بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العلامة البحر الفهامة عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله رحمة واسعة:
وأما الحديث: "من سن في الإسلام سنة حسنة..." الحديث، فهو حديث صحيح، لكن ليس فيه حجة لأهل البدع.
وسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لمّا حثهم على الصدقة، ورغبهم فيها، جاء رجل من الأنصار {بصرة دراهم}(1) كادت كفه أن تعجز عنها، أو عجزت، ثم تتابع الناس بعده في الصدقة {م ق 1}، كل واحد بحسبه، سُرَّ صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال : "من سن في الإسلام سنة حسنة {كان له}(2) أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا".
فالمراد بالسنة الحسنة: أنه إذا كان باب من(3) الخير متروكا فعمل به إنسان وفتحه واقتدى به غيره كان قد سن سنة حسنة، كحال الأنصاري الذي بادر بالإتيان بصرة الدراهم وتتابع الناس بعده بالصدقات، وكمن كان في بلد أو عند ناس لا يصومون يوم {عرفة أو}(4) عاشوراء ونحو ذلك، فصامه إنسان فتابعوه على ذلك.
ولا مستدل في الحديث لمن ابتدع قولا أو عملا استحسنه، وقال: هذه بدعة حسنة، ولفظ الحديث: "من سن في الإسلام"، ولم يقل: من ابتدع في الإسلام بدعة حسنة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة"(1)، كلمة جامعة، وقوله: "من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد"(2)، وهذا أحد الأحاديث التي يدور عليها الإسلام، كما قال الإمام أحمد: الإسلام يدور على ثلاثة أحاديث، حديث عمر: "إنما الأعمال بالنيات"(1)، وحديث عائشة: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"، وحديث: "الحلال بين والحرام بين {وبينهما أمور مشتبهات}(4)..."(2) الخ.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبه: "إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة"، وهذا من جوامع { ق 1} الكلم التي أعطيها نبينا صلى الله عليه وسلم.
فمن ابتدع شيئا استحسنه وقال: هذه بدعة حسنة، فهو مشاق(8) لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة".
وما يطلق عليه اسم البدعة مما فعله الصحابة، وأئمة التابعين، فهو بدعة لغوية، كقول عمر: (نِعْمَت البدعة هذه)(3)، يعني: التراويح، وكزيادة عثمان والصحابة الأذان الأول يوم الجمعة، فهذا لا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "كل بدعة ضلالة"، لأن له أصلا في الشرع، وأيضا فهو مما سن الخلفاء الراشدون، ولهم سنة يجب إتباعها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"(1).
ومن ابتدع شيئا استحسنه وقال: هذه بدعة حسنه، فمقتضى دعواه أنه يقول: ليست كل بدعة ضلالة، فيقابل(2) هذه الكلمة الجامعة ممن أوتي جوامع الكلم بقوله: ليست كل بدعة ضلالة، فهذا مشاق للرسول {صلى الله عليه وسلم}(3) ومراغم له، وإنما الذي ينبغي أن يقال: أن ما ثبت حسنه من الأعمال التي قد قيل هي بدعة، أن هذا العمل المعين مثلاً(5) ليس ببدعة، فلا يندرج في الحديث.
قال ابن رجب(2): وما وقع في كلام السلف من {م ق 2} استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية.
وذكر من ذلك: جمع عمر على التراويح، وأذان الجمعة الأول، وجمع عثمان الناس على مصحف واحد، وقتال أبي بكر مانعي الزكاة، وغير ذلك.
ومما يبين أن البدعة المذمومة هي ما لم يشرع الله تعالى ورسوله فعله، إنكار الصحابة على من أذن لصلاة العيدين، لأنه لم يفعله صلى الله عليه وسلم، وإن كان فاعله قد يحتج بقوله سبحانه(1): [ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله] ونحو ذلك، وكإنكارهم على من قدم خطبة العيد(2) على الصلاة، وإنكارهم على من رفع {يديه}(1) في الدعاء في الخطبة، وإن كان رفع اليدين في الدعاء وردت الأحاديث به، لكن إنما أنكروا الرفع في هذا المحل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله في هذا الموضع، والآثار عنهم وعن التابعين والأئمة في ذلك كثيرة.
