يجرح بما يقع تحت يده، سمتهم العامة الميل و التعسف.
فصاحب هذه الطريقة أقصد طريقة التركيب يسرد الجرح و يسكت عن التوثيق، أو يتحقق من روايات الجرح، و يترك التوثيق مجملا.
أما في العلم فتجده شديد الميل إلى التهجين و الذم، و معلوم أن تقرير الحق لا يحتاج إلى التهجين و الذم، فمن قرر الحق استغنى عن تهجين المخالف، ولو كان من أهل الباطل.
أما القسم الثاني من العلماء المعتنين بهذا العلم فيجنحون إلى السبر و التقسيم، و منهجهم التحليل لا التركيب ، فغرضهم تحقيق الأقوال و الإحاطة بالأسباب الموجبة لقبول الجرح و التعديل أو رده، و لا أعرف فيما قرأت من أعمال المتأخرين من هذه صفته إلا المعلمي ـ و الشيخ الألباني رحمهما الله ـ
الإنسان في حياته يمر بمراحل علمية و سلوكية تقتضي الموازنة:

إن الإنسان ليس كيانا زمنيا واحدا، لا يطرأ عليه التغيير و التحول ،بل الإنسان شديد التغير و التحول كما هو شديد الهم و العزم ، ينتقل في حياته من همة إلى همة، ومن عزيمة إلى عزيمة ،هذا دأبه، فلا يمكن له في مجال العلم أو السلوك أن ينشأ كاملا متكاملا، و يدوم على حالة واحدة،بل الإنسان يتعلم في كل يوم ،وقد ينظر فيما كتبه السنة الماضية فيضحك من نفسه ،وهنا تتجلى قيم الإنسان العاقل ،الذي إذا غير رأيه لا يدعوه ذلك إلى إنكار السابق، لأنه يعلم أنه جزء من شخصيته ،في حين أن غيره في بحثه الدائم عن وحدة الرأي في الأزمنة المختلفة، وفي أطوار حياته، يريد أن يخرج من الوجود كل ما كان منه باعتباره خطأ وغلطا،فيلغي جزء من شخصيته حتى يذوب في نوع من التجريد و المثالية تدعوه لإقصاء المخالف، بل عدم النظر إليه أصلا كمن كان إخوانيا أو تبليغيا أو غير ذلك وينكر ذلك.
نعم المطلوب من العالم و الداعي إلى الله أن يراجع كلامه باستمرار ،و يقارنه بدلائل النصوص، فإن هو وافقها فما عليه من حرج،و إن خالفها ـ ولو في مسائل صغيرة ـ فالواجب الرجوع إليها ،وفي ذلك من الفضل له و الرفعة في الدنيا و الآخرة مالا يقدره إلا الله ،لأنه من الرجوع إلى الحق.
ولكنه في هذه العملية التي هي محاورة المخالف ومراجعة النفس باستمرار يتجرد من الخصومات وما تولده من أحقاد و ضغائن و شحن نفسية،و ينظر في المسائل العلمية متجردا من بواعث النفس.
فهو في محاولته إدراك الحقائق،أو إيصالها للمخالف لا يتحرش به بذم مذهبه أو مشيخته، بل يظهر له مزايا ما وصله هو من الحق ليرغبه فيه، وليدع له متنفسا ومتسعا من الوقت، فإن الحق يخمر في العقول، و أحيانا يحتاج إلى الوقت ليظهر.
وعندما تختلط الأمور فمن يوّثق يجرح، ومن يجرح يوثق بدون الرجوع إلى أصول ثابتة، يرتد هذا العلم عمليا على نفسه، و يفقد قيمته في الواقع، و يؤكد انتقادات بعض الناس عليه .
لقد فرق العلماء قديما بين نوعي العلم عندما قالوا : العلم إما خبر و طريقه التصديق ،و إما برهان و طريقه التصور ، فالعلم الأول هو العلم النقلي السمعي علم الرواية و نقل الأخبار و المقالات ،وفي هذا العلم يجب أن يكون الراوي عدلا ضابطا عالما بما ينقل .
