الشرح الممتع على زاد المستقنع
بَابُ نِكَاحِ الكُفَّارِ
حُكْمُهُ كَنِكَاحِ المُسْلِمِينَ، وَيُقَرُّونَ عَلَى فَاسِدِهِ إِذَا اعْتَقَدُوا صِحَّتَهُ فِي شَرْعِهِمْ، وَلَمْ يَرْتَفِعُوا إِلَيْنَا، فَإِنْ أَتَوْنَا قَبْلَ عَقْدِهِ عَقَدْنَاهُ عَلَى حُكْمِنَا،....
قوله: «نكاح الكفار» الكفار هنا عام يشمل أهل الكتاب، والمشركين، ومن لا يتدين بدين.
قوله: «حكمه كنكاح المسلمين» أي: حكم نكاح الكفار كنكاح المسلمين في جميع آثاره، وما يترتب عليه، فمنه صحيح ومنه فاسد، ويقع به الطلاق والظهار، وتجب به النفقة، ويثبت به الإرث، ويدل لذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقر من أسلم من الكفار على نكاحه، ولم يتعرض له.
والتعليل أنه لا يمكن العمل إلا بهذا؛ لأننا لو عملنا بغير ذلك لحصل بهذا نفور عن الإسلام، وفوضى عظيمة في الأنساب وغير الأنساب، ولكن هل يقرون عليه أو لا؟ هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فمنهم من قال: إنهم لا يقرون على فاسده مطلقاً، بل يجب أن يفسخ إذا كان نكاحاً فاسداً، وكانوا تحت ذمة المسلمين، ومنهم من قال: يقرون على الفاسد بشرطين كما سيأتي، وهذا هو الصحيح، ويدل لذلك أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أخذ الجزية من مجوس هجر[(144)]، ولم يتعرض لأنكحتهم، مع العلم بأن المجوس كانوا يجوزون نكاح ذوات المحارم، يعني ينكح الإنسان أخته، عمته، خالته، ابنته، والعياذ بالله.
قوله: «ويقرون على فاسده إذا اعتقدوا صحته في شرعهم ولم يرتفعوا إلينا» ذكر المؤلف شرطين:
الأول : أن يعتقدوا صحته في شرعهم، ولو عبر المؤلف بعبارة أسدّ فقال: إذا كان صحيحاً في شرعهم؛ لأنهم قد يعتقدون الصحة، وهو ليس بصحيح بمقتضى شرعهم، كأن يكونوا جهالاً، فالمهم إذا كان هذا صحيحاً في شرعهم فإننا لا نتعرض له.
الثاني: ألا يرتفعوا إلينا، فلم يقولوا: انظروا في نكاحنا، واحكموا بيننا فيه بما يقتضيه الشرع، فإن كان غير صحيح في شرعهم، مثل أن يتزوج اليهودي أخته، فهل نقره؟ لا؛ لأن ذلك ليس صحيحاً في شرعهم، فنمنعه ونفرق بينهما، وكذلك إذا ارتفعوا إلينا فإننا لا نحكم فيهم بمقتضى شرعهم؛ لأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أمرنا أن نحكم بينهم بكتاب الله: {{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}} [المائدة: 42] فالواجب أن نحكم بكتاب الله إذا ارتفعوا إلينا، ولهذا قال:
«فإن أتونا قبل عقده عقدناه على حكمنا» أي: إذا أتونا قبل عقده يجب أن نعقده على شرعنا بإيجاب وقبول، وتعيين الزوجة والزوج، والرضا، والولي، والشهود، والمهر على القول باشتراطه.
وَإِنْ أَتَوْنَا بَعْدَهُ أَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجَانِ وَالمَرْأَةُ تُبَاحُ إِذَنْ أُقِرَّا، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لاَ يَجُوزُ ابْتِدَاءُ نِكَاحِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا،...... ....
