الباب الأول
في بيان إثبات الجن والخلاف فيه
قال إمام الحرمين في كتابه (الشامل): اعلموا رحمكم الله أن كثيرا من الفلاسفة وجماهير القدرية وكافة الزنادقة أنكروا الشياطين والجن رأسا، ولا يبعد لو أنكر ذلك من لا يتدبر ولا يتشبث بالشريعة؛ وإنما العجب من إنكار القدرية مع نصوص القرآن وتواتر الأخبار واستفاضة الآثار. ثم ساق جملة من نصوص الكتاب والسنة.
وقال أبو قاسم الأنصاري في (شرح الإرشاد): وقد أنكرهم معظم المعتزلة، ودل إنكارهم إياهم على قلة مبالاتهم وركاكة دياناتهم، فليس في إثباتهم مستحيل عقلي، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم، وحق على اللبيب المعتصم بحبل الدين أن يثبت ما قضى العقل بجوازه ونص الشرع على ثبوته.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: وكثير من القدرية يثبتون وجود الجن قديما وينفون وجودهم ا لآن، ومنهم من يقر بوجودهم ويزعم أنهم لا يرون لرقة أجسامهم ونفوذ الشعاع فيها، ومنهم من قال: إنما لا يرون لأنهم لا ألوان لهم، ثم قال إمام الحرمين: والتمسك بالظواهر والآحاد تكلف منا مع إجماع كافة العلماء في عصر الصحابة والتابعين على وجود الجن والشياطين والاستعاذة بالله تعالى من شرورهم، ولا يراغم مثل هذا الاتفاق متدين متشبث بمسكة من الدين.
ثم ساق عدة أحاديث؛ ثم قال: فمن لم يرتدع بهذا وأمثاله فينبغي أن يتهم في الدين، ويعترف بالانسلال منه، على أنه ليس في إثبات الشياطين ومردة الجن ما يقدح في أصل من أصول العقل، وقضية من قضاياه، وأكبر ما يستروحون إليه خطور الجن بنا ونحن لا نراهم، ولو شاءت أبدلت لنا أنفسها، وإنما يستبعد ذلك من لم يحط علما بعجائب المقدورات، وقولهم في الجن يجرهم إلى إنكار الحفظة من الملائكة عليهم السلام. ومن انتهى بهم المذهب إلى هذا وضح افتضاحه.
قلت: وإنما طويت ذكر ما أورده إمام الحرمين من الآيات والأخبار لأن ذلك يأتي إن شاء الله تعالى مبسوطا في كل باب بحسبه.
وقال القاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمداني: إعلم أن الدليل على إثبات وجود الجن السمع دون العقل، وذلك أنه لا طريق للعقل إلى إثبات أجسام غائبة؛ لأن الشيء لا يدل على غيره من غير أن يكون بينهما تعلق كتعلق الفعل بالفاعل وتعلق الأعراض بالمحال، ألا ترى أن الدلالة لما دلت على حاجة الفعل في حدوثه إلى الفاعل وحاجته في كونه محكما إلى كون فاعله قادرا عالما وكونه قادرا عالما؛ يقتضى كونه حيا وكونه حيا لا آفة به؛ يقتضى كونه سميعا بصيرا، فدل الفعل على أن له فاعلا وأنه على أحوال مخصوصة على ما ذكرنا بينهما من التعلق.
قال: ولا يعلم إثبات الجن باضطرار، ألا ترى أن العقلاء المكلفين قد اختلفوا: فمنهم من يصدق بوجود الجن، ومنهم من كذب ذلك من الفلاسفة والباطنية؛ وإن كانوا عقلاء بالغين مأمورين منهيين، ولو علم ذلك باضطرار لما جاز أن يختلفوا في ذلك، بل لم يجز أن يشكوا فيه لو شككهم فيه مشكك، ألا ترى أنه لا يجوز أن يختلف العقلاء في أن الأرض تحتهم ولا أن السماء فوقهم ولا يجوز أن يشكوا في ذلك لو شككهم فيه مشكك، وفي اختلافهم في إثبات الجن والأمر على ما هو عليه دلالة على أنه لا يجوز أن يعلم إثبات الجن ضرورة.