أما العلم الثاني فهو علم يعتمد البرهان من الكتاب و السنة و الإجماع و القياس و غير ذلك من أصول ثابتة و متفق عليها بين المسلمين ، وهذا العلم النقاش فيه و المناظرة فيه و الجدال حوله لا يعتمد على الجرح التعديل، و لم نر أحدا من أهل السنة رد على مقالة متكلم أو متفلسف أو ملحد أو مخالف بجرحه، بل ناقضه بالعلم و البيان ، وهذا العمل الفاسد مناقضة أدلة الخصوم بجرحهم ،و الاكتفاء بذلك دون الرد العلمي المعتبر لا أصل له عند أهل السنة، بل قد يكون من البدع المنهجية التي ظهرت في هذا العصر .
نعم الجرح والتعديل يجب العود إليه عند الترجمة ، مع مراعاة الإنصاف و العدل ،و لكن في النقاش العلمي لا يفل الدليل إلا الدليل ، ومحاولة صيانة المسلمين بهذه الطريقة ظهر فشلها في التاريخ الإسلامي الطويل، فكثير من الكتب أو العلوم التي نهى بعض العلماء عن قراءتها أقبل الناس عليها دراسة ورشفوا منها حتى ظهرت كما حصل مع الفلسفة و المنطق والكلام.
فالناس يحبون الممنوع، ولا يحبون الحجر على عقولهم بحجة من الحجج، و لذلك لما قام شيخ الإسلام بنقض الفلسفة و المنطق نقضا علميا نزيها ولم يكتف بالتحذير منها أو ذمها استفاد كثير من الناس من الموافقين و المخالفين له بذلك.
فإذا يجب التفريق بين المعالجة العلمية الحوارية النقاشية للاختلافات العلمية ،و المعالجة بالفتوى ، فهذه الثانية قد تنفع عند بعض الناس وهم العوام الذين يجب تحذيرهم من الكتاب و الكتب التي قد تضر بعقيدتهم ومنهجهم، و لمدة قصيرة فقط، أما عند طلبة العلم فإنها لا تنفع و لا تحصنهم من شيء ،والواقع خير شاهد على ذلك .
و قد سئل شيخ الإسلام عن كثير من الكتب ولم ينه عن قراءتها صراحة بل ضمنيا، و ذلك بتقييمها علميا، و بيان الأصول العلمية فيها ، والحق الذي فيها من الباطل فيصبح الإنسان على علم وبينة من هذه الكتب ،لا يرفضها و ينهى عنها بدون دليل فعلي ومعتبر .
ولما قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ :من لم يربع بعلي فهو أضل من حمار أهله ،قال له الناس:من السلف من يربع به ولا يجوز أن يقال هو أضل من حمار أهله ،وهم من جلة المسلمين و أكابرهم،فهذا عدم تدقيق للعبارة صدر من الإمام أحمد، لم يقابله أهل السنة بالطعن فيه بأنه يطعن في الصحابة، لأنهم يعرفون منهج الإمام أحمد و عقيدته في الصحابة ، هكذا كان السلف لم يكن حب الشخص وكونه من الجماعة يمنعهم من انتقاده، ولو كان من الأكابر،ولكن انتقادا علميا مهذبا، ولا يتجاوزون الحد في نقده، فيخرجونه من السنة، وهم يعلمون أن معظم أصوله أصول أهل السنة و الجماعة.
إن قبولنا النقد الذاتي،وهو أن ننتقد بعضنا البعض على بعض مالا نتوافق عليه، أو ننقد أنفسنا كمسلمين ،فنقول كان علينا أن نفعل كذا، أو أننا مقصرون في فعل كذا، أو أننا اهتممنا بالمجال الفقهي و فرطنا في مجالات أخرى أهم منه، ليس هو نقدا لأهل السنة والجماعة أو لديننا عبر العصور، ولكنه نقد لأنفسنا كأتباع لأهل السنة أو كمسلمين، قد نخطئ علي سلفنا في الفهم، وننسب إليهم ما ليس من منهجهم و أصولهم الثابتة.
