لو كان هناك دار للألسن لكان زيدٌ رضي الله عنه مديرها ، بل لو كان هناك وزارة للتعليم العالي لكان رضي الله عنه وزيرها . ولا عجب في ذلك فهو كما وصفه المؤرخون : شيخ المقرئين ، وشيخ الفرضييِّن ، ومفتي المدينة ، وكاتب الوحي ، وأحد الأذكياء ، ثم هو بعد ذلك كله ، وقبل ذلك كله : ترجمان الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد قال رضي الله عنه " أُتي بي النبيَّ صلى الله عليه وسلم مَقْدمَهُ المدينة فقيل : هذا من بني النجار وقد قرأ سبع عشرة سورة ، فقرأت عليه فأعجبه ذلك فقال : " تعلم كتاب يهود فإني ما آمنهم على كتابي " ففعلت فما مضى لي نصف شهر حتى حَذقته ، فكنت أكتب إليهم ، وإذا كتبوا قرأت له "

كان له رضي الله عنه من العمر وقتها إحدى عشرة سنة ! وقد لفت انتباه النبي صلى الله عليه وسلم فوجهه إلى دراسة أكثر من لغة كما ذكر أهل السير ، كان صلى الله عليه وسلم يبني وقتها مجتمعاً جديداً ، قائماً على التخصص . وقد صاحب زيدٌ رضي الله عنه العلمَ منذ ذلك الوقت ، وعُــرف بـــه ، وعلى ذلك بقي عهدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم والراشدين من بعده صلوات ربي وسلامه عليه . وإنَّ لزيد رضي الله عنه في عنق كلِّ مسلم حقاً ودعوة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، فزيد رضي الله عنه هو الذي جمع القرآن ، فلا تـنس وأنت تنظر في القرآن أن تذكر زيداً فتدعو له دعوة من قلبك تبلغ بها رضى ربك ، ولعلك بها تصحبه في الجنة . لم يكن اختيار أبي يكر وعمر لزيد رضي الله عنهم ضربة حظٍ ، بل عن إدراك وقصد ، فهو وزير التعليم العالي ، وهو الموفق ، وهو الخبير ، وهو ـ وهذا هو الأهم ـ صاحب المنهج القادرعلى تنفيذ هذه المهمة الخطيرة . وجملة " جمع زيد القرآن " لا ينبغي أن تمرَّ مروراً عابراً ، فتفهم وكأنها عملية آلية قامت على الجمع والضم ، واعتمدت على حافظة زيد . بل لقد وضع زيد رضي الله عنه منهجاً ، واعتمد تقنية عالية ، لضبط عملية الجمع ، وتوثيق الآيات ... إلى هنا وأكتفي بهذه المقدمة ، فزيد رضي الله عنه ليس هو موضــوع المقال ، ولكنها لفتات سريعة عن حركة المجتمع المدني ـ وصفاً ولقباً ـ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والراشدين رضوان الله عليهم ، كي تكون توطئة نعود إليها عندما ندخل في موضوعنا .

أما موضوع المقال فهو عن تحديد العالم الذي تستغفر له الملائكة في سمائها ، والحيتان في بحورها ، والذي يسمى كبيراً في السماء . والداعي إلى طرق هذا الموضوع اتصال جاءني من أخٍ حبيب ، يشكو به من ملاحقة بعض المشــائخ له ، وإصرارهم عليه بأنَّ ما يسعى فيه من طلبٍ للعلوم الإدارية والاستراتيجية وغيرها مما يدخل في بابها ، والتي من خلالها يمكن خدمة كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتوظيف ذلك لمصلحة الأمة المسلمة ؛ إصرارهم بأنَّ كل ذلك لا يدخله في دائرة العلماء ، ولا يجعله ممن أثنى عليهم اللهُ ورسولُه صلوات الله عليه وسلم ، فالعالم عندهم هو دارس العقيدة ، والتفسير ، والفقه ، وغيرها من علوم الشريعة . نعم هم يقولون بأنه يحصل على الأجر والمثوبة ، ولكنه ليس من العلماء المقصودين في النصوص .

