الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله سيد الخلق أجمعين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد أُخبِرت عن موضوع كتبه بعضهم ينسب فيه إلى أصحابنا الحنابلة عدم تحريم حلق اللحية، وحاصل زعمه أنه شيء اخترعه الشيخ تقي الدين ابن تيمية لا يعرف لدى أصحابنا قبله، ودعم عرجه بالخلط بين قولهم باستحباب الإعفاء وقولهم بحرمة حلقها، مع كون كلامهم ظاهرًا في الفرق بينهما وعدم توارد الحكمين على معنى واحد. وهو أمر ظاهر لكل من رزقه الله الفهم وحسن القصد. لكن الأمر كما قال الشافعي الإمام رحمه الله في الرسالة ص41:
"وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به وأقرب من السلامة له إن شاء الله".
ومعلوم أن الحلق عند الفقهاء غير الأخذ من الشعر وقصه وغير إحفائه،كما في الحلق والتقصير في النسك ومسألة حف الشارب ونحو ذلك من المسائل.
قال في كشاف القناع شارحًا معنى الإعفاء ومبينًا تحريم الحلق:
( وإعفاء اللِّحية ) بأن لا يأخذ منها شيئًا، قال في المذهب ما لم يُسْتَهْجَنْ طُولُهَا ( وَيَحْرُمُ حَلْقُهَا ) ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ.اهـ
وقد أطبق الحنابلة على ذكر تحريم حلق اللحية قولًا واحدًا لا يختلفون فيه، ونسبة بعضِهم ذلك إلى شيخ الإسلام ابن تيمية ليس معناه أنه أول من اخترع القول به.
ومعلوم أن شيخ الإسلام رحمه الله من أئمة المذهب وممن يعتمد عليه في معرفته، فلا إشكال إذن في ذكر حكم وإتباعه بأنه قوله، وليس يدل ذلك عند من له أدنى إلمام بطرق أصحابنا على أنه قول شخصي لشيخ الإسلام و اختيار له وأنه ليس معتمدَ المذهب.
والشيخ تقي الدين ابن تيمية ررر ممن سلم له الاجتهاد وأن له اختيارات تخالف معتمد المذهب في عشرات المسائل، فإذا وقع له اختيار مخالف للمعتمد وأراد أصحابنا بيانه ذكروا المذهب أوّلًا ثم حلَّوا المسألة بذكر اختياره ررر، كما يفعله صاحب الفروع و صاحب الإنصاف في عشرات المسائل، ولذلك نظائر عند الحجاوي في الإقناع وعند البهوتي في شرحه وفي شرح المنتهى في آخرين.
وأما إذا ذكر أصحابنا كلام الشيخ تقي الدين في مسألة بلا ذكر لقول ثان فيها فهو المذهب بلا ريب.
وسأنقل أمثلة على ذلك غير قاصد للاستيعاب لأن ذلك لا ينحصر، وإنما أذكرها لأقطع شغب من لا يحسن فهم كلامهم أو يفهمه ولكن ساء قصده، عياذًا بالله.
قال المرداوي في الإنصاف عند الكلام على الختان:
فوائد:
منها: محل وجوبه عند البلوغ.
قال الشيخ تقي الدين: يجب الختان إذا وجبت الطهارة والصلاة.اهـ.
فهذا المذهب ولا ينازع في ذلك أحد، وتأمل كيف ذكر الحكم مسلَّمًا ثم ذكر كلام الشيخ تقي الدين الذي ينص عليه؟!
وله نظائر كثيرة في كلامه وفي كلام صاحب الفروع.
وأما إذا أراد أن يبين أن اختيار الشيخ تقي الدين مخالف لمعتمد المذهب فإنه يبين حكم المسألة على المعتمد ومن اختاره من الأصحاب ثم يذكر اختيار الشيخ تقي الدين رضي الله عنه بعد ذلك.
وأمثلة هذا في عشرات المسائل.
