ضابط تفسير الصفة باللازم
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل الله فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
من أنواع التفسير والدلالات تفسير الصفة باللازم , وهذا منهج صحيح يستدل به بعض العلماء , ولما كانت الألفاظ والكلمات يعتريها لوازم حقة وباطلة كان لا بد من معرفة الضابط في ذلك .
وربما يكون من أسباب تحريف وتعطيل النصوص الفرار من اللوازم الباطلة .
ولتوضيح هذه المسألة لا بد من بيان أقسام الدلالات ومنها دلالة الالتزام .
الدلالة
هي ما يوجب إدراك شيء بسبب إدراك شيء ملازم له .
ويقسم العلماء الدلالة إلى الأقسام التالية :
الدلالة العقلية والدلالة الطبيعية والدلالة الوضعية وكل واحدة منها تنقسم إلى لفظية وغير لفظية .
أقسام الدلالة الوضعية اللفظية :
تنقسم الدلالة الوضعية اللفظية إلى ثلاث أقسام هي :
1- الدلالة المطابقية : وهي دلالة اللفظ على تمام المعنى الذي وضع له . كدلالة لفظ (الدار) على جميع مرافقها .
2- الدلالة التضمنية : وهي دلالة اللفظ على جزء المعنى الذي وضع له . كدلالة لفظ (الدار) على غرفة الضيافة وغرفة النوم .
3- الدلالة الالتزامية : هي دلالة اللفظ على معنى ملازم للمعنى الذي وضع له . كدلالة لفظ ( الدار ) على السور الخارجي للبيت مثلا .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
القاعدة الرابعة : دلالة أسماء الله تعالى على ذاته وصفاته تكون بالمطابقة، وبالتضمن، وبالالتزام.
فمعنى دلالة المطابقة: تفسير الاسم بجميع مدلوله، أو دلالته على جميع معناه.
ومعنى دلالة التضمن: تفسير الاسم ببعض مدلوله، أو بجزء معناه.
ومعنى دلالة الالتزام: الاستدلال بالاسم على غيره من الأسماء التي يتوقف هذا الاسم عليها، أو على لازم خارج عنها.
مثال ذلك: الخالق يدل على ذات الله، وعلى صفة الخلق بالمطابقة، ويدل على الذات وحدها بالتضمن، ويدل على صفتي العلم والقدرة بالالتزام.
القواعد المثلى
تفسير اللفظ باللازم يكون مع إثبات مدلول اللفظ حقيقة : قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وقوله {فأولئك مع المؤمنين} يدل على موافقتهم فى الإيمان وموالاتهم فالله تعالى عالم بعباده وهو معهم أينما كانوا وعلمه بهم من لوازم المعية كما قالت المرأة زوجي طويل النجاد عظيم الرماد قريب البيت من الناد فهذا كله حقيقة ومقصودها أن تعرف لوازم ذلك وهو طول القامة والكرم بكثرة الطعام وقرب البيت من موضع الأضياف .
وفى القرآن {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} فإنه يراد برؤيته وسمعه إثبات علمه بذلك وأنه يعلم هل ذلك خير أو شر فيثيب على الحسنات ويعاقب على السيئات وكذلك إثبات القدرة على الخلق كقوله وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وقوله{ أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون } والمراد التخويف بتوابع السيئات ولوازمها من العقوبة والانتقام .
وهكذا كثير مما يصف الرب نفسه بالعلم بأعمال العباد تحذيرا وتخويفا ورغبة للنفوس في الخير ويصف نفسه بالقدرة والسمع والرؤية والكتاب فمدلول اللفظ مراد منه وقد أريد أيضا لازم ذلك المعنى فقد أريد ما يدل عليه اللفظ في أصل اللغة بالمطابقة والالتزام فليس اللفظ مستعملا في اللازم فقط بل أريد به مدلوله الملزوم وذلك حقيقة .
مجموع الفتاوى (5|128)
وقال ابن القيم : ولا ريب أن الأمور ثلاثة:
أمر يلزم الصفة لذاتها من حيث هي فهذا لا يجب بل لا يجوز نفيه كما يلزم العلم والسمع والبصر من تعلقها بمعلوم ومسموع ومبصر فلا يجوز نفي هذه التعلقات عن هذه الصفات إذ لا تحقق لها بدونها وكذلك الإرادة مثلا تستلزم العلم لذاتها فلا يجوز نفي لازمها عنها وكذلك السمع والبصر والعلم يستلزم الحياة فلا يجوز نفي لوازمها وكذلك كون المرئي مرئيا حقيقة له لوازم لا ينفك عنها ولا سبيل إلى نفي تلك اللوازم إلا بنفي الرؤية وكذلك الفعل الاختياري له لوازم لا بد فيه منها فمن نفى لوازمه نفى الفعل الاختياري ولا بد ...