وأنا أدرك بأنَّ مثـل هـذه المقالات ليست محلاً للتطويل في ســـرد الأدلــة ، أو التكثير من التفريع ، بــل تكفي الإشــارة ، والاختصار بالعبارة ، ومن يريد الاستـزادة فعليه بمراجعة المسائل في مظانِّها ، وحسبنا التنبيه والإثارة . لذلك سأكتـفي بالإشارة إلى آية ، وقاعدةٍ أصــولية ، وعودةٍ إلى زيد رضي الله عنه :

أما الآية فهي قوله تعالى : " ألـم تـرَأنَّ اللهَ أنزل من السماء ماءً فأخرجنا بـه ثمراتٍ مُختلفاً ألوانُها ، ومن الجبال جُـدَدٌ بيضٌ وحُـمْرٌ مُختلف ألوانُها وغرابيبُ سُود * ومن النَّاس والدوابِّ والأنعام مُختـلفٌ ألوانـُه كـذلك ، إنَّمـا يخشى اللهَ مـن عبـاده العلمـاءُ . إنَّ الله عـزيـزٌ غـفـور * " ( فاطر : 27 ، 28 ) .

العلماء في الآية هم دارسوا علوم الأرض ، وعلوم الإنسان ، وعلوم الأجناس ، وعلوم الحـيوان ، وعلوم النبات ، وهؤلاء هم الذين يخشون الله ـ وهذا ليس بالطبع نفياً للخشية عن غيرهم ـ لأنهم يرون عظيم خلق الله في الأنفس وفي الآفاق . وهؤلاء علماء :

ـ لأنهم يرشدون الخلق إلى بارئهم بكشف أسرار الوجود لهم .

ـ ولأنهم يكشفون بعلومهم صدق القرآن العزيز ، قــال الـله تـــعالى : " سنريهم آياتنا في الآفاق ، وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق .. " أي القرآن ، فهل يقال بعد ذلك إنَّ دارسي هذه العلوم ليسوا ممن عنتهم النصوص ؟! إن هؤلاء يفسرون كتاب الله بكشف آيات الكون ومطابقتها مع كلام الله تعالى ، كما يفسر الفقيه آيات الأحكام . ألا نشعر ونحن نستمع للدكتور زغلول النجار وهو يفسر الآيات الكونية بأننا أقرب إلى الـله تعالـى ، تماماً كما نشعر بذلك ونحن نستمع لواعظ وهو يذكرنا بأهوال يوم القيامة مثلاً ؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما : العلماء : الذين يعلمون أنَّ الله على كل شيء قدير . ولا ريب في أنًّ هؤلاء أكثر الناس علماً بقدرة الله تعالى على كل شيء . وأما القاعدة الأصولية ، فهي أنه إذا كانت هذه العلوم مما يرشد إلى الله تعالى ، ومما تقوم بها حياة الناس تحقيقاً لعمارة الأرض التي أمر الله تعالى بها ، فهي من العلوم المطلوبة وصاحبها عدى عن كونه مأجوراً ، هو ممن ينطبق عليهم لقب العلماء الوارد في النصوص . إنَّ طلب هذه العلوم لا يدخل تحت قاعدة : " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " ، بل هي واجبة بذاتها على الكفاية ، وقد تكون واجبة على العين على من يشعر بنفسه الكفاية والقدرة على إتقانها ، كصديقي الحبيب الذي سألني حفظه الله سبحانه وتعالى . إن طالب هذه العلوم تستغفر له حيتان البحار والمحيطات وهو يغدو ويروح طلباً للعلم .

أما العودة إلى زيد رضي الله عن زيد كلما أمسك مسلم بكتاب الله ، وكلما قرأ قاري كلام الله ، فقد قرأتم ما فعله زيد ، وعرفتم علوم زيد ، لا أعني علومه بالقرآن أو بالفرائض ـ يعني المواريث ـ بل أعني علمَه باللغات ، وعلمه بتـقـنيات التوثيق وضبط النَّـــصِّ ، وحكمته التي أخذها عن الحبيب صلى الله عليه وسلم كل هذه علوم تعب زيد في تحصيلها ، واجتهد في توظيفها خدمة للكتاب والسنة ، وبناءً لصرح الأمة ، فلا أظن والحالة هذه إلا أنًّ كلَّ مخلوقات الله تستغفر له ، بل وتـُـلحُّ في الاستغفار .

إنَّ الفاصل هنا هو نية الإنسان لا ما يدرس ، هل يطلب ما يطلب في سبيل غاية عظيمة أم يطلبها لبطنه وشهواته ؟ ورب شيخ قابع في المحراب تسعر به النيران قبل الخلق أجمعين ! ورب خبير في معمل يشتغل على تركيب كيميائي يسبق إلى الجنان . ورب مفـــكـر ـ كصاحبي ـ يعكف على آية يفتق منها معنى لم يخطر على بال أحد ، يستخدم في ذلك علوماً وتقنيات درسها ، يكون من أهل القبول والمغفرة . ... والفيصل : النية .

فيا صاحبي عليك بما أنت فيه ، فلا أظنك إلا ستنفع به الشرع والأمة ، ثبتك الله ونفع بك ، وجعلك هادياً مهدياً .