ومنها:
ما قاله في الإنصاف:
قوله"ومن شرطه أن يلبس الجميع بعد كمال الطهارة، إلا الجبيرة على إحدى الروايتين" إن كان الممسوح عليه غير جبيرة، فالصحيح من المذهب: أنه يشترط لجواز المسح عليه كمال الطهارة قبل لبسه .
وعليه الأصحاب .
وعنه لا يشترط كمالها، اختاره الشيخ تقي الدين، وصاحب الفائق.اهـ
وقد سلك مسلكه كثير ممن أتى بعده ومنهم الحجاوي في الإقناع والبهوتي في شرحه وفي شرح المنتهى، سواء في أصل مسألة، أو في بيان مراد الأصحاب فيها.
قال في شرح المنتهى:
تنبيه: ظهر مما سبق أن نجاسة الماء حكمية، وصوبه في الإنصاف، وذكره الشيخ تقي الدين في شرح العمدة لأنه يطهر غيره، فنفسه أولى وأنه كالثوب النجس.
وقال في باب الآنية:
(لا) إن ضبب ( ب ) ضبة ( يسيرة عرفا من فضة لحاجة ) كأن انكسر إناء خشب أو نحوه فضبب كذلك فلا يحرم، لحديث أنس... فإن كانت من ذهب أو كبيرة من فضة حرمت مطلقا، وكذا إن كانت يسيرة لغير حاجة ( وهي ) أي الحاجة ( أن يتعلق بها ) أي الضبة المذكورة ( غرض غير زينة ) بأن تدعو الحاجة إلى فعله، لا أن لا تندفع بغيره فتباح ( ولو وجد غيرها ) أي الفضة، كحديد ونحاس، قال الشيخ تقي الدين: مرادهم أن يحتاج إلى تلك الصورة، لا إلى كونها من ذهب أو فضة، فإن هذه ضرورة، وهي تبيح المنفرد.اهـ.
هذا مع أن في مرادهم بالحاجة اختلافًا، كما يعلم من الفروع وغيره. لكن المذهب ما قاله أبو العباس رحمه الله.
وقال أيضا:
( ويثبت به ) أي انتقال مني ( حكم بلوغ وفطر وغيرهما ) كوجوب كفارة، قياسا على وجوب الغسل ( وكذا ) أي كانتقال مني ( انتقال حيض ) قاله الشيخ تقي الدين .
فيثبت بانتقاله ما يثبت بخروجه فإذا أحست بانتقال حيضها قبل الغروب وهي صائمة أفطرت ولو لم يخرج الدم إلا بعده.
وهكذا يفعل صاحب الإقناع وشارحه:
قال في الكشاف:
( و ) تسن ( الصلاة في الطاهر منها ) أي : من النعال قاله الشيخ تقي الدين وغيره للأخبار.
ومتى أراد الحجاوي أن يختار قول الشيخ تقي الدين مخالفًا للمذهب في بعض المسائل فإنه يذكر القولين.
فمن ذلك:
قوله في مسألة التلفظ بالنية:
(واستحبه) أي التلفظ بالنية ( سرا مع القلب كثير من المتأخرين ) ليوافق اللسان القلب.
قال في الإنصاف: والوجه الثاني يستحب التلفظ بها سرا، وهو المذهب قدمه في الفروع، وجزم به ابن عبيدان والتلخيص وابن تميم وابن رزين قال الزركشي: هو أولى عند كثير من المتأخرين. ا هـ. وكذا قال الشهاب الفتوحي، وهو المذهب (ومنصوص أحمد وجمع محققين خلافه) قال الشيخ تقي الدين وهو الصواب ( إلا في إحرام ، ويأتي ) في محله.
( وفي الفروع والتنقيح ) وتبعهما في المنتهى ( يسن النطق بها سرا ) لما تقدم ( فجعلاه سنة وهو سهو ) عند من يفرق بين المسنون والمستحب كما يعلم من كلامه في حاشية التنقيح، والصحيح أنه لا فرق بينهما. ففي كلامه نظر واضح. وعلى فرض أن لا يكون هو الصحيح فلا ينبغي نسبتهما إلى السهو لجلالتهما وتحقيقهما للاختلاف فيه.اهـ.
