ولدي اصبح رجلا
إنطلقت من بيتي كالرصاصة
اندفعت من بابه من غبر وعي او تفكير ..والمدخنة الحبشية
تطل براسها من زاويته اليمنى ترقب الغادي والرائح ...ترحب بصاحب البيت الذي افتقدته منذ اسابيع والتي اعتادت على سماع صوته ...وحفيف خطواته
منذ خمسة عشر عاما
انطلقت فارغة الفكر مملوءة اليدين ...وعندما اقتربت ممن ارجو ..
سرت بخطوات متثاقلة وكأن الارض ترفض إعطائي تصريحا للمرور فوقها رفعت كأس بيدى ...لمن ملك روحي ..رفعت الكأس الذي ملأته بماء احمر ذو طعم حلو ...بيد ترتجف ...وبنبرة صوت يمتزج
إشرب يا حبيبي
قلتها وما في نفسي من كلمات وقد أسخط بها على من حوله ...
قلتها وما في نفسي من كلمات وقد رفضت عيناي التحدث الى احد.. الا تلك العيون الساخطة حمراء اللون التي حفرت في وجه ولدي
لكن أواه مما سمعت ...هذا ممنوع وقد ازاح ببندقيته يدي
وأبعد ما كان بها عن فم ولدي ...
لم اسمح لنفسي ان تضجر او تمل او تنفجر لهذا الموقف ...
فهذا الغريب الذي يطوق ولدي بسلسلة حديدية ...حتما سينهال عليه ضربا اذا صدر منى ما يسيء
رجوته : بالله عليك ...
لكنه ركلني برجله ...كما يركل البهيم ...فطرحني ارضا قائلا
وهو يقهقه ساخرا مني : اتعرفين الله ايتها العجوز ..؟؟!!
لكن روحي بقيت معلقة قرب ولدي ...ويداي ما زالت تقبض
على الكوب بشدة
...والارض استنهضتني ...وجذور الزيتون اوقعت في نفسي القوة وكأن مناديا همس بي :ولدك لم يذق طعاما منذ ايام ...ولم يشرب الا المالح من الشراب إتهضي ولا تيأسي ..
فأجبتها لكنني حاولت .. واستحلفته بالله فسخر مني
فزاد ذلك الهاجس وكأنه يصيح بي : إنهضي ...هيا
لملمت نفسي من شتاتي وقمت مسرعة ..أرجوه
فرجوته ...ورجوته مرارا حتى رق لحالي ووافق !!!
إشرب يا ولدي بالهناء والعافية
ومن بين يدين مكبلتين بالحديد ...وبين أصابع اظنها كانت
ضعيفة واليوم اراها غليظة ..شد على الكوب واطبق
وقال :
لا والله يا امي لن اشرب ...لن اشرب شرابا
امتزج بالرجاء والجبن ...من اجلك ومن اجل
ابي الشهيد لن اشرب
من أجل حبات تراب بيتنا المهدوم هناك في الرملة لن اشرب
قذف بالكوب وما كان فيه ارضا ...حيث تناثرت قطرات الماء الملون و توزعت هنا وهناك ترسم على الرمل شارات
العزة والإباء
يا له من فرح اصابني ...أصلحت تقاطيع وجهي بسرعة ..
وأطلقت ابتسامة خفية لملمت شعيرات كانت قد فرت من تحت
الحجاب الذي ارتديه ...نفضت ثوبي مما علق به من تراب ...
رفعت راسي عاليا ... وصحت بأعلى صوتي ..
ولدي أصبح رجلا ...ولدي أصبح رجلا ...ولدي أصبح رجلا

نريمان الشريف
خلجات من قلب
فلسطين