مقالة نشرت اليوم بجريدة الجزيرة على رابط
http://www.al-jazirah.com/2481574/rj6d.htm
بقلم : نوَّاف بن محمَّد آل رشيد
وهذا نصها :

( تربية التعامل بالتغافل .... !! )
كثيراً ما يكونُ التغافلُ محموداً، وهو إنْ دلَّ يدلُّ على سَعةِ عقلِ المتغافلِ وإدراكهِ وتفهمهِ.
يُقالُ إنَّه قِيلَ للإمام أحمد - رضي الله عنهُ - أنَّ فُلاناً يقولُ: تسعةُ أعْشار العقلِ بالتغافُلِ؛ فقال: أخطأ؛ بل العقلُ كُلهُ في التغافل!!
فكم كلمةٍ بَذيئةٍ أوَ غيرَ بذيئة قِيلت وتُغوفلَ عنها فأحْرقت قلبَ قائلها وأخرستهُ وأظهرت تحسَّرهُ ولربما تمنى أنَّه رُدَّ عليه بمثلها أو شبيهتها.
قال الشافعي رحمه الله:
إذا نطقَ السَّفِيهُ فلا تُجبْهُ
فخيرٌ مِنْ إجابتِهِ السُّكوتُ
فَإنْ كلَّمتهُ فَرَّجتَ عنهُ
وإنْ خَلَّيْتَهُ كَمَداً يَمُوتُ
سَكَتُّ عن السفيهِ فظنَّ أني
عييتُ عَنِ الجوابِ، وما عَيِيتُ
يُقال: شتمَ سفيهٌ حكيماً وهو ساكت فقالَ: إيَّاكَ أعني!! فقال الحكيمُ: وعنكَ أُغضي!!!
وكمْ كلمةٍ قيلت وتُغوفلَ عنها فأظهرَ التغافل ندمَ قائلها وتمنيه أن لم يقلها فتبقى حسرةً باقية في نفسه، ولربما رجعَ وأناب، واستغفرَ وتاب.
ولله درُّ أبي تمام حينما قال:
ليسَ الغبيُّ بسيدٍ في قومهِ
لكنَّ سيدَّ قومهِ المتغابي
ولله درُّ الشاعر حينما قال:
من كانَ يرجو أنْ يسودَ عشيرةً
فعليهِ بالتقوى ولينِ الجانبِ
ويغض طرفاً عن إساءةِ من أساءَ
ويحلم عند جهلِ الصاحبِ
ودائماً يكونُ المتغافل محبوباً عندَ أصحابهِ؛ لأنَّه مُتخطٍ ومتغافلٍ لعثراتهم وزلاتهم وقليلَ المُعاتبةِ لهم. قالَ الشافعي:
أُُحِبُّ من الإخوانِ كُلَّ مُواتي
وكلَّ غضيض الطَّرفِ عن عثراتي
والتغافلُ والسكوت، لا يعني أنَّ المتغَافلَ عنه ذو مهابةٍ وجبروت!!
ولا يدلُ أيضاً على أنَّ المتغافلَ من الإجابة هارب، بل له في سُكوتهِ مآرب!!
قال الشافعي رحمه الله:
يُخاطبني السَّفِيهُ بِكلِّ قُبحٍ
فأكرهُ أنْ أكونَ له مُجيبَا
يزيدُ سفاهةً وأزيدُ حِلماً
كَعُودٍ زادهُ الإحْراقُ طِيبا
فلربما كانَ الصمتُ (أبْلغَ) من الإجابةِ في النطق.!! وهو من كَمالِ العقلِ كما تقدم. قال الحسنُ البصري - رحمه الله -: (التغافلُ من فعلِ الكرام).
وقالَ سُفيان - رحمه الله -: (ما زالَ التغافل من شيمِ الكرام).
وقالَ الإمامُ الشافعي - رضي الله عنه -: (الكيِّس العاقل هو: الفطِنُ المتغافل!).
وقالَ عمرو المكي - رحمه الله -: (من المروءة التغافل عن زللِ الإخوان).
فعليكَ أخي بِغضِّ الطرف عن كُلِ جاهلٍ لا يحسب لكلامهِ مقدار، حتى ولو كانت قيمته أقلَّ من معشار!
والتغافل يدلُّ على بُعْد نظرِ المتغافل؛ فبمجردِ تغافلهِ يُغلقُ باباً للشر والخصومةِ.
قال الشافعي رحمه الله:
قالوا: سَكَتَّ وقد خُوصِمْتَ، قُلتُ لهم
إنَّ الجوابَ لِباِب الشَّرِّ مِفْتاحُ
الصمتُ عن جاهلٍ أو أحمقٍ شَرَفٌ
وفيهِ أيضاً لِصونِ العرضِ إصلاحُ
والتغافل لا يُقتصر على ما يجري بينَ الإخوانِ والأصحابِ بل بابهُ واسع حتى في معاملةِ الوالدِ مع ولدهِ فيغُضُّ الوالدُ الطرفَ عن تصرفاتِ ولده حسبَ ما يُمكن، فقد يكُونُ ذلكَ أبلغَ في تربيتهم! ولو وبخ وزجر ربما تشتدُّ عزيمتهم في الاستمرارِ على أخطائهم!
أيضاً لا بدَّ للزوجِ أن يتغافل ويغُضَّ الطرف عن بعضِ تصرفاتِ زوجتهِ والعكس الزوجةُ تغضُّ الطرفَ عن بعضِ تصرفاتِ زوجها فيما يقعُ بينهما من أمرٍ لم يفعلهُ أو تفعلهُ من قبل ولم يكن عادةً لأحدهما؛ فكثيراً ما نسمع حالاتِ طلاقٍ بينَ زوجينِ لسببٍ لا يقتضي الطلاق! فو غضَّ كُلٌ منهما الطرفَ لما وقعَ الطلاق واستمرت العلاقةُ وزانت بسببِ غضِّ الطرف الذي هو من فقه الحياةِ الزوجية! وما أجملَ قول الأعمش - رحمه الله -: (التغافلُ يُطفئ شراً كثيراً).
والتغافلُ منهجٌ نبوي قال الله تعالى: (وإذْ أسرَّ النبي إلى بعضِ أزواجهِ حديثاً فلما نبأت بهِ وأظهره اللهُ عليهِ عرَّفَ بعضه وأعرضَ عن بعض) أي: عرَّف حفصةَ بعضَ ما أُوحيَ إليه من أنها أخبرت عائشة بما نهاها عن أن تخبرها، وأعرضَ عن بعض تكرماً وتغافلاً! فهو منهجٌ نبوي. قال الحسنُ - رحمه الله -: (ما استقصى كريمٌ قطُّ).
ولا شكَّ أنَّ هناك مواضعَ يُذمُّ فيها التغافل والسكوت، وتعني أنَّ الساكِتَ غريقٌ والقائلَ حوت!! وذلك إذا جَلبَ التغافل أضراراً أو مذلةً عامة أو أقرَّ باطلاً أو غيرها، فيذمُ حينها
وكما قالَ شَهْلُ بن شيبان:
وبعضُ الحلمِ عند الجهلِ تفريطٌ وخُسرانُ
وفي الشرِّ نجاةٌ حينَ لا يُنجيكَ إحْسانُ
وقولِ الآخرِ أيضاً:
وفي الحلمِ ضعفٌ، والعقوبةُ قوةٌ
إذا كُنت تخشى كيْدَ من عنهُ تصفحُ
فالسُكوتُ إذا لم ينفع؛ فالجوابُ لاشكَّ أصوبُ وأنفع!!