حين تستقيم الفطرة و تسلم من اتباع الهوى تتمثل في صاحبها بخلق الامانة ، و في تفسير قوله تعالى : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) الاحزاب .
قال القرطبي رحمه الله : " و الأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال " الفتح القدير 4/308 نقلا عنه ، و قال في تفسير قوله تعالى : '( و الذين هم لأماناتهم و عهدهم راعون ) " و الأمانة و العهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه و دنياه قولا و فعلا ، و هذا يعم معاشرة الناس ، و المواعيد و غير ذلك ، و غاية ذلك حفظه و القيام به " الجامع لأحكام القرآن 12/73 .
و حين يعم التعامل بالأمانة يؤدي الذي اؤتمن أمانته سواء اؤتمن على قنطار أو دينار ، لأن الله امر بأداء الأمانات إلى أهلها و نهى عن خيانة الله و رسوله و خيانة الأمانات ، و جعل من صفات المفلحين أنهم يرعون عهودهم و أماناتهم و النفوس البشرية بفطرتها تميل إلى الناصح الأمين ، و تثق به .
من أغلى ما يرزقه الله العبد و لا يحزن بعده على أي عرض من الدنيا ما جاء في الحديث : " اربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : صدق الحديث و حفظ الامانة و حسن الخلق و عفة المطعم " صحيح الجامع .
قال المناوي رحمه الله : " ( اربع) من الخصال ( إذا كن فيك فلا عليك ما فتاك من الدنيا ) اي : لا بأس عليك وقت فوت الدنيا إن حصلت هذه الخصال .. ( و حفظ الأمانة) بأن يحفظ جوارحه و ما اؤتمن عليه فإن الكذوب و الخائن لا قدر لهما عند الله .. و أطلق الأمانة لتشيع في جنسها فيراعي أمانة الله في التكاليف و أمانة الخلق في الحفظ و الأداء" فيض القدير 1/461.
و الأمانة صفة مميزة لأصحاب الرسالات فقد كان كل منهم يقول لقومه : " إني لكم رسول أمين".
و كأن تلك شهادة أعدائهم فيهم ، كما جاء في حوار أبي سفيان و هرقل حيث قال هرقل : " سالت ماذا يأمركم ؟ فزعمت أنه يأمر بالصلاة و الصدق و العفاف و الوفاء بالعهد و أداء الأمانة ، قال : و هذه صفة نبي " البخاري .
و لئن كانت هذه صفة أصحاب الدعوات فإن أتباعهم كذلك متميزون ، و لذلك اقترن تعريف المؤمن بسلوكه المميز حيث قال عليه الصلاة و السلام : " و المؤمن من امنه الناس على دمائهم و أموالهم " صحيح سنن الترمذي .
و إذا تمكنت صفة الأمانة من صاحبها تعامل بها مع القريب و البعيد و المسلم و الكافر يقول ابن حجر رحمه الله : " الغدر حرام باتفاق ، سواء كان في حق المسلم أو الذمي " الفتح . و كذلك حال المؤمن حتى مع من عرف بالخيانة ،و اشتهر بالغدر كما في الحديث : " اد الأمانة إلى من ائتمنك و لا تخن من خانك " صحيح سنن أبي داوود . و ذلك لأن خطورة السقوط في الخيانة و فساد الفطرة بنقض العهد أشد من مجرد مقابلة الخائن بمثل فعله ، و لأن السقوط مرة قد تستمرؤه النفس و تواصل في منحذر الخيانة .
و لا يكفي عديم الأمانة ما يلقاه في الدنيا من مهانة و صغار ، و إنما يجدها متمثلة له يوم القيامة عند الصراط لتهوي به من فوق الصراط الى قعر جهنم لقاء ما ضيع منها فيها ، كما في الحديث : " و ترسل الأمانة و الرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا و شمالا .. " صحيح مسلم .
قال السيوطي رحمه الله في شرحه على مسلم 1/ 266 " قال النووي : "يصوران شخصين على الصفة التي يريدها الله فتقومان ".