و كل من سلك منهج الانتقاد بالجرح و التعديل عنده من الأخطاء ما يمكن جرحه بها، حسب هذا الميزان المختل، ولا يوجد من ليس عنده أخطاء في العلم و التقدير، فالواجب الرجوع إلى ميزان محكم، وتاريخ الإسلام يوفر لنا ذلك حتما.
هذه هي حالة الجرح و التعديل و البغي الواقع اليوم بين أهل السنة، تركوا العلم وحرية الاجتهاد، و محاولة التجديد التي كان السلف يتسمون بها، و بها يخوضون في العلم و المناظرات و أقبلوا على التصنيف و التقسيم للناس بغير هدى ولا كتاب منير.
لقد حوّر المعاصرون ـ بعضهم ـ علم التراجم و الجرح و التعديل، من علم يقيّم علماء الدين التقييم العلمي الموضوعي إلى علم هو مجرد التصنيف بحسب الظنون و الأهواء ،غالبيته نابع من الخلافات الشخصية حتى أصبحت التهمة بالشيء إثباتا، و أصبح التحذير حكما، و كثر القيل و القال ،و انصرف الناس إلى ما لا ينفعهم في دينهم وتركوا ما ينفعهم فيه ، لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه " قال شيخ الإسلام في شرحه: الاهتمام بدين غيرك .
لقد عرّ ف النبي صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية بأنهم السواد الأعظم ، وهم غالبية المسلمين ،فيأتي الناس اليوم يريدون تحديد الفرقة الناجية بامتحان الناس ببحوث أكاديمية ليست في متناولهم معرفيا ونفسيا ، فمن الناس من يقيم فرائض الإسلام،وفيه من الإيمان بالله و برسوله ومحبته لهما الشيء الكثير، و يجتنب الموبقات و الكبائر و النواهي حسب الاستطاعة والقدرة، ولكن عنده بعض الشبهات الموروثة ،وليس هو من أهل العلم أو لم يجد من يرد شبهاته نخرجه من الفرقة الناجية و السواد الأعظم بدون دليل ، ولذلك قال شيخ الإسلام في القول بأن الطائفة الفلانية أو الشخص الفلاني من الفرقة الناجية أولا يحتاج إلى دليل قال شيخ الإسلام في" المجموع"{215/3}:"الحمد لله، الحديث صحيح مشهور في السنن و المسانيد، كسنن أبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم{....} ولهذا وصف الفرقة الناجية بأنها أهل السنة و الجماعة ،وهم الجمهور الأكبر ،والسواد الأعظم.
و أما الفرق الباقية ، فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع و الأهواء، ولا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريبا من مبلغ الفرقة الناجية ، فضلا عن أن تكون بقدرها، بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة ، و شعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع ، فمن قال بالكتاب و السنة و الإجماع كان من أهل السنة و الجماعة.
و أما تعيين هذه الفرق ، فقد صنف الناس فيهم مصنفات، وذكروهم في كتب المقالات، لكن الجزم بأن هذه الفرقة الموصوفة هي إحدى الثنتين و السبعين لابد له من دليل، فإن الله حرم القول بلا علم عموما، وحرم القول عليه بلا علم خصوصا"
و عليه فإن دائرة أهل السنة و الجماعة دائرة كبيرة ينتمي إليها كثير من دعاة السنة اليوم، ممن أخرجوا منها بعبارات موهمة [5] ، وكونهم لم يخرجوا عن أهل السنة و الجماعة لا يعني أن أخطاءهم ليست بأخطاء أو أنهم غير قابلين للنقد العلمي، أو هي القول الراجح عند أهل السنة و الجماعة، و لكن يعني ذلك أن خطأهم إذا صح أنه خطأ لا يخرجهم من أهل السنة و الجماعة .
كذلك يجب أن نعرف و نثبت في عقولنا ووجداننا أن من قال بالكتاب و السنة و الإجماع هو من أهل السنة و الجماعة كما ذكره شيخ الإسلام سابقا.
