لماذا يختلف العلماء؟

صالح بن سليمان العامر

قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً). [النساء:65]. وقال تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). [النور:51]. إن تحكيم شرع الله هو في منزلة الإسلام، وعدم وجود الحرج مما قضى رسول الله بمنزلة الإيمان، ثم تأتي منزلة الإحسان في التسليم لحكم الله ورسوله، وهو المعبر عنه بالسمع والطاعة لشرع الله وتحكيمه الذي هو حال المؤمنين .

وشرع الله لعبادة جاء به أنبيائه ورسله؛ فقد كان لكل نبي شريعة، كما قال تعالى في سورة المائدة: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) ثم خُتموا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- الذي بين لنا شريعة الله، ثم ورّثها إلى من بعده من العلماء، كما قال عليه الصلاة والسلام: "إن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورّثوا العلم الذي من أخذه فقد أخذ بحظ وافر". رواه الترمذي بسند حسن؛ فالعلماء هم ورثة الأنبياء كما قال الشاعر:

أهلُ الحديثِ هُمُوا أهلُ النبي وإنْ لم يصحبوا نفسَه أنفاسَه صحِبوا

ولذلك بدأ تسلسل وتتابع العلماء من الصحب الكرام، ولهم القدح المعلّى من الفهم، وموافقة الصواب، ثم مروراً بتابعيهم وتلامذتهم، ثم انتهاء بالعلماء إلى يوم الدين الذين قاموا بنشر العلم، وإفتاء الناس، وتعليمهم، واستنبطوا الأحكام من كتاب الله وسنة محمد -صلى الله عليه وسلم- وإذا اختلفوا في شيء ردوه إلى الله والرسول، كما أمرهم الله، وكلهم مجتهد ومصيب، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، كما قال رسول الله فيما رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما . وفي هذه العجالة ألملم شتات معلومات ألتقطها من خلال سماع دروس مشائخنا الكرام، والتي من أكثرها وأهمها ما اقتنصته من شيخنا المربي الفاضل في الجامع الكبير في عام ألف وأربع مائة وثمانية، والذي كان -حفظه الله ورعاه- يمزج في دروسه لشرح البلوغ خاصة بذكر أدب العلم، والذي أسأل الله أن يكون له أثر على من شرف بالجلوس له في توازن الفقه والسداد فيه، واحترام أهل العلم أين ومتى كانوا ما داموا قد بذلوا وسعهم في اجتهادهم وبحثهم وفق آليات العلم وأدواته . هذه المعلومات تتعلق بفقه التعامل مع اختلاف أهل العلم، وتقبله، والاعتذار لهم في اختلافهم، وإدراك طبيعة ذلك، وإن ذلك لم يؤد إلى اختلاف قلوبهم والبغضاء فيما بينهم -رحمهم الله- بل كان كل واحد يكن التقدير والاحترام للآخر، والتماس العذر له، ومن أراد الاستزادة في هذا الموضوع فليراجع كتاب ابن تيمية "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"، فإنه كتاب نفيس في هذا الباب .

من الأمر المهم أن نعلم أنّ من ادعى إحاطته بالسنة النبوية فقد أخطأ، لأن صحابة رسول الله قد انتشروا بعد وفاة رسول الله في أقطار الأمة الإسلامية، وجاء أهل الحديث الذين قاموا بجمع الأحاديث، ثم صنفوا الكتب في قصة لا تخفى على الجميع، لذلك لا يُشترط فيمن يفتي أن يكون محيطاً بالسنة النبوية، بل لابد أن يكون لديه القدرة على الفهم والاستنباط واستحضار آيات وأحاديث الأحكام، ومعرفة فقه واقع الناس في كل جانب من جوانب الحياة التي سوف يتكلم فيها، ويبين فيها حكم الله فيما يعتقد ويجتهد، إضافة إلى اكتساب أدوات وآليات النظر والاجتهاد، كما ذكرها أهل الأصول . يمكن تقسيم الأعذار إلى ثلاثة أقسام عامة، أحدها يرجع إلى الدليل، والثاني يتعلق بالاستدلال، والثالث يكون على حسب القدرة على فهم الواقع لكي يتم التخريج عليها، خاصة فيما يتعلق بفقه النوازل المعاصرة، ويمكن دمج الثلاث، واتباع ابن تيمية في تقسيمه وإضافة شيء يسير:

أولاً: ألا يعتقد العالم أو طالب العلم أن هذا الحديث صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم لخفائه عليه أو أنه حفظه ثم نسيه

ثانياً: أن يعلم الحديث ويصل إليه، لكنه لا يعلم صحته أو يعتقد أنه ضعيف، أو يرى أنه منسوخ، وهذا كثير جداً؛ لأن مدار العلم على الدليل، ومن ثم من صحح الحديث قال به، ومن لم يصححه فإنه لا يأخذ به.

