الأفاضل الأكارم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه دراسة للأستاذ محمد أرزقي فراد عن مدينة دلس الجزائرية، نشرتها يومية "الشروق" في الجزائر، أنقلها هنا للفائدة.
دلس... تاريخ أكبر من واقع المدينة

محمد أرزقي فراد

دلس مدينة ساحلية جميلة، اشتق اسمها من كلمة أمازيغية (ثاذلسث) وتعني شجيرة الديس، التي استغلها الانسان قديما في العمران وفي تغذية الأنعام، وصناعة الحبال، وتستغل حاليا خاصة في صنع المظلات التي تنصب في شواطئ البحر طلبا لفيئها والراحة. وتضافرت عوامل عديدة لتصبح دلس إحدى لآليء العمران في حوض البحر الأبيض المتوسط عبر التاريخ، مرصعة ببصمات حضارات عديدة، محلية جزائرية ووافدة سادت ثم بادت، كالفينيقيين والرومان والحماديين والأندلسيين والأتراك العثمانيين. واتخذها الاحتلال الفرنسي قاعدة هامة لإخضاع بلاد الزواوة( القبائل)، باعتبارها ثغرا من ثغورها الإستراتيجية، وارتبط تاريخها بعرشي آث واقنون، إفليسن لبحار( فليسة) بصفة خاصة، وبلاد الزواوة عموما، بحكم انتمائها إليها مثلما أكد ابن خلدون.
موقع ومميزات المدينة
شاء القدر أن تقع دلس في ظل مدينتين عريقتين، هما بجاية شرقا والجزائر غربا، لذلك ظلت عبر تاريخها مدينة من الدرجة الثانية، غير أن ذلك لم يقلل من دورها التاريخي البارز عبر تعاقب الحقب التاريخية المختلفة. وتقع دلس على مرتفع ساحلي(335م)، شرق العاصمة (حوالي100) كلم، اشتهرت بمينائها المحمي من الريا ح الغربية، وهو يتوسط مدينتي الجزائر وبجاية. ويصب وادي سيباو الشهير في منطقة القبائل، غرب المدينة بحوالي (06) كلم. هذا وقد زارها وذكرها رحالة كثيرن منهم: الإدريسي ( في القرن12م( نزهة المشتاق)، والحِـمْيري في القرن 15م ( الروض المعطار)، والحسين الورثلاني في القرن18م ( نزهة الأنظار)، والضابط الفرنسي كاريت (Algérie,par, rozet et carette)، والرحالة الألماني هاينريش فون مالتسان في القرن 19م( ثلاث سنوات في شمال غربي افريقيا، ترجمة أبو العيد دودو )، وذكر الحفناوي في كتابه ( تعريف الخلف برجال السلف) أحد اعلامها نقلا عن رحلة الورثلاني المذكورة، وهو أحمد بن عمر الدلسي.
تتميز دلس ببعدها التاريخي، وباستقرار مسلمي الأندلس بها، فأدوا دورا رائدا في ترقيتها بما حملوه من رصيد حضاري إسلامي ثري، كالعلم والعمران والصناعات التقليدية المختلفة، ونشروا اللسان العربي بين السكان الأمازيغ. و تشتهر أيضا بأراضيها الخصبة،التي يرويها وادي سيباو في جزئها الغربي، و بمينائها ذي نشاط متنوع (تجارة وصيد الأسماك). ورغم ذلك فهي منطقة غير مستقطبة لليد العاملة، بل طاردة لها، نحو مدينة الجزائر بصفة خاصة. وتنقسم المدينة عمرانيا إلى قسمين بارزين : المدينة العريقة تحوي القصبة ذات الدور الجميلة المزينة بالعرائش المعلقة، والأزقة الضيقة والمسجد، ومقام سيدي سوسان. أما الحي الجديد فقد أنشاه الفرنسيون أسفل المدينة العريقة، لم يلبث أن تحول الى مدينة جديدة (1). وكانت خلال فترة الاحتلال الفرنسي تابعة لدائرة تيزي وزو، لتصبح في عهد الاستقلال تابعة لولاية تيزي وزو، ثم ألحقت بولاية بومرداس بموجب التقسيم الولائي الأخير.
