بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. وبعد .
يتبادر إلى ذهن الكثيرين منا كلما سمع عن منكرى السنة سؤالان :
ما هى جذور هذا المذهب ؟ وما هى الدوافع الحقيقية وراءه ؟
فى البداية كان ظهور هذا المنحى على يد بعض غلاة الرافضة فعمدوا إلى إنكار حجية السنة وعملوا على نشر ذلك والترويج له بين العوام كما نجحوا فى ترويج الكثير من عقائدهم الفاسدة وأفكارهم الهدامة، وذكر السيوطى أن أول ظهور لهؤلاء كان فى عهد الشافعى وأنه قد تصدى لهم بكل حزم ((روى الإمام الشافعي يوما حديثا وقال إنه صحيح، فقال له قائل: أتقول به يا أبا عبد الله؟ فاضطرب وقال: يا هذا أريتني نصرانيا؟! أرأيتني خارجا من كنيسة؟! أرأيت في وسطي زنارا؟! أروي حديثا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا أقول به؟!)) ثم ذكر أن تلك الدعوة قد اختفت زمنا طويلا ثم عادت للظهور فى عصره ومن ثم انبرى للتصدى لها وتحذير الناس من شرها، يقول السيوطى : ((فاعلموا رحمكم الله أن من أنكر كون حديث النبي صلى الله عليه و سلم قولا كان أو فعلا بشرطه المعروف في الأصول حجة كفر وخرج عن دائرة الإسلام وحشر مع اليهود والنصارى أو مع من شاء الله من فرق الكفرة))(1 )
وقال بعض من لا يعتد بهم قديما إن السنة لا تستقل بتشريع، واستدلوا بما روى عن ثوبان رضى الله عنه فى الأمر بعرض الأحاديث على القرآن ،قال الشافعى : وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شيء ، وقال البيهقى : وقد روى الحديث من طرق أخرى كلها ضعيفة( 2) ، وقال : يحيى بن معين وعبد الرحمن بن مهدى والخطابى والصاغانى: إنه موضوع وضعته الزنادقة ، على أن في هذا الحديث الموضوع نفسه ما يدل على رده لأنا إذا عرضناه على كتاب الله عز و جل خالفه ففي كتاب الله عز و جل ﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾(3 ) ونحو هذا من الآيات(4 )
قال الشوكانى :(( اعلم أنه قد اتفق من يعتد به من أهل العلم على أن السنة المطهرة مستقلة بتشريع الأحكام وأنها كالقرآن في تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقد ثبت عنه أنه قال: "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه لا يوشك رجل ينثني شبعانا على أريكته يقول عليكم بالقرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع "(5 ) أي: أوتيت القرآن وأوتيت مثله من السنة التي لم ينطق بها القرآن. ))( 6)،
وذهبت طائفة من المبتدعة إلى إنكار ما لم يوافق أغراضهم من السنة بدعوى أنها مخالفة للعقول وغير جارية على مقتضى الدليل فيجب ردها كالمنكرين لعذاب القبر والصراط ورؤية الله عز وجل يوم القيامة، حتى إن بعضهم سئل هل يكفر من يثبت الرؤية فأجاب: (( لا يكفر لأنه قال ما لا يعقل ومن قال ما لا يعقل فليس بكافر )) وقد بالغ بعضهم فى غية حتى كان يحلف على أن بعض الأحاديث التى ثبتت عن العدول مما لا مدخل لدليل العقل فيه إثباتا أو نفيا من المسائل العملية أنه لم يقل بها رسول الله كعمرو بن عبيد( 7) .
وذهبت طائفة إلى إنكار أخبار الآحاد مطلقا بدعوى أنها ظنية الدلالة وأن اتباع الظن مذموم فى القرآن الكريم واستبدلوها بإثبات ما استنتجته عقولهم من القرآن الكريم حتى أباحوا الخمر ، ومعلوم أن اتباع الظن المذموم فى القرآن إنما يقصد به اتباع الظن فى أصول الدين أو ترجيح أحد المتقابلين من دون دليل وليس المقصود به اتباع خبر الآحاد من الثقات العدول بدون علة أو شذوذ(8 )
وقال بعض من لا يعبء بهم حديثا: لا نقبل السنة مطلقا ، وسموا أنفسهم بالقرآنيين، ولا دليل لهم من العقل ولا من الشرع حتى يستأهلون ردا ، وإنما عمدتهم أمران:
الأول: أن القرآن فيه تفصيل لكل شىء .
لكن هذا لا يعنى تكذيب السنة ،كما لا يعنى أننا نستغنى عنها بدليل أنكم لا تجدون فى القرآن صفة الصلاة والصيام والحج .
والثانى: التشهير ببعض الأحاديث وقولهم إنها تناقض العقل.
لكن هذا لا يعنى أن نترك السنة جملة ؛ فالسنة ليست هذا الأثر أو ذاك، بل هى أعم من ذلك، وليس الضعيف من الأحاديث مبطلا للصحيح منها، وهناك قواعد وأصول قررها أهل العلم لنقد الحديث .
على أنهم فى أغلب الأحيان يشهِّرون بأحاديث لمجرد أنها تناقض أهواءهم وأذواقهم وعقولهم القاصرة المتأثرة بما يشيعه العلمانيون والماديون ويسمون ذلك عقلا، والأعجب أنهم يستعيضون عن السنة بتأويلات بعيدة غاية البعد وبلا أدنى مناسبة، ويتبعون مناهج فى غاية السفاهة والنزق فى استنباط الأحكام كجمع حروف الآيات وطرحها !
