قراءة في بعض النصوص الإصلاحية للشيخ باعزيز بن عمر
أ. محمد أرزقي فراد
يعد الشيخ باعزيز بن عمر ( 1906 – 1977) أحد المثقفين الكبار الذين أنجبتهم الحركة الإصلاحية الفكرية بالجزائر. وقد تخرج من زاوية عبد الرحمن اليلولي التي كانت تعد إحدى منارات العلم في بلاد الزواوة ، منذ تأسيسها في القرن السابع عشر الميلادي إلى غاية استرجاع الاستقلال الوطني. و ترك تراثا فكريا زاخرا مبثوثا في ثنايا جرائد ومجلات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، قدر بنحو(500) مقالة، فضلا عن مؤلفات مخطوطة عديدة ، نشر منها في حياته كتاب [ دروس الأخلاق والتربية الوطنية / أربعة أجزاء]، وتكفل الأستاذ إســـــــماعيل زكري بنشر بعضها بعد وفاة مؤلفها، وهي على التوالي :
1- الجزائر الثائرة (مسرحية تاريخية) صدر سنة 2003، عن وزارة الثقافة.
2- رحلتي إلى البقاع المقدسة، منشورات المجلس الإسلامي الأعلى سنة 2005م.
3- من ذكرياتي عن الإمامين، عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي، منشورات الحبر، 2006م بالجزائر.
هذا، وقد وقع اختياري على نص المحاضرة التي ألقاها بنادي الترقي بمدينة الجزائر
سنة 1933م، بعنوان [ الزوايا بالزواوة ]، نشرت في حلقتين بمجلة الشهاب ( ج1، المجلد 9، بتاريخ جانفي 1933م// وج2، المجلد 9 ، بتاريخ فيفري1933م.). أظهر فيها كفاءته التربوية، الهادفة إلى إحداث إصلاح عميق في نظام التعليم، يشمل الشكل والمضمون، قصد إنقاذ هذه المؤسسات التعليمية من الانحراف، وإعادتها إلى مسارها التربوي / التعليمي الصحيح.
المعنى اللغوي والاصطلاحي لمفهوم الزاوية
مهد الشيخ باعزيز بن عمر لمحاضرته بمقدمة شيقة عن بلاد الزواوة، لجلب اهتمام المستمع ولفتح شهيته العقلية لتقبل فحوى المحاضرة. ثم عرف الزاوية" لغويا" بقوله: <<... اسم جامع لمكان بقطع النظر عمن يجمعه هذا المكان من المنزوين إليه >>.
ثم قدم تعريفين " من حيث الاصطلاح" شملا حقيقة الزاوية( المعنى الصالح )، وما آلت إليه بعد الانحطاط ( المعنى الطالح)، فأوضح في المعنى الأول أن أهداف الزاوية هي نشر العلم، ورعاية المجتمع: << ... قراءة العلم من الاعتناء بحفظ القرآن وتعليم ما يستلزمه من العلوم العربية والشرعية، وما إلى هذا من أقامة الشعائر الدينية، وإطعام الفقير، وابن السبيل، وكل محتاج ، وهذا الثاني أمر اجتماعي إسلامي صحيح، وهو الأمر الذي أسست من أجله زوايا " الزواوة"الكثيرة المنتشرة في النواحي... >>
أما المعنى الثاني ( أي الطالح)، فقد عرّفه بقوله: <<... تلك الأعمال المنكرة من الرقص والشطح وما يتبعه من التصفيق وضرب الدفوف ولبس الشفوف كما هو المشاهد هنا وهناك، ولا أظن أحدا ينفي شيئا من هذا بحجة أنه ما رأى وما سمع. >>
الزوايا الرائدة برأي باعزيز بن عمر