المراحل التاريخية للمدينة
دخلت دلس في التاريخ على يد الفينيقيين، الذين أسسوا بها مرفا لممارسة التجارة مع الأهالي، سمي روسوكوروسRusuccurus ومعناه رأس السمك. ثم ازدهرت المدينة خلال الفترة الرومانية باسم [ أديمه Addyma ]، ويدل تنوع آثارها على ازدهارها خاصة في عهد الإمبراطور كلوديوس(50 م) كالأعمدة والأواني المنزلية والميداليات، وخزانات الماء بسيدي سوسان، والفسيفساء والأطلال المختلفة،وشيد الرومان طريقا بريا يربطها بمدينة بجاية عبر قرية الجمعة نصهريج العريقة [Bida ]. وتجدر الإشارة إلى أن الفرنسيين قد نهبوا هذه الآثار ونقلوا الكثير منها إلى متحفي الجزائر، ولوفر Louvre بباريس (2).
الفترة الإسلامية
تغير اسمها في العهد الإسلامي فصارت تسمى تدلس وارتبطت بالدولة الحمادية، ثم انعكست على المدينة الصراعات التي عصفت بالأندلس جراء انقسامها إلى ملوك الطوائف، وما انجر عن ذلك من عبور المرابطين إليها، في محاولة منهم لإنقاذ الموقف، وتم في هذا السياق طرد أمير مدينة ألمرية، معز الدولة بن صمادح، فاستقر بمدينة دلس. وفي عهد الموحدين استولى عليها بنو غانية(علي بن غانية ويحي بن غانية) بدعم من بقايا الحماديين، للانتقام من الموحدين الذين قضوا على إمارتهم في جزر البليار، وللثأر لأخوالهم المرابطين(3). ثم أصبحت هذه المدينة محل صراع بين الحفصيين والزيانيين. وتجدر الإشارة إلى أن الأستاذ مولود قاسم قد ذكر أن الإمام محمد البوصيري(1213 – 1295م) المولود بصعيد مصر، صاحب قصيدة البردة الشهيرة في المد ح النبوي، صنهاجي النسب من ناحية دلس.
الفترة العثمانية
وقعت دلس في قبضة الأتراك العثمانيين في سنة(1515 م)، وجعلوها قاعدة لهم للانطلاق في جهادهم ضد الاحتلال الاسباني للسواحل الجزائرية، ولا شك أن مسلمي الأندلس النازحين إليها قد تجندوا في صفوف قوات الأخوين عروج وخير الدين. وبعد أن استقرت أوضاعهم، صارت تتبع دار السلطان كمدن شرشال والقليعة والبليدة بصفتها( وطن/ج.أوطان) أي ما يعادل الدائرة في وقتنا الحالي. وانقسم سكانها إلى قسمين: المستقلون وهم أهل الجبال الذين امتنعوا عن دفع الضرائب( آث سليم، وآث ثور)(4)، وأهل المخزن وهم حلفاء الأتراك، أشهرهم عائلة دار حسن التي حلت بالمدينة سنة 1535م، وكانت تقيم في حي سيدي يحي. هذا وقام الأتراك ببناء القصبة العليا، وبتحصين المدينة بسور ذي أبواب عديدة، تحسبا لهجمات اسبانيا، كما قاموا بتوسيع الميناء، وتحسن الصيد البحري بفضل بناء سفن جديدة، كما شجعوا الفلاحة، وازدهرت إلى حد ما الثقافة، ومن أشهر شعراء هذه الفترة، الشاعر يوسف السنوسي، وتجدر الإشارة إلى زيارة الرحالة حسين الورثلاني للمدينة خلال القرن (18م). وساعد استتباب الأمن في هذه الفترة على تحسن أوضاع السكان(5).