النقد العلمي للمقالات و الآراء دون تجريح أصحابها أو تسفيههم أو ذمهم عمل قد قصر فيه كثير من الناس تأدية وقبولا، فالإشكال عند المسلمين اليوم هو إما أن أمدحك زاعما أنك مصيب في كل شيء وما علمته من أقوالك لا انتقده و إن خالف آرائي و أقوالي، و إما أن أذمك زاعما أنك أخطأت في كل شيء، فالحد الأوسط يكاد ينعدم.
ومعلوم أن النفس إذا كدرت تكدرت و كما قيل:
و ما النفس إلا نطفة بقرارة إذا لم تكدر كان صفوا غديرها
وعليه وجب على أهل العلم وطلبته توقير بعضهم البعض، والإنصات لبعضهم البعض و اعتبار كلام بعضهم البعض و إن كانوا مختلفين في بعض القضايا و الآراء و التوجهات.
وهذا يدعونا إلى توضيح النقد ووجوبه وضرورة عدم خلطه بالطعن:

قال شيخ الإسلام في " الأصفهانية ":" فأجاب إلى ذلك، واعتذر بأنه لا بد عند شرح ذلك الكلام من مخالفة بعض مقاصده لما توجبه قواعد الإسلام، فإن الحق أحق أن يتبع، والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين، والله تعالى يقول: ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )[الحشر:7] ، ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) [الأحزاب:6]، ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيها شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )[النساء:65] ، ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا )[النساء:59] .
هذا الأصل الذي أشار إليه شيخ الإسلام هو لازم لتحقيق الموالاة والمعاداة في الله،فمن كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، كان الحق أحب إليه من كل ما سواه ،فلزوم النصيحة لدين الله، والنصيحة للمسلمين ،ولو كان في ذلك مخالفة بعض الأكابر من العلماء و الأئمة، أو مخالفة الأحباب و الأصحاب ، فمن كان غرضه موافقة الحق أظهره، ولو على حساب أعز الناس عليه ، ومن كان غرضه الحق قبله،ولو جاءه من أبغض الناس إليه ، فما دام غرضنا مرضاة الله،وجب علينا التناصح وقبول النصيحة،وليس هذا الاعتقاد قولا نقوله بلسان المقال، و بلسان الحال تثور غوائلنا إذا خالفنا غيرنا.
إن عقيدة السلف يجب أن تعم كذلك سلوكنا الأخلاقي، وسلوكنا العلمي، وهذا هو تجريد الإتباع من الأهواء والشهوات، لأن البعض يعتقد أنه إذا اتبع شيخا مرموقا في السنة فقد جرد الاتباع، وهو مع ذالك يعادي من أجله ،ويجرح ويغضب لأجله.
كذلك يجب التفريق بين أنواع الأخطاء فلا نرجح قولا على قول المخالف، وعنده من الأدلة مثل ما عندنا ثم نخطـأ قوله ونرد عليه كالرد على المخالفين للحق الظاهر فهذا من أبطل الباطل ، ولكن نناقشه مناقشة المذاكرة و المساجلة العلمية ، لا مناقشة إبطال الباطل و إحقاق الحق، فهذا ضابط مهم يجب مراعاته ، فعندما يخالف بعض أهل العلم بعضهم في مسائل علمية ، ثم يقولون: هذا بيان لأخطاء الشيخ العلمية، و يبنون على ذلك استراتيجية تحطيم الأساسات، فهذا من الجور والغرور ،وليس من هذه القاعدة التي ذكرها شيخ الإسلام ، وهذا العمل تجده بمطالعة كتب السلف في الفقه و الحديث لا يخطئون بعضهم البعض مع أنهم يخالفون بعضهم البعض ،أما إذا تعلق الأمر بأصول الدين فتراهم يصرحون بالتخطئة.