طريق الهجرتين (361)
تقديم دلالة المطابقة والتضمن على دلالة الالتزام
وهنا مسألة مهمة وهي تقديم دلالة المطابقة والتضمن على دلالة الالتزام , فلا بد قبل أن ينظر في لوازم اللفظ إثبات مدلوله ومعناه الحقيقي بالمطابقة والتضمن ؛ فتجد مثلا كثيرا من المحرفين للنصوص يرد المعنى الحقيقي للفظ مع أن دلالته المطابقية والتضمنية واضحة استنادا للوازم اللفظ الباطلة ؛ فهنا لا بد من أن يتنبه الإنسان أن دلالة المطابقة والتضمنية هي الأصل , وبعد ذلك ينظر في اللوازم إن احتيج إلى ذلك ؛ وخصوصا أن الألفاظ والكلمات يعتريها ما لا ينحصر من اللوازم الحقة والباطلة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : والمعتبر في التعريفات دلالة المطابقة والتضمن فأما دلالة الالتزام فلا لأن المدلول عليه فيها غير محدود ولا محصور إذ لوازم الأشياء ولوازم لوازمها لا تنضبط ولا تنحصر فيؤدي إلى أن يكون اللفظ الواحد على ما لا يتناهى من المعاني وهو محال .
الرد على المنطقيين (76)
وقال الغزالي: وإياك أن تستعمل في نظر العقل من الألفاظ ما يدل بطريق الالتزام، لكن اقتصر على ما يدل بطرق المطابقة و التضمن، لأن الدلالة بطريق الالتزام لا تنحصر.
المستصفى (25)
لازم الصفة عند إضافتها إلى الله سبحانه لا يكون لازماً للصفة عند إضافتها إلى المخلوق , وكذلك العكس .
فمثلاً من لوازم إضافة الاستواء إلى المخلوق : احتياجه لما هو مستو عليه ، وهذا اللازم خاص بمن أضيف إليه وهو المخلوق . فإذا أضيف الاستواء إلى الله تبارك وتعالى لا يصح بأيِّ وجه من الوجوه أن نضيف إليه لازم الصفة حال إضافتها إلى المخلوق .
وبهذا يُعلم فساد أقوى شبهة عند هؤلاء لإنكار الاستواء ، وهي قولهم : لو أثبتنا أن الله تبارك وتعالى مستو على عرشه حقيقة للزم من ذلك أن الله محتاج إلى العرش .
وقد جاءتهم هذه الشبهة من جعلهم لازم الصفة حال إضافتها للمخلوق لازماً للصفة حال إضافتها للخالق ، وهذا سبب الفساد وأساسه في هذه الصفة ، بل وفي كلِّ صفة خاض فيها هؤلاء بالباطل .
وأهل العلم يقولون : الصفة لها ثلاثة اعتبارات :
الاعتبار الأول : من حيث الإطلاق ، أي بدون أن تضاف لا إلى خالق ولا إلى مخلوق . فعندما نقول الاستواء ، ولا نضيفه لا إلى الله ، ولا إلى الخلق . فهو في هذه الحال أمر في الذهن ، لا حقيقة له في الخارج .
الاعتبار الثاني : اعتبار الصفة من حيث إضافتها إلى الله سبحانه وتعالى ، مثل استواء الله على العرش : {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فهنا الصفة مضافة إلى الله ، والإضافة تقتضي التخصيص ، فالصفة المضافة إلى الله تخصه سبحانه وتعالى وتليق بجلاله وكماله ، ولازمها : الكمال اللائق
بجلاله وعظمته . وهذا اللازم لا يجوز أن يجعل لازماً للصفة عندما تضاف للمخلوق .
الاعتبار الثالث : اعتبار الصفة من حيث إضافتها إلى المخلوق ، ولازم الصفة في هذه الحال : النقص والضعف ، وهي تليق بالمخلوق وبضعفه ونقصه وكونه مخلوقاً . وهذا اللازم الذي يلزم الصفة باعتبار إضافتها إلى المخلوق ليس لازماً للصفة باعتبار إضافتها إلى الخالق .
فإذا جعل لازم الصفة باعتبار إضافتها إلى المخلوق لازماً لها باعتبار إضافتها إلى الخالق يكون بذلك تشبيه للخالق بالمخلوق ، وإذا جعل لازم الصفة باعتبار إضافتها للخالق لازماً للصفة باعتبار إضافتها للمخلوق يكون بذلك تشبيه للمخلوق بالخالق ، والله عز وجل لا يشبه أحداً من خلقه ، ولا يشبهه أحد من خلقه ، فكلا التشبيهين باطل : تشبيه الخالق بالمخلوق ، وتشبيه المخلوق بالخالق .