وروى ابن وضاح أن عبد الله بن مسعود حُدّثَ أن ناسا يسبحون بالحصى في المسجد، فأتاهم وقد كوم كل رجل منهم كومة من حصى بين يديه، فلم يزل يحصبهم بالحصى حتى أخرجهم من المسجد، ويقول: (لقد أحدثتم بدعاً(3) ظلماء أوَقَد فضلتم {على}(4) أصحاب محمد علما)(2).
وبلغه أن ناسا يجتمعون في المسجد ويقول أحدهم: هلّلوا كذا، وسبحوا كذا، وكبروا كذا، فيفعلون، فقال ابن مسعود: (إنكم لأهدى من أصحاب محمد أو أضل، بل هذه بل هذه)(3) يعني: أضل.
فانظر إلى إنكارهم لهذا الصنيع، مع أن فاعل ذلك ربما {يحتج بـ}ـدخوله(4) تحت قوله(5): [اذكروا الله ذكرا كثيرا] {الآية}(2)، وإنما أنكر ابن مسعود الذكر على هذه الهيئة التي لم يكن الصحابة يفعلونها.
وقال ابن مسعود: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وكل بدعة ضلالة)(1)، وقال حذيفة: (اتبعوا سبيلنا فلئن اتبعتمونا لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن خالفتمونا لقد ضللتم ضلالا بعيدا)(2)، والآثار عن الصحابة في ذلك كثيرة، وكذلك الآثار عمن بعدهم في النهي عن البدع والتحذير منها.
ومن ذلك كراهة الإمام أحمد للقارئ إذا أتى على سورة الصمد أن يكررها ثلاثاً، لعدم وروده عمن سلف، مع ما ورد فيها من الفضل، وكذا روي عن مالك، وسفيان، وغيرهما.
وكره أحمد قراءة سورة الجمعة في عشاء ليلة الجمعة لعدم وروده، وإن كانت المناسبة فيه ظاهره {م ق 3}، وكلامهم في ذلك كثير.
وكذا كراهتهم الدعاء إذا جلسوا بين التراويح، وكذا قول المؤذن قبل الأذان: [وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا...] الآية، وكقوله {ق 2} قبل الإقامة: اللهم صل على محمد، ونحو ذلك من المحدثات.
ومثل ذلك ما أحدثوه من أزمنة من رفع الأصوات في المنابر ليلة الجمعة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يسمونه التذكير، فلو كان ذلك خيرا يحبه الله لسبقنا إليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم قد كفوا من بعدهم، كما قالوا: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم)، فإنهم رضي الله عنهم بالخير أعلم، وعليه أحرص، فمن ابتدع شيئاً يتقرب به إلى الله {تعالى}(1)، ولم يجعله الله ورسوله قربة، فقد شرع في الدين ما لم يأذن به الله [أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله]، واستدرك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم لم يعلموا ما علمه، أو أنهم لم يعملوا بما علموا، فلزم استجهال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وتقصيرهم في العمل، فهم رضي الله عنهم قد كفوا من بعدهم، والخير في الإتباع، والشر في الابتداع.
أرأيت لو أن رجلاً أذن، فكبر أول الأذان خمس مرات، أو ست مرات، أو كرر لا إله إلا الله في آخر الأذان ثلاث مرات، أو أربع {مرات}(2)، أليس ينكر عليه؟ وإن احتج بفضل الذكر، وبقوله: [اذكروا الله ذكراًُ كثيرا] ونحو ذلك، وكذا لو زاد في الصلاة ركعة، وقال: هذه زيادة خير، فيدخلوا(3) تحت قوله تعالى: [وافعلوا الخير] ونحو ذلك.
والحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام دينا، نسأله برحمته الوفاة على الإسلام والسنة، آمين {آمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم}(1).
المصدر: فتاوى للشيخ لم تطبع بعد هي قيد التحقيق من قبل العبد الضعيف سهل الله إتمامها آمين