بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد :
من الدارج عند إخواننا أن من مدح نفسه بادروه بالإنكار والقدح في نيته محتجين بقوله تعالى ( فلا تزكوا أنفسكم ) [ النجم : 32 ] وقد يكون المادح نفسه أحيانا يمدح نفسه للحاجة ولا يقصد الرياء والسمعة فتؤدي تلك المواجهة للمشقة والضرر.
وفي الحقيقة مدح النفس مسألة فيها تفصيل فليس الإنكار فيها على وجه مطلق من الصواب في شيء فالمذموم هو أن يمدح الإنسان نفسه بقصد الفخر والخيلاء والمن على الله تعالى ونحو ذلك من المقاصد السيئة وهو المقصود – فيما يظهر- بقوله تعالى ( فلا تزكوا أنفسكم ) جمعا بين النصوص في هذه المسألة.
قد جاء في تفسير الجلالين (ج 10 / ص 314):"{ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ } لا تمدحوها أي على سبيل الإِعجاب ، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن "
وقال أبو بكر الجزائري – رفع الله قدره- في أيسر التفاسير (ج 4 / ص 164) :"{ فلا تزكوا أنفسكم } : أي فلا تمدحوها على سبيل الفخر والإِعجاب" .
والذي يدعو إلى تفسير هذه الآية بهذا التفسير ورود نصوص أخرى تدل على جواز مدح النفس كذكره تعالى عن يوسف قوله للملك : ( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) وقوله تعالى : ( وأما بنعمة ربك فحدث ) فهي تشمل النعم الدينية والدنيوية كما يقول ابن سعدي في تفسيره .
وأما الأحاديث والآثار التي تدل على إباحة مدح النفس فهي كثيرة سيأتي قسط منها في كلام الإمام النووي .
ومن المعلوم عند أهل العلم أن النصوص يجب الجمع بينها عند التعارض والجمع بين هذه النصوص جاء توضيحه في كتاب الأذكار للإمام النووي (ج 1 / ص 616) بما يلي : "223 - بابُ مدح الإِنسان نفسه وذكر محاسنه
قال اللّه تعالى : { فَلا تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ } [ النجم : 32 ] اعلم أن ذكرَ محاسن نفسه ضربان : مذموم ومحبوب فالمذمومُ أن يذكرَه للافتخار وإظهار الارتفاع والتميّز على الأقران وشبه ذلك والمحبوبُ أن يكونَ فيه مصلحة دينية وذلك بأن يكون آمراً بمعروف أو ناهياً عن منكر أو ناصحاً أو مشيراً بمصلحة أو معلماً أو مؤدباً أو واعظاً أو مذكِّراً أو مُصلحاً بين اثنين أو يَدفعُ عن نفسه شرّاً أو نحو ذلك فيذكر محاسنَه ناوياً بذلك أن يكون هذا أقربَ إلى قَبول قوله واعتماد ما يذكُره أوأن هذا الكلام الذي أقوله لا تجدونه عند غيري فاحتفظوا به أو نحو ذلك وقد جاء في هذا لهذا المعنى ما لا يحصى من النصوص كقول النبيّ صلى اللّه عليه وسلم " أنا النَّبِي لا كَذِبْ " " أنا سَيِّدُ وَلَد آدَم " " أنا أوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأرْضُ " : أنا أعْلَمُكُمْ باللَّهِ وأتْقاكُمْ " " إني أبِيتُ عنْدَ ربي " وأشباهه كثيرة وقال يوسف صلى اللّه عليه وسلم : " { اجْعَلْني على خَزَائِنِ الأرْضِ إني حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [ يوسف : 55 ] وقال شعيب صلى اللّه عليه وسلم : { سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } [ القصص : 27 ] وقال عثمان رضي اللّه عنه حين حُصر ما رويناه في صحيح البخاري أنه قال : ألستم تعلمون أنَّ رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : " مَنْ جَهّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ ؟ " فجهّزتهم ألستم تعلمون أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : " مَنْ حَفَرَ بِئرَ رُومَة فَلَهُ الجَنَّةُ " فحفرتها ؟ فصدّقوه بما قاله وروينا في صحيحيهما عن سعد بن أبي وقاص رضي اللّه عنه أنه قال حين شكاه أهل الكوفة إلى عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه وقالوا : لا يُحسن يصلي فقال سعد: واللّه إنّي لأول رجل من العرب رمى بسهم في سبيل اللّه تعالى ولقد كنّا نغزو مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذكر تمام الحديث وروينا في صحيح مسلم عن عليّ رضي اللّه عنه قال :
والذي فلق الحبَّة وبرأَ النسمةَ إنه لعهدُ النبيّ صلى اللّه عليه وسلم إليّ " أنه لا يحبني إلا مؤمنٌ ولا يبغضني إلا منافق " قلتُ : بَرَأَ مهموز معناه خلق والنسمة : النفس وروينا في صحيحيهما عن أبي وائل قال : خطبنا ابنُ مسعود رضي اللّه عنه فقال : واللّه لقد أخذتُ من في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة ولقد علمَ أصحابُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أني مِنْ أعلمهم بكتاب اللّه تعالى وما أنا بخيرهم ولو أعلم أن أحداً أعلمُ منّي لرحلتُ إليه
وروينا في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما
أنه سئل عن البدنة إذا أزحفت فقال : على الخبير سقطتَ يعني نفسَه وذكر تمام الحديث ونظائر هذا كثيرة لا تنحصر وكلُّها محمولة على ما ذكرنا وباللّه التوفيق " انتهى من كتاب الأذكار .
ويبرز لنا العلامة ابن عثيمين تفصيلا دقيقا في المسألة حين يقول في "فتاوى نور على الدرب النصية" - (ج 12 / ص 31) :
" فالأحوال إذاً في مثل هذا الكلام الذي فيه ثناء المرء على نفسه أربع: الحال الأولى: أن يريد بذلك التحدث بنعمة الله عليه فيما حباه من نعمة الإيمان والثبات، الثانية: أنه يريد بذلك تنشيط أمثاله ونظرائه على مثل ما كان عليه، فهاتان الحالان محمودتان؛ لما تشتملان عليه من هذه النية الطيبة. الحال الثالثة: أن يريد بذلك الفخر والتباهي والإدلال على الله عز وجل بما هو عليه من الإيمان والثبات، وهذا غير محمود؛ لما ذكرناه من الآية. الحال الرابعة: أن يريد بذلك مجرد خبر عن نفسه لما هو عليه من الإيمان والثبات، فهذا جائز ولكن الأولى تركه "انتهى كلامه.
فمدح النفس باب لا يجوز أن يفتح على مصراعيه من شاء ولج منه بدون استئذان ولا أن يغلق إغلاقا تاما بحيث يتهم كل من ولجه بالرياء فالوسط هو خير الأمور فلا يصلح الحيد عنه إلى جانب الغلو أو التفريط والتساهل والله تعالى أعلم
كتبه غالب الساقي المشرف على موقع روضة السلفيين www.salafien.com