قوة سطوة المشاعر الباطنية على ترجيح الاعتقاد:

وهذا باب ضيق على كثير من الناس ، لاختلاف نفوس الناس ، و قدرة كل واحد على السيطرة على نفسه و إلزامها أمر الله ، فالإنسان فيه ظلم وجهل ، فإذا غلب عليه رأي في الفقه أو الحديث أو السياسة أو غير ذلك ، أو غلب عليه خلق ، كالشدة أو اللين أو التسرع وغير ذلك ، استعمله في الحق و الباطل جميعا، فلا يحفظ حدود الله في هذه الدقائق.
لأنه لا يعرف من حدود الله إلا الأوامر والنواهي الظاهرة ، المشهورة ، المعروفة ،فمثل هذا إن كان في خلقه لين وسماحة ، فتجده يسمح لمن ظلمه ، ويعفو ، ويلين الخطاب للناس وهذه أمور حسنة يحبها الله ، ولكن تجده من جهة أخرى يسمح في معصية الله ، ولا يغضب لذلك ، ويجيز الإنفاق في غير المعروف ، فهو يحب الحق ، ويحب الباطل معا، وآخر يكون في خلقه شدة وصلابة ككثير من العوام ، فيمتنع عن الذنوب و المعاصي ، ويبغضها ، ولكنه يبغض كذلك الناس ، ولا يحسن إليهم ، ولا يحلم عن سيئاتهم ، فتجده يبغض نواعا من الحق و يحب نوعا ، ويبغض نوعا من الباطل ويحب نوعا.
فالإنسان فيه النفس الأمارة بالسوء ،ويزين له الشيطان سوء عمله ، وفيه الخير و الإيمان الذي يدعوه للمعروف ، فتجتمع فيه حب سيئة وبغض سيئة ، وحب حسنة وبغض حسنة ،فتجتمع في قلبه السيئات والحسنات ، لأن خلقته قد اجتمعت فيها قوتان : قوة الحب وقوة البغض،، فيستعملهما معا في الحق ، ويستعملها معا في الباطل ، و إنما خلق الله فيه قوة الحب ليحب الحق الذي يحبه الله ، وقوة الغضب و البغض ، ليبغض الباطل الذي يبغضه الله .
فترة تغلب عليه هذه القوة فيميل معها ، وتارة تغلب عليه الأخرى فيميل معها ، والسعيد من جعل قوة حبه ، وقوة بغضه مع النصوص ، فما أبغضه الله أبغضه هو ، وما أحبه الله أحبه هو ، فيكون ولاؤه لله تاما ،لان حبه لله فوق حبه لكل واحد .
وعليه ، فمن تدعوه نفسه إلى الشتيمة والوقيعة و الغضب ، و الكذب و البهتان إذا انتقد شيخه،أو إمامه فحبه لله دون حبه لشيخه ، قد أعطى شيخه كمال محبته وبغضه.
لقد قال قديما رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا في الخوارج كما في الحديث المشهور بين فيه الفرق بين التقوى و التشدد و الغلو ، فإذا كان الناس اليوم يعدون الغلو و التشدد مع المخالف علامة على حسن الدين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عد ذلك لا شيء عند الله إذا لم يأخذ بالحكمة من السنة ،و يكون على أساس العقيدة الصحيحة، وبذلك يكون قد قرر أصلا من أصول أهل السنة و الجماعة ،وهو أن المعتبر في قيمة الأشخاص سنة العقائد، و أن وجود سنة الأحكام معزولة عن سنة العقائد لا قيمة له عند الله .
و عندما يصبح المسلم اليوم يقيم الأشخاص بناء على سنة الأحكام في الملبس و الهيئة و الأحكام الفقهية، ولا يعير سنة العقائد الأهمية اللازمة لها يكون قد ترك نصيبا وافرا ومهما من منهج أهل السنة و الجماعة ، وعليه قد ترى بعض أتباع أهل السنة و الجماعة في هذا العصر يدخلون الواحد في جماعتهم بقول واحد في سنة العقائد، لأنه يوافقهم في سنة الأحكام، و يخرجون آخر بخطأ واحد في سنة الأحكام، مع أنه يوافقهم في سنة العقائد .