فترة الاحتلال الفرنسي
احتل الفرنسيون مدينة دلس سنة 1843م وجعلوها قاعدة عسكرية لبسط نفوذهم على منطقة القبائل، وعرفت توسعا عمرانيا في ظل سياسة الاستيطان، فتم بناء مدينة جديدة في سهلها على النمط الأوروبي، ذات منشآت قاعدية واسعة، كالطرقات والمدارس والمستشفى، والمدرسة الوطنية للفنون والحرف، والكنيسة والفندق والمحكمة. وكان الأمير عبد القادر قد زارها سنة 1838م رفقة خليفته أحمد بن سالم، وعبد الرحمن الدلسي، ونصح أهلها باتخاذ جميع الاحتياطات الضرورية للدفاع عن مدينتهم، تحسبا لهجوم فرنسا(6). وذكر الكاتبان دوماس Daumas و فابار Fabar في كتابهما [ القبائل الكبرى] الصادر سنة 1847م، أن أهل بني ثور وبني سليم كانوا يملكون حوالي (1700) بندقية. وارتبطت أيضا مدينة دلس بمجموعة من الأحداث، كهجرة أهل الزواوة إلى الشام عن طريق مينائها، أهمها هجرة سنة 1847م بقيادة الشيخ العلامة المهدي السكلاوي الايراثني، كما استغل الماريشال راندون ميناءها لنقل قواته خلال حملة 1857م التي أسفرت عن إخضاع بلاد الزواوة، وتم نقل البطلة فاطمة أنسومر بعد أسرها إلى منفاها بتابلاط عن طريق هذا الميناء أيضا.
هذا، وقد شارك ســـكان دلس في ثورة 1871م مشاركة فعالة ونجح مجاهدو آث واقنون، وبني ثور، وبني سليــــم، فــــي محاصـــرة المركز العســكري الفرنـــسي بالمدينة لمدة شــهر ( 17 أفريل- 18ماي)، ولم يفك الفرنســــيون الحصار إلا بعد وصــول إمـــدادات من مديـــنة الجــزائـــر بقيــــادة اللـواء[ لالمان Lallemand ]، ورغم انتصار الفرنسيين فقد ظلت جذوة المقاومة متأججة في شكل تمرد، قاده الشيخ محند أمزيان منصور ( من بوخالفة، عرش عمراوة)، إلى أن استشهد بناحية دلس سوم 17 ماي 1877م. علما أن سكان هذه المنطقة قد تعرضوا لمصادرة أراضيهم عقب الثورة المذكورة (7). ولعل أبرز شخصية علمية أنجبتها مدينة دلس خلال فترة الاحتلال الفرنسي، هو الطبيب فيرناند ويدال [ Fernand Widal ] (1862– 1929م)، الذي اشتهر بعلاجه لداء حمى الأمعاء.
مرحلة النضال السياسي
تعتبر دلس قلعة للحركة الوطنية السياسية التي احتضنها السكان، خاصة في بني ثور وبني سليم البعيدة نسبيا عن عيون الإدارة الفرنسية، ومن أشهر المناضلين محمد زروال (من بني ثور) الذي قضى 17 سنة في السجن ( 1945- 1962)(8)، بمعية المناضل الســــــعيد معزوزي (تلميذ المعلم حمزة بوكوشة في مدرسة دلس الحرة)، عقابا لهما على مشاركتهما في محاولة اغتيال الباشاغا أيت علي. ومن الطبيعي أن تساهم هذه المنطقة ذات الرصيد النضالي والنشاط الإصلاحي الكبير في صنع ملحمة نوفمبر 1954م.
نشاط جمعية العلماء في دلس
أنجبت دلس علماء كثيرين عبر تاريخها الطويل، منهم محمد ارزقي بن ناصر الذي تولى منصب مفتي المالكية بمدينة الجزائر في مطلع القرن العشرين، وأشهر زواياها، زاوية سيدي عمر واشريف. وعندما تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين احتضنها أهل دلس، ولعب الشيخ علي أولخيار (مدرس سابق بالزاوية المذكورة) دورا بارزا في نشر الفكر الإصلاحي بصفته عضوا في مجلسها الإداري، لكن المنية لم تمهله، فاختطفته سنة 1932م(9). ومن أهم مظاهر النشاط الإصلاحي، تأسيس جمعية دينية محلية سنة 1931م، بقيادة محمد الطيب بن ناصر، ثم مدرسة الإصلاح في مسجد سيدي عمار، فعين لها الشيخ الطيب العقبي المعلم حمزة بوكوشة، وتم تدشين المدرسة رسميا سنة 1932 بحضور عبد الحميد بن باديس والطيب العقبي وعلي أولخيار، وغيرهم من المصلحين. وكان ذلك اليوم من الأيام المشهودة في تاريخ المدينة.