وقد أجمع المسلمون على فسقهم وسفاهتهم، وأنهم ما بين جاهل مغرور وعميل مأجور، وأصل مذهبهم من وضع الزنادقة .
لكن ما هى الدوافع الحقيقية لإنكار السنة ؟
الواقع أن الجواب عن هذا السؤال يختلف من حالة لأخرى فدوافع دهماء الرافضة المضلَّلون مثلهم مثل المعتزلة وبقية الفرق التى ضعف حظها من التسليم وعصفت بها رياح الهوى وإلف البدعة تختلف عن دوافع أصحاب المذهب الرافضى الأصليون من اليهود والسبئية قديما وحديثا؛ فهؤلاء لما لم يجدوا وسيلة لهدم الدين بالكلية دفعة واحدة عمدوا إلى النفاق وإفساد الدين من الداخل؛ فإن كان تمييع القضايا الإسلامية قد باء بالفشل وتحطمت كل المحاولات على صخرة صريح النصوص وليس ثم طريق لجحد تلك النصوص دون المرور بالكفر البواح.. كان أمامهم طريقين: الطريق الأول هو نفيها بحيث يستبعد معظمها بدعوى وجود المعارض العقلى والتعارض مع العلم، لكن ذلك سيعنى أنهم بحاجة لإدارة معركة حول كل نص على حده فما كان منهم إلا أن تجرأوا ودعوا إلى إنكار السنة واتزوا بزى من يتسمون بالقرآنيين واصبح من الصعب الآن التفريق بينهم وبين فرقة منكرى السنة الحقيقية كما لا توجد روابط بين منكرى السنة بصفى عامة فهناك من أنكرها لعداوتهم لرواتها كما فعلت الشيعة، وكان لهم فى مقابل ذلك أسانيدهم الخاصة وهناك من أنكرها بدوافع عقلية كالإسراف فى التأويل، وهناك من ينكرها كذريعة لترويج الإلحاد فما فشلت فى تحقيقة العلمانية من تمييع للقضايا يمكن لراكبى موجه إنكار السنة أن يحققوه بإبهام الرسالة وبالتالى يسهل التلاعب والتشويه بالحذف والإضافة تبعا لما تمليه الأهواء ووفقا للخطة الإلحادية .
ويعتمد هؤلاء المروجون فى إنكارهم لحجبة السنة كغيرهم من أهل الأهواء على تأويل آيات القرآن ولى أعناقها وتحميلها ما لا تحتمل ويستغلون لذلك مغالطة ((الكمال والإجمال)) حيث يخطلون بين كون القرآن كاملا وبين كونه مجملا يحتاج لتفصيل فيقولون : إذا كان القرن كاملا فلا يحتاج لتفصيل، وهم فى ذلك يلعبون على وتر عاطفى دقيق جدا وهو تعظيم المسلمين للقرآن أكثر من تعظيمهم لأى نص آخر حتى ولو كانت السنة وبذلك يضمنون تمرير سلعتهم لدى الكثير من العوام .
وقد وجد هؤلاء جمهورا عريضا بين من ضعفت قلوبهم عن التسليم التام ومن يقف فى منتصف الطريق وكل من تعلق إسلامه بقشة بحيث يصبح اختزال بعض واجبات الإيمان فى حقهم مما تمس إليه الحاجة فظنوا أن فى هذا المنهج استراحة من كثير مما يمرض قلوبهم وعجزوا عن التسليم به، وهم فى الواقع من أعظم الناس تناقضا لإيمانهم بالأصل وكفرهم ببعض الفروع وسرعان ما ينقلب حالهم فيؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ولن يتوقف أمرهم على إنكار السنة فأصل المرض واحد وسيؤول بهم الأمر فى نهاية المطاف لإنكار الجميع والخروج من الإيمان بالكلية وهو ما نشاهده من أحوالهم حيث لا نكاد نفرق بينهم وبين النصارى والملاحدة ولا عجب من أن نسمع أن بعضهم يصلى الجمعة خلف النساء فى كنيسة أو يحضر مؤتمرا لمناهضة الإسلام وتدعيم الصهيونية..نسأل الله العفو والعافية والسلامة .
-----------
(1 ) السيوطى : مفتاح الجنة فى الاحتجاج بالسنة ،الجامعة الإسلامية المدينة المنورة ، 1399 ، ص5-6
(2 ) السابق: ص 22
(3 ) سورة الحشر :7
(4 ) انظر الشوكانى محمد بن على بن محمد : الفوائد المجموعة فى الأحاديث الموضوعة ، تحقيق عبد الرحمن يحيى المعلمى ، المكتب الإسلامى بيروت ،ط3، 1407، ص291.
(5 ) أخرجه عن المقدام بن معديكرب بأسانيد صحيحة :أحمد ( 28/410-411، رقم 17174) واللفظ له ، وأبو داود (4/238 ، رقم 4604) ، والطبرانى (20/283 ، رقم 670) ،والبيهقى فى السنن الكبرى ( 9/332، رقم 19253)، والدارقطنى ( 4/287، رقم 59)، وابن حبان ( 1/189، رقم 13).
(6 ) انظر : الشوكانى إرشاد الفحول 1/96.
(7 ) هو أبو عثمان عمر بن عبيد بن باب شيخ المعتزلة فى وقته تنسب إليه المعتزلة كما تنسب لواصل بن عطاء ، ولد سنة 80 هـ وتوفى بموضع اسمه مران سنة 144 وقيل غير ذلك ، انظر ابن خلكان : وفيات الأعيان 3/460-462.
(8 ) انظر : أبو إسحق إبراهيم بن موسى الشاطبى : الاعتصام ، تحقيق أبى عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان ، مكتبة التوحيد 2/18-30