ثالثاً: أن يصل الحديث ويكون صحيحاً عنده محكماً ليس بمنسوخ، لكنه لا يعتقد دلالته على المسألة والمقصود، وهذا من أوسع أبواب الأعذار، ومن أعظم أسباب الاختلاف، ويرجع ذلك إلى عدة أمور:

منها ما يكون بسبب اختلاف أهل العلم في مسألة أصولية أو قاعدة فقهية يكون لها أثر في فهم النص ومعرفة دلالته، وعلى سبيل المثال ما يسمى بالدلالات التي قسمها العلماء إلى عدة أقسام، مثل: دلالة المنطوق، والمفهوم، ودلالة الصفة، والعدد، والشرط إلى تقسيمات، و قد يقع الاختلاف بين أهل العلم في جواز استخدام بعضها، أو قد يتعارض نصان لوجود تعارض مثلاً دلالة المفهوم مع دلالة المنطوق، وهذا باب كبير عند الفقهاء، ومثل ذلك سد الذريعة يأخذ بها الحنابلة دون غيرهم، أو الاستحسان عند المالكية والأحناف، دون الشافعية وعمل أهل المدينة عند مالك أو عمل أهل مكة عند أحمد وهكذا.

ومن المسائل والقواعد الأصولية المؤثرة في الحكم قضية الأمر أو النهي المجردين، هل يدل الأول على الوجوب والآخر على التحريم مباشرة؟ ويلزم النظر إلى القرائن الدالة إما على الوجوب والتحريم أو الاستحباب والكراهة، وبعض العلماء يرى أن الأحاديث إذا كانت في أمور المعاملات فإنها تدل على الاستحباب عموماً، وإن كانت في باب العبادات فهي أشد، وتدل مباشرة على الوجوب أو التحريم .

ومنها ما يكون بسبب التعارض الظاهر لدى الفقيه وطالب العلم؛ لأننا نعتقد أنه لا تعارض بين النصوص، لكن بحسب ما يظهر إلى المجتهد، ولقد اعتنى علماء الأصول والفقه في هذا الباب وسموه تعارض الأدلة، وعملوا -رحمهم الله- على إيجاد وجوه للجمع بين الأدلة، و التي منها ما يتعلق بنفس النص والحديث رواية من متواتر أو آحاد أو صحيح وحسن أو ضعيف، أو كان منها ما يتعلق بمعنى الحديث وذكروا طرقاً كثيرة، من أحسن من قام بجمعها الشيخ الفقيه وهبة الزحيلي في كتاب أصول الفقه الذي اعتبره مقدمة لكتابه الكبير المفيد "الفقه الإسلامي وأدلته"، فقد جمع أوجه الجمع في الجزء الثاني، فليرجع إليه، ومن أعظم الأمثلة أن يكون النص الأول عام والآخر خاص، فيتوقع البسيط العامي أن هناك تعارضاً فيدفع رأياً بحجة مخالفته لحديث آخر قد يكون عاماً والآخر خاصاً، وهذا كثير.

ومنها أن يكون الخلاف بسبب اختلافهم في معنى الكلمة من الآية أو الحديث، ومن عجب الأمر ومتعته أن ترى أصحاب القولين يستدلان بنفس الحديث مثل مسألة طهارة المني أو نجاسته، فإن كلا القولين قد استدل لهما بحديث عائشة -رضي الله عنها- في رش المني، بل إن ذلك وقع في فهم كثير من الآيات من مثل كلمة القرء من ثلاثة قروء فقيل إنها الأطهار وقيل الحيض، وعليه وقع الاختلاف بين الجمهور ومخالفيهم

وفي رأيي أن الاختلاف في المسائل الفقهية في هذا العصر أكثر نظراً لاختلاف المدارس الفقهية والبلدان التي اتصلت عبر الأثير والاتصال الثقافي بين المجامع العلمية، والتي ربما يختلف العلماء في تلك البلاد في فهم واقعهم، أو قد يقع الاختلاف بين واقع والآخر، وقد يكون لوجود من يتكلم في العلم نظراً لسهولة وجود المعلومة من ليس من أهله، أو أن يكون طالب العلم فقيها في الشرع ليس فقيهاً أو عالماً بالواقع، فيقع اللبس والاختلاف، لذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم فيما حاصله اثنان لا يفتيان؛ عالم بالشرع ليس عالماً بالواقع، أو عالم بالواقع ليس عالماً بالشرع، إنما يفتي عندنا من كان عالماً بالشرع والواقع . وربما يقع الاختلاف بين عالمين بسبب معايشة الأول لواقع المسألة دون العالم الآخر، وهذا فيما يُسمّى بفقه المسلمين في المجتمع غير المسلم؛ لأن المسلمين في مجتمعهم الإسلامي لا يشتد التقارب بين المصلحة والمفسدة؛ لأن مصلحة الدعوة وكسب الآخر غير المسلم أو كف شره وضرره على المسلم تكون متعينة، وهذا لا يعايشه إلاّ من عايش المسلمين هناك، ومارس الدعوة، واهتم بها، وارتبط به صالح المسلمين هناك .

إذًا العلماء معذورون في اختلافهم، كما قال أهل العلم، فائدة ذلك أنه من الطبيعي أن يقع الاختلاف بين العلماء في آرائهم، أو بين العامة في تقليدهم لمن يثقون بعلمه ودينه، وكما قيل من المستحيل أن تزيل الخلاف؛ لأنه وقع في حياة النبي بين أصحابه، ولم يثرب أو يخطئ أحداً منهم، لكن من الواجب علينا أن نعرف ونتعلم كيف نتعامل مع الاختلاف، ويبدأ ذلك بقبول الاختلاف، والاعتراف به، والحوار الهادف في ظل التسامح والغفران، ومعرفة أن الميدان يسع الجميع، ويحتاج إليهم جميعاً. وفقني الله وإياكم لما يحبه الله ويرضاه .

المصدر :

http://www.islamtoday.net/nawafeth/a...-40-106088.htm