تذكرة المؤتسي (76)
قلت : وهذا الكلام الذي ذكره الشيخ عبد الرزاق البدر أشار إليه ابن القيم رحمه الله
قال رحمه الله : فإن الصفة يلزمها لوازم باختلاف محلها فيظن القاصر إذا رأى ذلك اللازم في المحل المحدث أنه لازم لتلك الصفة مطلقا فهو يفر من إثباتها للخالق سبحانه حيث لم يتجرد في ظنه عن ذلك اللازم وهذا كما فعل من نفى عنه سبحانه الفرح والمحبة والرضى والغضب والكراهة والمقت والبغض وردها كلها إلى الإرادة فإنه فهم فرحا مستلزما لخصائص المخلوق من انبساط دم القلب وحصول ما ينفعه وكذلك فهم غضبا هو غليان دم القلب طلبا للانتقام وكذلك فهم محبة ورضى وكراهة ورحمة مقرونة بخصائص المخلوقين فإن ذلك هو السابق إلى فهمه وهو المشهود في علمه الذي لم تصل معرفته إلى سواه ولم يحط علمه بغيره ولما كان هو السابق إلى فهمه لم يجد بدا من نفيه عن الخالق والصفة لم تتجرد في عقله عن هذا اللازم فلم يجد بدا من نفيها.. .
ثم قال رحمه الله
: ومنشأ غلط المحرفين إنما هو ظنهم أن ما يلزم الصفة في المحل المعين يلزمها لذاتها فينفون ذلك اللازم عن الله فيضطرون في نفيه إلى نفي الصفة .
طريق الهجرتين (361)
ضابط اللازم ما دل عليه الشرع
قال شيخ الإسلام : ثم بعد هذا من كان قد تبين له معنى من جهة العقل أنه لازم للحق لم يدفعه عن عقله فلازم الحق حق لكن ذلك المعنى لابد أن يدل الشرع عليه فيبينه بالألفاظ الشرعية و إن قدر أن الشرع لم يدل عليه لم يكن مما يجب على الناس اعتقاده و حينئذ فليس لأحد أن يدعو الناس إليه وإن قدر أنه في نفسه حق.
مجموع الفتاوى (17|319)
وقال ابن القيم رحمه الله : : وحينئذ فلهم جوابان مركب مجمل ومفرد مفصل أما الأول فيقولون لهم هذه اللوازم التي تلزمونا بها إما أن تكون لازمة في نفس الأمر وإما أن لا تكون لازمة فإن كانت لازمة فهي حق إذ قد ثبت أن ما جاء به الرسول فهو الحق الصريح ولازم الحق حق وإن لم تكن لازمة فهي مندفعة ولا يجوز إلزامها .
وأما الجواب المفصل فيفردون كل إلزام بجواب ولا يردونه مطلقا بل ينظرون إلى ألفاظ ذلك الإلزام ومعانيه فإن كان لفظها موافقا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يتضمن إثبات ما أثبته ونفي ما نفاه فلا يكون المعنى إلا حقا فيقبلون ذلك الإلزام وإن كان مخالفا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم متضمنا لنفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه كان باطلا لفظا ومعنى فيقابلونه بالرد وإن كان لفظا مجملا محتملا لحق وباطل لم يقبلوه مطلقا ولم يردوه مطلقا حتى يستفسروا قائله ماذا أراد به ؛ فإن أراد معنى صحيحا مطابقا لما جاء به الرسول قبلوه ولم يطلقوا اللفظ المحتمل إطلاقا إن أراد معنى باطلا ردوه ولم يطلقوا نفي اللفظ المحتمل أيضا فهذه قاعدتهم التي بها يعتصمون وعليها يعولون .
طريق الهجرتين (361)
ما يندرج تحت دلالة الالتزام
قال الشنقيطي رحمه الله : ومعلوم في الأصول أن دلالة الإشارة ، ودلالة الاقتضاء ، ودلالة الإيماء والتنبيه كلها من دلالة الالتزام ، ومعلوم أن هذه الأنواع من دلالة الالتزام .
أضواء البيان (4|491)
فملخص الكلام :
1-من أنواع التفسير والدلالات تفسير الصفة باللازم .
2- تفسير اللفظ باللازم مع إثبات مدلول اللفظ حقيقة .
3-تقديم دلالة المطابقة والتضمن على دلالة الالتزام .
4-لازم الصفة عند إضافتها إلى الله سبحانه لا يكون لازماً للصفة عند إضافتها إلى المخلوق , وكذلك العكس .
5- ضابط اللازم ما دل عليه الشرع .
والحمد لله رب العالمين