و هنيئا لمن قام بحق الأمانة فجرى على الصراط غير هياب و لا وجل ، و الحسرة و الندامة -حيث لا تنفع حسرة و لا ندامة - على من تساهل فخان ، و سقط فغدر لشهوة عارضة او لحقد اعمى .
و من الصور العملية للأمانة : ان تنصح من استشارك و ان تصدق من وثق برأيك فقد جاء في الحديث : " المستشار مؤتمن " صحيح الجامع ، " .. و من أشار على أخيه بأمر يعلم ان الرشد في غيره فقد خانه " صحيح الجامع ، و ماذا يكون قد بقي فيه من الخير من أشار على أخيه بما لا ينفعه بل ربما بما يضره ؟
و من اخطر الأمانات شأنا حفظ أسرار الناس و ستر عوراتهم و كتمان احاديث مجالسهم فقد ورد في الحديث : " المجالس بالأمانة " صحيح الجامع ، و إن لم يوص المتحدث بكتمان حديثه الخاص إليك لم يكن لك ان تشيعه إلا بإذنه و علمه لقوله عليه الصلاة و السلام : " إذا حدث رجل رجلا بحديث ثم التفت فهو أمانة " صحيح الجامع .
و من الأمانة في العمل إتقانه و كتمان اسراره ، لذلك ترجم البخاري في كتاب الأحكام : " باب : يستحب للكاتب أن يكون أمينا عاقلا " مشيرا بذلك إلى قول أبي بكر لزيد بن ثابت رضي الله عنهما حين أراد أن يستعمله : " إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك " البخاري .
و من مخاطر الأزمان المتأخرة اضطراب الموازين و فساد القيم إلى الدرجة التي وصفها النبي عليه الصلاة و السلام بقوله :" سيأتي على الناس سنوات خداعات ،يصدق فيها الكاذب ، و يكذب فيها الصادق ،و يؤتمن فيها الخائن ، و يخون فيها الأمين ، و ينطق فيها الرويبضة في أمر العامة ، قيل و ما الرويبضة ؟ قال : الرجل التافه " صحيح سنن ابن ماجة .
و قد خشي النبي عليه الصلاة و السلام من انتشار الخيانة بعد قرون الخير فقال : " .. إن بعدكم قوما يخونون و لا يؤتمنون .." البخاري .
و منذ ذللك الحين استمر مسلسل السقوط إلى أن أصبحنا نرى الأمر يوسد إلى غير أهله ، و يؤتمن الخائن و يخون الأمين ، و يغدو الأمناء حقا ندرة مع هذه الندرة يستبعدون و يولى غيرهم و يكون ذلك سببا في تضييع الأمانات و هو من علامات الساعة ، قال عليه الصلاة و السلام : " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ، قال أبو هريرة : كيف إضاعتها يا رسول الله ؟ قال : إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة " البخاري .
و في الفنح : قال ابن بطال معنى أسند الأمر إلى غير أهله :" أن الأئمة قد ائتمنهم الله على عباده ، و فرض لهم النصيحة لهم ، فينبغي لهم تولية أهل الدين ، فإذا قلدوا غير أهل الدين فقد ضيعوا الأمانة التي قلدهم الله تعالى إياها " .
و من اللمحات الفقهية لتبويب البخاري أنه استشهد بحديث : " فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة " في كتاب العلم ، و يعلل ابن حجر إيراده في كتاب العلم فيقول : " و مناسبة هذا المتن لكتاب العلم ان إسناد الأمر إلى غير أهله إنما يكون عند غلبة الجهل و رفع العلم و ذلك من جملة الأشراط " .
و الوفاء بحقوق الأمانة من صفات المؤمنين ، و الإخلال بشيئ منها خصلة من النفاق و لذلك جاء في صفات المنافق أنه : " إذا اؤتمن خان " ، و قال عليه الصلاة و السلام : " لا إيمان لمن لا أمانة له ، و لا دين لمن لا عهد له " صحيح الجامع .
فصاحب خلق الأمانة حريص على أداء واجبه بعيد عن الغدر و المكر و الخيانة ، حافظ للعهود ، واف بالوعود.

جريدة السبيل
جريدة أسبوعية مستقل شاملة تصدر مرة في الشهر مؤقتا