اعتبر باعزيز بن عمر الزاويتين عبد الرحمن اليلولي بولاية تيزي وزو( التي تخرج منها معظم علماء الزواوة)، وزاوية الشيخ بن سحنون بثاغراسث( ولاية بجاية)، من أشهر الزوايا قديما وحديثا، وفسّر ذلك باحتضانهما للفكر الإصلاحي، فكانت الأولى تستقبل باستمرار العلماء الذين تخرجوا من جامعي الزيتونة والأزهر، لذلك ظلت على صلة مستمرة بالتجديد التربوي على الصعيد العربي، وقال في هذا السياق:<<... ومما يسر أنها مستعدة لإدخال كل ما يرفع مستوى التعليم العربي الإسلامي من الإصلاحات اللازمة، وعلى إصلاحها يتوقف إصلاح أخواتها.>>
أما زاوية ثاغراسث التي أسسها محمد السعيد السحنوني بعد ثورة 1871م- والتي تعد فرعا للزاوية السحنونية الأم بعرش اث يراثن- فقد صنفها الكاتب في المرتبة الثانية مباشرة بعد الزاوية المذكورة، علما أنها عرفت قفزة تربوية نوعية بفضل جهود الشيخ محمد الشريف السحنوني الذي أكمل تحصيله العلمي بجامع الزيتونة، وقال باعزيز بن عمر في هذا السياق: << ويلي هذه في الاستعداد لإدخال الإصلاح زاوية الشيخ بن سحنون بفضل ما أخذ به فيها أستاذها الفاضل وصاحبها الشيخ الشريف، أحد متخرجي المعهد الزيتوني أخيرا. >>
دور المجتمع في إنشاء الزوايا بمنطقة الزواوة
تضافرت جهود العلماء الأتقياء وأخيار المجتمع، من أجل إنشاء الزوايا للتعليم والرعاية، فوظفت الفئة الأولى كفاءتها العلمية، في حين تبرع الناس بالأرض لبناء الزوايا، والبساتين والأشجار المثمرة للانتفاع بمردودها للتكفل بالمدرســــــــ ـــين والطلبة:
<< ... هنا ترون أيها السادة أن العامة المسلمة بهذه البلاد فضلا عن الخاصة لم تفتأ تسارع منذ عهد قديم إلى البذل والتعاون في كل مشروع يعود بالخير على الإسلام والمسلمين مثل بناء المدارس وتشييد المساجد كما هو الجاري بالزواوة، وهذه الزوايا أو هذه المدارس لم تظهر إلى الوجود وبقيت إلى هذا اليوم، إلا بأموال أولي البر والتقوى وعطايا من أرزاقهم كانت تدفع على نظام خاص ، حتى كان لكل زاوية ميزانيتها المعروفة من ماليتها لدى أربابها،الذين نرجو من الحاضرين منهم أن يلتزموا دائما حسن التصرف والتدبير فيها...>>
انحطاط التعليم في الزوايا
كانت طريقة التدريس والتعليم عقيمة، لا تقيم وزنا لقضية الوقت، إذ كان الطالب يمكث سنوات عديدة في الزاوية دون أن يقضي وطره، وفي ذلك مضيعة للوقت والموارد البشرية،
و يعتمد التدريس فيها على حفظ القرآن والمتون المختلفة دون فهم، لينتقل بعدها الطالب إلى دراسة الفقه وقواعد اللغة العربية، بطريقة لا تساعد على التحصيل العلمي الناجع. وبرأي الشيخ باعزيز، فإن هذه الطريقة العقيمة هي وليدة الانحطاط الثقافي: <<... ومن المعلوم أن هذا الأسلوب لم يكن في ماضي هذه الزوايا الزاهر على هذه الطريقة، لأنه لم ينفع الآن كما نفع إذ ذاك لما أنجب كثيرا من الرجال منهم من بقي هنا ومنهم من نزح ، فأظهر تفوقا عجيبا كالمشذاليين الثلاثة أبي علي ناصر الدين وعمران المشذالي ومحمد بن بلقاسم المشذالي.>>
