بحديث حذيفةبن اليمان رضي الله عنه قال: «قال رسولُ الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «يَدْرُسُ الإِسْلاَمُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ، حَتَّى لاَ يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلاَ صَلاَةٌ وَلاَ نُسُكٌ وَلاَ صَدَقَةٌ، وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي لَيْلَةٍ، فَلاَ يَبْقَى فِي الأََرْضِ مِنْهُ آيَةٌ، وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ: الشَّيْخُ الكَبِيرُ، وَالعَجُوزُ، يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الكَلِمَةِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فَنَحْنُ نَقُولُهَا».
فقال له صِلَةُ: ما تغني عنهم «لا إله إلاَّ اللهُ» وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأَعْرَضَ عنه حذيفةُ، ثمَّ رَدَّهَا عليه ثلاثًا، كُلَّ ذلك يُعرِضُ عنه حذيفةُ، أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلةُ! تُنجيهم من النار -ثلاثًا-»(١- أخرجه ابن ماجه في «سننه»، كتاب «الفتن»، باب ذهاب القرآن والعلم (4049)، والحاكم في «المستدرك» (4/520)، من حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه. والحديث قوى إسناده الحافظ في «فتح الباري» (13/16)، وصحّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1/171).).
فهذا الحديث يفيد أنَّ الجهل يفشو في آخر الزمان وتغيب كثيرٌ من الأحكام الظاهرة والمتواترة لاِنْدِرَاسِ كثير من علوم الكتاب والسُّنَّة، فدلَّ ذلك دلالة واضحة على إعذارهم بالجهل لأركان الإسلام وتفاصيله، وهذا المعنى مطلوبٌ توجيهه إن أمكن وجزاكم الله خيرًا.
الجـواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالحديث خارج عن مسألة التوحيد وترك الشِّرك الذي هو أصل الدِّين كُلِّه، فلم يرد عنهم أنهم أتوا ما يناقض كلمة الإخلاص التي كانوا يقولونها، وغاية ما يدلُّ عليه أنهم تركوا كثيرًا من تفاصيل الإسلام وأركانه الظاهرة والمتواترة بالنظر إلى فُشُوِّ الجهل واندراس الدِّين، ويكفي المسلم أدنى الإيمان في قلبه، والإقرار بالشهادتين بلسانه إذا لم يقدر على أداء ما افترض اللهُ عليه من أركان الإسلام وتفاريعه، كمن مات قبل التمكُّن من الامتثال بالفعل أو كان قريبَ عهدٍ بالإسلام أو في بلدٍ انْدَرَسَتْ فيه تعاليمُ الإسلام، بحيث تكون مسائل الاعتقاد والأحكام خفيةً، وقضاياها غيرَ معلومة، أو كانت أدلَّتها غير ظاهرة، ففي هذه الأحوال يُعذر بالجهل قبل قيام الحُجَّة الرِّسالية، وكشف الشُّبهة وإظهار المحجَّة، بخلاف حال من نشأ في بلدِ عِلْمٍ، والأمور الشرعية والمسائل الدينية منتشرة، ومشهورة بين الناس: عالمهم وعامِّيهم.
وضمن هذا المنظور قال ابن تيمية -رحمه الله-: «.. وأمَّا الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيءٍ منها بعد بلوغ الحُجَّة فهو كافر، وكذلك مَن جحد تحريمَ شيءٍ من المحرَّمات الظاهرة المتواتر تحريمها، كالفواحش والظلم، والكذب والخمر، ونحو ذلك، وأمَّا من لم تقم عليه الحُجَّة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك، أو غلط فظنَّ أنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يُستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر، وأمثال ذلك، فإنهم يستتابون وتقام الحُجَّة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذٍ، ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك، كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا من التأويل»(٢- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (7/609 -610).).
وقال –رحمه الله- في موضعٍ آخر: «.. مثل من قال: إنَّ الخمر والربا حلال لقرب عهده بالإسلام أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلامًا أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن، ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قالها، وكما كان الصحابة يشكُّون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم(٣- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (35/165).)
وجاء في كتاب «التوضيح عن توحيد الخلاق» ما نصه: «وأمَّا إخراج الله من النار مَن لم يعمل خيرًا قط، بل كفى عن العمل وجود أدنى إيمان في قلبه وإقرار بالشهادتين في لساله فهو إمَّا لعدم تمكُّنه من أداء ما افترض الله عليه من أركان الإسلام بل بمجرَّد أدنى إيمان في قلبه وشهادة بلسانه خرمته المنية، لكنه قد عمل عملاً مفسِّقًا به لوجود ما صدر منه عالِمًا به فاستحقَّ دخول النار عليه، وإمَّا لكونه نشأ في مكانٍ قريبٍ من أهل الدِّين والإيمان فلم يعمل ما أوجب اللهُ على خلقه من تفاصيل الدِّين والإيمان والإسلام وأركانه، بل جهل ولم يسأل أهل الذِّكر عنه، وبأنَّ الله أوجب على خلقه المكلَّفين التفقُّه في الدِّين وإن لم يحصل إلاَّ بقطع مسافة كثيرة غير معذور بهذا الجهل، إذ مثله لا يجهل ذلك لقُربه من المسلمين، فيعاقبه الله على ترك تعلُّم ما أوجب الله عليه، ولهذا لا يخلَّد في النار إن لم يوجد منه منافٍ للإسلام من إنكار أمر عُلم من الدِّين بالضرورة، ولم يمتنع من إجابة إمام المسلمين إذا دعاه لتقويم أركان الدِّين، بل هو مؤمنٌ بالله لكنه جهل تفاصيل ذلك وأحكامَه وما يحب عليه منه»(٤- «التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق» لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (105-106)، وقد رجّح الدكتور عبد العزيز بن محمّد بن عبد اللطيف أنه من تأليف الشيخ محمّد بن علي بن غريب، والشيخ حمد بن معمر، والشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. انظر «دعواى المناوئين» (59).).