وقال أيضا في الإقناع:
( و ) يكره ( الإسراف في المباح ).
قال شارحه:
وحرّمه الشيخ تقي الدين ، لعموم "ولا تسرفوا".اهـ.
فانظر إلى هذا البيان ولا تعم عنه.
وبناء على ذلك، فإذا ذكر صاحب الإقناع أو غيره ممن يقتصر على قول واحد تحريم حلق اللحية بلا ذكر خلاف في المسألة فهو المذهب نسب ذلك إلى قائل أو لم ينسبه.
فإن الحجاوي قال في مقدمة كتابه "الإقناع" مع شرحه "كشاف القناع":
(اجتهدت) أي بذلت وسعي ( في تحرير نقوله ) أي تهذيب مسائله المنقولة عن الإمام أو الأصحاب ( واختصارها لعدم تطويله ) لقصور الهمم وكثرة الموانع ( مجردًا ) هذا الكتاب ( غالبا عن دليله وتعليله على قول واحد ) من غير تعرض للخلاف طلبًا للاختصار، وكذلك صنعت في شرحه. والقول يعم ما كان رواية عن الإمام أو وجهًا للأصحاب.
( وهو ) أي القول الواحد الذي يذكره ويحذف غيره هو ( ما رجحه أهل الترجيح ) من أئمة المذهب ( منهم العلامة القاضي علاء في كتبه الإنصاف وتصحيح الفروع والتنقيح ).اهـ.
وقد بين المرداوي في الإنصاف طريقته في اعتماد الأقوال ومن يرجع إليهم في معرفة الصحيح منها، فقال:
"وأحشي على كل مسألة إن كان فيها خلاف واطلعت عليه، وأبين ما يتعلق بمفهومها ومنطوقها، وأبين الصحيح من المذهب من ذلك كله،
فإنه المقصود والمطلوب من هذا التصنيف وغيره داخل تبعًا.
وهذا هو الذي حداني إلى جمع هذا الكتاب لمسيس الحاجة إليه، وهو في الحقيقة تصحيح لكل ما في معناه من المختصرات. فإن أكثرها بل والمطولات لا تخلو من إطلاق الخلاف.
وقد أذكر مسائل لا خلاف فيها، توطئة لما بعدها لتعلقها بها، أو لمعنى آخر أبينه، وأذكر القائل بكل قول، واختياره، ومن صحح، وضعف، وقدم، وأطلق، إن تيسر ذلك.
وأذكر إن كان في المسألة طرق للأصحاب، ومن القائل بكل طريق.وقد يكون للخلاف فوائد مبينة عليه، فأذكرها إن تيسر، وإن كان فيها خلاف ذكرته وبينت الراجح منه.
وقد يكون التفريع على بعض الروايات أو الوجوه دون بعض، فأذكره، وربما ذكره المصنف أو بعضه فأكمله.
وربما ذكرت المسألة في مكانين أو أكثر، أو أحلت أحدهما على الآخر ليسهل الكشف على من أرادها.
وليس غرضي في هذا الكتاب الاختصار والإيجاز، وإنما غرضي الإيضاح وفهم المعنى....
إلى أن قال:
"تنبيه: اعلم وفقك الله تعالى وإيانا أن طريقتي في هذا الكتاب النقل عن الإمام أحمد والأصحاب، أعزو إلى كل كتاب ما نقلت منه، وأضيف إلى كل عالم ما أروي عنه.
فإن كان المذهب ظاهرًا أو مشهورًا أو قد اختاره جمهور الأصحاب وجعلوه منصورًا فهذا لا إشكال فيه وإن كان بعض الأصحاب يدعي أن المذهب خلافه، وإن كان الترجيح مختلفًا بين الأصحاب في مسائل متجاذبة المأخذ، فالاعتماد في معرفة المذهب من ذلك على ما قاله المصنف، والمجد، والشارح، وصاحب الفروع، والقواعد الفقهية، والوجيز، والرعايتين، والنظم، والخلاصة، والشيخ تقي الدين، وابن عبدوس في تذكرته.