تحجر الذهنيات
لا شك أن سر الحياة يكمن في "التجديد"، الذي يعتمد على القوى العقلية قصد التكيف مع الظروف المستجدة، فلكل زمان تدبيره وفلسفته.أما إذا أصيب العقل بالجمود فان الناس يستمسكون بالأساليب التي تجاوزها الزمن ، وحينئذ يرخي الانحطاط سدوله على المجتمع، فيصبح لقمة سائغة لمن يحسن ممارسة الاجتهاد العقلي لتجاوز عقبات الحياة. وهكذا فرغم فشل أساليب التدريس العقيمة في الزوايا، فان ذوي العقول المتحجرة قد عضت عليها بالنواجذ، وعلق الشيخ باعزيز بن عمر في هذا السياق عن إحجام شيوخ الزوايا عن تجديد طرق التدريس قائلا:<< ... لان بعض النفوس القديمة تألف القديم وتعض عليه بالنواجذ ولو كان فيه ما لا يصلح.>>

ضرورة إرسال البعثات الطلابية إلى الخارج
كان الشيخ باعزيز بن عمر يرى أن الاقتصار على نقد الزوايا وشيوخها، دون تقديم اقتراحات عملية، لا يجدي نفعا ولا يحل الإشكالية، لان قضية انحطاط التعليم أكبر من مسؤولي الزوايا في عصره، وكان يرى الحل في إرسال بعثات طلابية إلى الخارج: << هل كانوا مستعدين للإصلاح وعارفين بكيفيته وإنما هم محتاجون إلى التنبيه لا غير، أم ليسوا كذلك فيرجعوا بهم إلى شيء آخر مما هو أجدى وأقرب(؟)، كأن يكتبوا لهم في إرشادهم إلى إرسال البعثات العلمية على نفقة زواياهم هذه إلى الخارج ، إلى قسنطينة حيث ذلك المنهل العذب ، والى المعهد الزيتوني حيث يسمع الطالب على الأقل بفكرة الإصلاح، ويجد نظاما أرقى من نظام الزاوية، فلعل هذه الإصلاحات المنشودة تتحقق بهؤلاء النازحين عندما يرجعون وهم عارفون له...>>
استبدال اسم الزاوية بالمدرسة أو المعهد
رغم أصالة تسمية " الزاوية "( ثيمعمرث)، فان ما شابها من أعمال الدروشة قد أفسد صورتها لدى الرأي العام ، لذلك أستحسن الشيخ باعزيز بن عمر تغيــــــــير هذه التسمية
بـ "المدرسة" أو " المعهد" : << سادتي إذا ثبت كل ما قلته لديكم بما ذكر، فأرجو أن تعينوني على رفع هذا الاسم "الزاوية أو الزوايا" عن دور العلم والعرفان، معاهد الزواوة، واستبداله بما يناسب العلم ومجاله، وفي لغة القرآن الجميلة كل ما نريد من الألفاظ والأسماء التي تطابق المسميات ، فلنفتخر بها ولا حرج ، ولنا المدارس والمعاهد ولنا الجامعات والكليات فلنكن كثيري المسميات.>>
إن هذه القراءة المتواضعة لا تعدو أن تكون مجرد عينة لفكر باعزيز بن عمر الإصلاحي، المتميز بعمق التفكير وسمو الغاية ورجاحة العقل وحصافة الرأي، وهي الصفات الأساسية التي طبعت سلوك المنتسبين إلى الحركة الإصلاحية بقيادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فكل معلم من معلميها كان بمثابة مدرسة وطنية متنقلة، لا تثنيه العقبات ولا تعرقله المطبات، تلك المدرسة التي أمنت بالشباب بوصفهم بناة الأوطان ، فمكّنتهم من سلاح الحياة المتمثل في العلم بكل دلالاته، فما أكثر العبر في تراثنا، وما أقل الاعتبار في راهننا! .