قوله: «وإن أتونا بعده» أي: بعد ما تم العقد عندهم وصارت زوجته، جاؤوا إلينا يحتكمون في هذا النكاح، فإننا ننظر إن كانت الزوجة الآن تحل أبقينا النكاح على ما هو عليه، وإن كانت لا تحل فسخنا النكاح، فلو كانت هذه الزوجة مطلقته ثلاثاً، وهم يعتقدون حل المطلقة ثلاثاً للزوج، لكن شرعنا يحرمه، فأتونا فإننا نفسخ العقد؛ لأن المرأة لا تحل فنفرق بينهما، ولو كان هو مجوسياً تزوج أخته ثم ترافعوا إلينا بعد العقد، فلا نبقي العقد؛ لأن المرأة لا تحل، فإذا حكمنا بينهم بكتاب الله قلنا: هذه المرأة حرام عليك فيجب التفريق، فنفرق بينهما على كل حال.
وإذا قدر أنها أسلمت، وهو على كفره، فنفرق بينهما، وإذا ترافعوا إلينا بعد العقد، وكانوا قد عقدوا بغير ولي، إلا أنهم يرون ذلك صحيحاً في شرعهم لا نفرق بينهما؛ لأن النكاح صحيح، وهي الآن تحل لو أراد أن يعقد عليها من جديد.
إذن نقر العقد؛ لأن القاعدة أننا لا نتعرض لعقودهم السابقة، بل ننظر إلى ما هم عليه الآن، فإن كانوا في حال يباح للزوج أن يعقد على المرأة أبقيناه، وإلا فسخنا، ولو تزوجها في عدة، والزواج في العدة في حكم الإسلام باطل، ولكن عندهم ليس بباطل، وترافعوا إلينا بعد أن انتهت العدة، فإننا نقره؛ لأن القاعدة: «إن كانت الزوجة يصح أن يعقد عليها الآن أقر النكاح، وإلا فلا»، مثل ذلك ـ أيضاً ـ إذا أسلم الزوجان فإننا ننظر إن كانت المرأة الآن تحل لو عقد عليها أقررناهما على النكاح، وإن كان النكاح في أصله ليس بصحيح على مقتضى قواعد الشرع فرقنا بينهما، فهذا رجل وزوجته أسلما، وكان عقد النكاح بدون ولي ولا شهود فإنهما يقران عليه، وإذا كان عقد النكاح بينهما صداقة، وجرت العادة عندهم أنه إذا تصادق الرجل والمرأة وأحبا أن يكونا زوجين، فجامعها على أن هذا هو العقد عندهم، يقران ما دامت المرأة الآن تحل لو أراد أن يتزوجها، ولو أن مجوسياً تزوج عمته من الرضاع وأسلما جميعاً فإنهما لا يقران؛ لأنها الآن لا تحل له، ولو أسلم وكان قد تزوج هذه المرأة ومعه أختها، لكن أختها ماتت يقر؛ لأنها الآن تحل له لو أراد أن يتزوجها، ولهذا قال المؤلف:
«أو أسلم الزوجان، والمرأة تباح إذن أقرا، وإن كانت ممن لا يجوز ابتداء نكاحِها فُرِّق بينهما» .
فصار الضابط:
أولاً: نكاح الكفار حكمه كنكاح المسلمين في كل ما يترتب عليه من آثار، كالظهار، واللعان، والطلاق، والإحصان، ولحوق النسب، وغير ذلك.
ثانياً: إذا كان النكاح صحيحاً على مقتضى الشريعة الإسلامية فهو صحيح، وإن كان فاسداً على مقتضى الشريعة الإسلامية فإنهم يقرون عليه بشرطين: الأول: أن يروا أنه صحيح في شريعتهم، الثاني: ألا يرتفعوا إلينا، فإن لم يعتقدوه صحيحاً فرق بينهما، وإن ارتفعوا إلينا نظرنا، فإن كان قبل العقد وجب أن نعقده على شرعنا، وإن كان بعده نظرنا إن كانت المرأة تباح حينئذٍ أقررناهم عليه، وإن كانت لا تباح فرقنا بينهما، ودليل هذه الأشياء إسلام الكفار في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم فأبقى من كان معه زوجته على نكاحه في الجاهلية، ولم يتعرض له، فدل هذا على أنه يبقى على أصله.