ثم قال: والذي يدل على إثباتهم آي كثير في القرآن تغنى شهرتها عن ذكرها، وأجمع أهل التأويل على ما يذهب إليه من إثباتهم بظاهرها، ويدل أيضا على إثباتهم ما علمناه باضطرار من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتدين بإثباتهم وما روى عنه في ذلك من الأخبار والسنن الدالة على إثباتهم أشهر من أن يشتغل بذكرها.
(فصل) قال الشيخ أبو العباس بن تيمية: لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن، أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين، وإن وجد فيهم من ينكر ذلك فكما يوجد في بعض طوائف المسلمين كالجهمية والمعتزلة من ينكر ذلك، وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرون بذلك وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء عليهم السلام تواترا معلوما بالاضطرار، ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة مأمورون منهيون ليسوا صفات وأعراضا قائمة بالإنسان أو غيره كما يزعمه بعض الملاحدة، فلما كان أمر الجن متواترا عن الأنبياء عليهم السلام تواترا ظاهرا يعرفه العامة والخاصة لم يمكن طائفة من طوائف المؤمنين بالرسل أن ينكرهم، فالمقصود هنا: أن جميع طوائف المسلمين يقرون بوجود الجن، وكذلك جمهور الكفار كعامة أهل الكتاب، وكذلك عامة مشركي العرب وغيرهم من أولاد سام والهند، وغيرهم من أولاد حام، وكذلك جمهور الكنعانيين واليونانيين وغيرهم من أولاد يافث، فجماهير الطوائف تقر بوجود الجن بل يقرون بما يستجلبون به معاونة الجن من العزائم والطلاسم سواء كان ذلك سائغا عند أهل الأيمان أو كان شركا، فإن المشركين يقرؤون من العزائم والطلاسم والرقى ما فيه عبادة للجن وتعظيم لهم وعامة ما بأيدي الناس من العزائم والطلاسم والرقى التي لا تفقه بالعربية فيها ما هو شرك بالجن، ولهذا نهى علماء المسلمين عن الرقى التي لا يفقه بالعربية معناها لأنها مظنة الشرك وإن لم يعرف الراقي أنها شرك، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص في الرقى ما لم تكن شركا وقال: "من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل"، وقد كان للعرب ولسائر الأمم من ذلك أمور يطول وصفها، وأمور وأخبار العرب في ذلك متواترة عند من يعرف أخبارهم من علماء المسلمين، وكذلك عند غيرهم ولكن المسلمين أخبر بجاهلية العرب منهم بجاهلية سائر الأمم.
(فصل) ولم ينكر الجن إلا شرذمة قليلة من جهال الفلاسفة والأطباء ونحوهم، أما أكابر القوم فالمأثور عنهم: إما الإقرار بهم، وإما أن يحكى عنهم قول في ذلك، وأما المعروف عن أبقراط أنه قال في بعض المياه: إنه ينفع من الصراع؛ لست أعني الصرع الذي يعالجه أصحاب الهياكل وإنما أعني الصرع الذي تعالجه الأطباء. وأنه قال: طبنا مع طب أهل الهياكل كطب العجائز مع طبنا.
وليس لمن أنكر ذلك حجة يعتمد عليها تدل على النفي وإنما معه عدم العلم إذا كانت صناعته ليس فيها ما يدل على ذلك، كالطبيب الذي ينظر في البدن من جهة صحته ومرضه الذي يتعلق بمزاجه وليس في هذا تعرض لما يحصل من جهة النفس ولا من جهة الجن، وإن كان قد علم من طبه أن للنفس تأثيرا عظيما في البدن أعظم من تأثير الأسباب الطبية، وكذلك للجن تأثير في ذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" أ ه
الشبلي (آكام المرجان)