فإنهم هذبوا كلام المتقدمين، ومهدوا قواعد المذهب بيقين.
فإن اختلفوا فالمذهب : ما قدمه صاحب " الفروع " فيه في معظم مسائله.اهـ.
والأمر هنا كذلك، والتحريم ليس فقط مما قدمه صاحب الفروع بل اقتصر عليه.
فإذا بان لك ذلك وعلمتَ طريقة الأصحاب في ذكر الأقوال واعتمادها وتيقنتَ من تهافت كلام الأجنبي عن كتب أصحابنا والمشغب، فها هو ذكر طرف من كلامهم في معتمد كتبنا في حكم حلق اللحية وأنه التحريم.
قال ابن مفلح في الفروع:
ويعفي لحيته ، وفي المذهب ما لم يستهجن طولها ( و م ) ويحرم حلقها ذكره شيخنا.
ولا يكره أخذ ما زاد على القبضة ، ونصه لا بأس بأخذه وما تحت حلقه لفعل ابن عمر، لكن إنما فعله إذا حج أو اعتمر. رواه البخاري ، وفي المستوعب وتركه أولى .وقيل يكره .
وأخذ أحمد من حاجبيه وعارضيه ، ونقله ابن هانئ ويحف شاربه ( م ) أو يقص طرفه ، وحفه أولى في المنصوص ( و هـ ش ) ولا يمنع منه ( م ) وذكر ابن حزم الإجماع أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض ، وأطلق أصحابنا وغيرهم الاستحباب، وأمر عليه السلام بذلك وقال"خالفوا المشركين". متفق عليه. ولمسلم"خالفوا المجوس".
وعن زيد بن أرقم مرفوعًا"من لم يأخذ شاربه فليس منا". رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه، وهذه الصيغة تقتضي عند أصحابنا التحريم. ويأتي في العدالة هل هو كبيرة؟ ويأتي في آخر ستر العورة والوليمة حكم التشبه بالكفار.اهـ.
وقال في الإنصاف:
ويعفي لِحيتَه .
وقال ابنُ الجوزيِّ فِي المذهب: ما لم يستهجنْ طولها.
وَيَحْرُمُ حَلْقُهَا. ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّين.
ولا يُكْرَهُ أَخْذُ مَا زَادَ على الْقَبْضَة.
وَنَصُّهُ: لَا بَأْسَ بِأَخْذِ ذَلِكَ. وأخذ ما تحت حلقه.
وقال في شرح المنتهى:
ويعفي لحيته ويحرم حلقها ، ذكره الشيخ تقي الدين.
وقال في كشاف القناع_ وهو من أهم النقولات لأنه فسر الإعفاء المستحب_:
( وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ ) بِأَنْ لا يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا، قَالَ فِي الْمذْهب: مَا لَمْ يُسْتَهْجَنْ طُولُهَا ( وَيَحْرُمُ حَلْقُهَا ) ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ( وَلَا يُكْرَهُ أَخْذُ مَا زَادَ عَلَى الْقَبْضَةِ ) وَنَصُّهُ: لَا بَأْسَ بِأَخْذِهِ ( وَلا أَخْذُ مَا تَحْتَ حَلْقِهِ ) لِفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ لَكِنْ إنَّمَا فَعَلَهُ إذَا حَجَّ أَوْ اعْتَمَرَ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ.
وقال في الروض المربع:
ويحرم حلقها. ذكره الشيخ تقي الدين. ولايكره أخذ مازاد على القبضه منها.
وفي هذا القدر كفاية، والمسألة أجلى من أن يكثر فيها من النقولات، وإن خفيت على من غبي عن فهم كلام أهل العلم في ذلك.
على أن حلق اللحية حرام إجماعَا، ولم أرِد هنا تقرير الأدلة على تحريم الحلق، لأن النزاع لم يكن فيه. وبالله التوفيق.