وتعاقب على هذه المدرسة معلمون كثيرون، منهم حمزة بوكوشة، وبلقاسم الميموني، وعبد الباقي بن الشيخ الحسين، والهادي الزروقي( مكث بها عشر سنوات 1931-1941)، ثم غادرها تحت ضغط الإدارة الفرنسية، والمعلم أحمد بن حميــدة ( وهو من بلدة دلس) أشرف على هذه المدرسة لمدة عشر سنوات (1946- 1956). ونجحت مدرسة دلس في إرسال بعثتين طلابيتين إحداهما إلى معهد قسنطينة، والثانية إلى جامع الزيتونة، وللذكر فقد التحق معظم هؤلاء الطلبة بالثورة التحريرية الكبرى(10).
دلس واليوم الجديد
وبالنظر إلى هذا السجل الحافل بجلائل الأعمال، وما تملكه دلس من إمكانات اقتصادية وافرة، فإنها تحتاج إلى رعاية واهتمام السلطة، من أجل استغلال إمكاناتها الاقتصادية، وجعلها قطبا للتنمية، تعيد البسمة إلى أهلها الذين طالهم كابوس الإرهاب بشكل عنيف. كما تحتاج أيضا إلى تنسيق الجهود بين الجامعة و الباحثين والمسؤولين السياسيين من اجل الاهتمام بتراثها المادي وغير المادي،الزاخر بالآثار العمرانية والمخطوطات التي – بدون شك – ما زالت خزائن الخواص تحفظ بعضا منها، وكذا العمل من أجل جمع شتات الأخبار التاريخية المبثوثة في ثنايا الكتب والمصادر العربية وغير العربية، لتصاغ في مؤلفات تفيد القارئ، وتسد الفراغ الملحوظ في مكتبتنا التاريخية، ومن أجل نشر الدراسات العلمية التي أنجزها بعض الباحثين والباحثات. كما أن مدينة دلس جديرة بإنشاء متحف يليق بمقامها، يجمع آثارها المنقولة، المهددة بالضياع. ولا شك أن ما بلغته معالمها التاريخية( الأمازيغية والإسلامية والأجنبية ) من تدهور نتيجة الإهمال، يستوجب دراسة عميقة بطريقة علمية، يستشار فيها أهل الاختصاص، تساعد المسؤولين السياسيين على وضع خطة كاملة لترميمها، قصد تأهيلها لتكون قطبا سياحيا في المستقبل، ولا يختلف إثنان أن للمجتمع المدني دورا أيضا لا يستهان به في هذا الفعل الحضاري، وما ذلك بعزيز على أخيار أهل دلس.
*******
الهوامش
1- دلس، الموقع الالكتروني[ Geneawiki.com]
2- دلس، الموقع الالكتروني المذكور، والموقع[ Wikipedia.org]
3- بنو غانية الموقع [ wikipedia.org]
4- Louis rinn, le royaume d´ Alger sous le dernier dey
Alger P 55, éditions G.A.L,
5- الموقع الالكتروني [. Geneawiki.com]
- مختار بن الطاهر فيلالي، رحلة الورتلاني، ص42، دار الشهاب، باتنة/الجزائر
( بدون تاريخ)
6- محمد الصغير فرج، تاريخ تيزي وزو، ترجمة موسى زمولي، ص68،
مؤسسة ثالة، الجزائر2007م.
7- المرجع نفسه، ص 163.
8- Hocine Ait Ahmed, Mémoire d un combattant, p52, bouchene.
. 1990Alger,
9- مقران يسلي، الحركة الدينية والإصلاحية في منطقة القبائل، ص255.
دار الأمل، تيزي وزو،2007.
10- محمد الحسن فضلاء، المسيرة الرائدة للتعليم العربي الحر بالجزائر، ج2، ص 148.
الطبعة الأولى 1999، دار الأمة الجزائر.