قال سفيان الثوري -رحمه الله- ضمن ردِّه على المرجئة-: «ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمِّدًا من غير جهل ولا عُذر هو كفر»(٥- «السنة» لعبد الله بن أحمد: (745).).
هذا بالنسبة لتارك تفاصيل الإسلام وأركانه الظاهرة أو المتواترة، أمَّا مَن وقع في المعصية جهلاً أو لقِلَّة العلم كالشِّرك والقتل والزِّنا فإنَّ هذه الأفعال توصف بالقُبح قبل ورود الشرع وبعده، ويُسمَّى فاعلُها بها، فمن قتل يسمَّى قاتلاً، يثبت وصف القتل مع الجهل قبل قيام الحُجَّة وبعدها، وكذلك من زنا يسمَّى زانيًا أو أشرك يسمَّى مشركًا فإنَّ وصف الزِّنا والشِّرك يثبتان للمتَّصف بهما مع الجهل قبل قيام الحُجَّة وبعدها، فإنَّ هذا من جهة تسمية الصِّفة المتلبَّس بها، أمَّا من جهة الحكم فإنَّ مرتكِب هذه المعاصي لا يستحق العقاب إلاَّ بعد البلاغ، لقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: 15]، ولقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ﴾ [الملك: 8-9]، فدلَّت الآية على اعتراف كُلِّ فوجٍ ممَّن يدخل النار أنه جاءهم نذير، فمن لم يأته نذير لم يدخل النار(٦- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (19/215).)، إذ «لاَ تَكْلِيفَ إِلاَّ بِشَرْعٍٍ»، و«الشَّرْعُ يَلْزَمُ بِالبَلاَغُ مَعَ انْتِفَاءِ المُعَارِضِ».
وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذا التفصيل بيانًا شافيًا بقوله: «وقد فرَّق اللهُ بين ما قبل الرِّسالة وما بعدها في أسماء وأحكام، وجمع بينهما في أسماء وأحكام، وذلك حُجَّة على الطائفتين: على مَن قال: إنَّ الأفعال ليس فيها حسن وقبيح، ومن قال: إنهم يستحقُّون العذاب على قولين، أمَّا الأول فإنه سمَّاهم ظالمين وطاغين ومفسدين، لقوله تعالى: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ [النازعات: 17]، وقوله: ﴿وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: 10-11]، وقوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 4]، فأخبر أنه ظالم وطاغ ومفسد هو وقومه، وهذه أسماء ذمّ الأفعال، والذمّ إنما يكون في الأفعال السيِّئة القبيحة، فدلَّ ذلك على أنَّ الأفعال تكون قبيحةً مذمومةً قبل مجيء الرسول إليهم، لا يستحقُّون العذاب إلا بعد إتيان الرسول إليهم، لقوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: 15]، وكذلك أخبر عن هود أنه قال لقومه: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ﴾ [هود: 50]، فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكمٍ يخالفونه، لكونهم جعلوا مع الله إلهًا آخر.
فاسم المشرك ثبت قبل الرِّسالة، فإنه يشرك بربِّه ويعدل به، ويجعل معه آلهةً أخرى، ويجعل له أندادًا قبل الرسول، ويثبت أنَّ هذه الأسماء مقدم عليها، وكذلك اسم الجهل والجاهلية، يقال جاهلية وجاهل قبل مجيء الرسول، وأمَّا التعذيب فلا»(٧- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (20/37-38).).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.

الجزائر في: 5 من ذي القعدة 1429ﻫ
الموافق ﻟ: 3 نوفمبر 2008م
١- أخرجه ابن ماجه في «سننه»، كتاب «الفتن»، باب ذهاب القرآن والعلم (4049)، والحاكم في «المستدرك» (4/520)، من حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه. والحديث قوى إسناده الحافظ في «فتح الباري» (13/16)، وصحّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1/171).
٢- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (7/609 -610).
٣-«مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (35/165).
٤- «التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق» لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (105-106)، وقد رجّح الدكتور عبد العزيز بن محمّد بن عبد اللطيف أنه من تأليف الشيخ محمّد بن علي بن غريب، والشيخ حمد بن معمر، والشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. انظر «دعواى المناوئين» (59).
٥- «السنة» لعبد الله بن أحمد: (745).
٦- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (19/215).
٧- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (20/37-38).