جوهر الفرق بين التميز عن المخالف و الهروب من المخالف:

الهروب من أدلة الخصوم و شبهاتهم، و الحجر على العقول الصحيحة ، ورفض الاستماع إلى المخالف والنظر فيما عنده لتقويمه و معالجته، أصبح السمة الرئيسية لأكثر من يدعي السنة بمجرد كلمة تخالف فيها رؤية أحدهم يفر منك و ينبذك ظنا منه أن هذه الطريقة قد تنفع ، وهي في الحقيقة لا تزيد الطين إلا بلة ،إذ يجب التفريق بين أن أتميز عن المخالف بمنهجي و علمي و سلوكي و بين الهروب منه،فإنني متى هربت منه دل ذلك على أني غير موقن بمنهجي و علمي و سلوكي فأخاف أن يؤثر علي ، ومتى فقد صاحب العلم يقينه تاه في بحر الأقوال.
هذا ما بان لي إخباركم به اختصرته من بحث طويل عميق حرصا على الفهم و التدبر و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على اشرف المرسلين.
أرزيو في2009-03-31
مختار الأخضر طيباوي

[1]ـذهب أبو حنيفة إلى أنه يستتاب و أن مجرد الطعن لا ينقض به العهد إلا مع وجود النكث، لأن الله عز وجل أمر يقتلهم بشرطين:أحدهم:نقض هم العهد، والثاني:طعنهم في الدين.
وذكر القرطبي في تفسيره أنهم يقاتلون بارتكابهم أحد الأمرين<83/8>.

[2] ـ قال ابن فرحون:الشهادة في حق الله قسمين: قسم تستديم فيه الحرمة كالنكاح و الطلاق فلا يتركها، وتركها جرحة في عدالته ،وقسم لا تستديم فيه الحرمة كالزنا و الشرب فإن تركها أفضل ما لم يدع لأدائها.

[3] ـ قيل للربيع بن خثيم:ألا تذكر الناس؟ فقال: ما أنا عن نفسي براض فأتفرغ من ذمها إلى أن أذم الناس، إن الناس خافوا الله في ذنوب الناس و أمنوه على ذنوبهم".
و إذا أردت أن تعرف ماهو ضبط اللسان كجهاد نفسي داخلي فتأمل قول يونس بن عبيد:"عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها،وأن تكره لهم ما تكره لها فإذا هي من ذلك بعيد،ثم عرضت عليها مرة أخرى ترك ذكرهم إلا من خير ،فوجدت الصوم في اليوم الحار الشديد الحر بالهواجر بالبصرة أيسر عليها من ترك ذكرهم"،وقال:"لا تجد شيئا من البر واحدا يتبعه البر كله غير اللسان،فإنك تجد الرجل يكثر الصيام و يفطر على الحرام، و يقوم الليل و يشهد بالزور، ولكن لا تجده لا يتكلم إلا بحق فيخالف ذلك عمله أبدا"


[4]ـ قال ابن تيمية في"المسودة"{ص:244}:" هذا الباب يفرق فيه بين جرح الرجل وتزكيته و بين جرح الحديث و تثبيته، ويفرق فيه بين الأئمة الذين هم في الحديث بمنزلة القضاة في الشهود و بين من هو شاهد محض، فإن جرح المحدث يكون بزيادة علم، و أما جرح الحديث فتارة يكون للاطلاع له على علة و تارة لعدم علمه بالطريق الأخرى أو بحال المحدث به".

[5] ــ مما انتقد على بعضهم وجرح به أن خطبه ثورية ، وهذا في ميزان الجرح والتعديل غير كاف ، فإن اللفظ الأول لفظ مطلق قد يدل على الكثير و قد يدل على القليل ،كذلك ما يعده المنتقد أنه ثوري قد لا يعده آخر كذلك، بل يعده من قبيل النصيحة و الصدق في الخطاب ،فصدق اللهجة وحدتها قد يكون أمرا مزاجيا، وقد يدل على الإخلاص كما قد يدل على النعرة و التعصب، فهذا لفظ كما يقال في علم الجرح و التعديل مبهم غير مفسر.