الحمد لله وحده..
أما بعد، فهذا استشكال طريف وضعته على واحد من منتديات المتصوفة القبورية.. قلت تحت عنوان "استشكال أرجو الجواب عليه" :
أليس قد قال تعالى عن النصارى (وهم مشركون بالاجماع) مخاطبا نبيه عيسى: (( وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)) [المائدة : 116]
فلما كان النصارى يتخذونه وأمه الهين من دون الله، أقام الله يوم القيامة الحجة عليهم بأن أشهد المسيح أمامهم على أنه لم يأمرهم بذلك .
والآن يأتي السؤال: هل تعرفون طائفة واحدة في الأرض تقول بأن مريم هي الله أو أنها جزء منه أو أنها اذ يطلبون منها الغوث والمدد والشفاعة والاستغفار، يعتقدون أن ذلك كله يأتي من عندها هي لا من عند الآب (يعني الرب)؟
كلا! كلهم يؤمنون بأن المدد والغوث انما يأتي من الرب، وهم اذ يصلون لها ويدعونها ويطلبون منها المدد، فانما يسألونها سؤال المتوسل بها، أن تستغفر لهم فيقولون: "صلي من أجلنا واشفعي لنا"! هذه الصورة، سماها القرءان تأليها لها وعبادة، وجعلها من الشرك!
فما الفرق يا اخوان بين هذه الصورة وبين ما أفاض الكاتب في وصفه من صورة الاستغاثة بالولي الميت في الغيب وطلب المدد والعون منه ومما أعطاه الله؟
أرجو أيها الكرام جوابا علميا موضوعيا دون سب أو تنقص أو اتهام..
----- ----------
فجاءني بعد فترة رد من واحد منهم يقول:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله تنزه عن الأضداد والأمثال والشركاء، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد الشفعاء، وآله وصحبه ما دامت الأرض والسماء.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته...
السيد الكريم:
سؤالكم فيه تلبيس وإشكال ووضع الشيء في غير موضعه.
فالتفاسير سيدي تصرح بخلاف ما ذكرت، وسنورد لك ذلك، في أن صورة تأليههم للسيدة مريم على نبينا وعليها وعلى إبنها أفضل الصلاة وأتم السلام إما في جعلها مع الله ثالث ثلاثة تعالى الله عن ذلك، أو في جعلها وسيدنا عيسى مع الله كل واحد إله كما سيرد في التفاسير، أو في قولهم إن سيدنا عيسى إله أو ابن الإله ثم جعلهم أم الإله إله.
أما صورة التوسل وطلب الشفاعة التي أوردتها أنت في هذا الموضع فلم ترد في التفاسير فيما يخص هذا الأمر، فهو إتيان بمسألة وتلبيسها بمسألة أخرى، وأمر الشفاعة والتوسل والوسيلة ومشروعيتها وارد بتفصيله في ردود أهل السنة والجماعة على الوهابية في هذه المسألة بتفصيله الوارد في أماكن أخرى،
وحان الآن النقل عن التفاسير ووضع الأمر في يد أهله:
ومواقع الكتب المشار إليها حسب ترتيب الشاملة.
ففي تفسير الطبري - (ج 10 / ص 483)
12294 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لقد كفر الذين قالوا: إنّ الله ثالث ثلاثة"، قال: قالت النصارى:"هو والمسيح وأمه"، فذلك قول الله تعالى:( أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) [سورة المائدة: 116].
وفي تفسير الطبري - (ج 11 / ص 237)
قال أبو جعفر: وأما تأويل الكلام، فإنه: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين"، أي: معبودين تعبدونهما من دون الله. قال عيسى: تنزيهًا لك يا رب وتعظيمًا أن أفعل ذلك أو أتكلم به = ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق"، يقول: ليس لي أن أقول ذلك، لأني عبد مخلوق، وأمي أمَةٌ لك، وكيف يكون للعبد والأمة ادّعاء ربوبية؟ = "إن كنت قلته فقد علمته"، يقول: إنك لا يخفى عليك شيء، وأنت عالم أني لم أقل ذلك ولم آمُرهم به.
وفي تفسير البغوي - (ج 3 / ص 82)
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ } يعني: المرقوسية، وفيه إضمار معناه: ثالث ثلاثة آلهة، لأنهم يقولون: الإلهية مشتركة بين الله تعالى ومريم وعيسى، وكل واحد من هؤلاء إله فهم ثلاثة آلهة، يبين هذا قوله عز وجل للمسيح: "أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله"؟(المائدة، 116)
وفي تفسير ابن أبي حاتم - (ج 5 / ص 43)
6681- أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ حَكِيمٍ الأَوْدِيُّ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، ثنا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ " ، قالتِ النَّصَارَى:"إِن َّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ وَأُمُّهُ"، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: " أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ "
وفي تفسير الألوسي - (ج 4 / ص 328)
{ وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة } أي الآلهة ثلاثة : الله سبحانه والمسيح ومريم كما يبنىء عنه قوله تعالى : { أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله } [ المائدة : 116 ] إذ معناه إلهين غير الله تعالى فيكونون معه ثلاثة . وحكي هذا التقدير عن الزجاج ، أو الله سبحانه ثلاثة إن صح عنهم أنهم يقولون : الله تعالى جوهر واحد ثلاثة أقانيم ، أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم روح القدس ، وأنهم يريدون بالأول الذات أو الوجود ، وبالثاني العلم أي الكلمة ، وبالثالث الحياة كذا قيل .
وتحقيق الكلام في هذا المقام على ما ذكره بعض المحققين أن النصارى اتفقوا على أن الله تعالى جوهر بمعنى قائم بنفسه غير متحيز ولا مختص بجهة ولا مقدر بقدر ولا يقبل الحوادث بذاته ولا يتصور عليه الحدوث والعدم ، وأنه واحد بالجوهرية ، ثلاثة بالأقنومية ، والأقانيم صفات للجوهر القديم ، وهي الوجود والعلم والحياة ، وعبروا عن الوجود بالأب والحياة بروح القدس والعلم بالكلمة . ثم اختلفوا فذهب الملكانية أصحاب ملكا الذي ظهر بالروم واستولى عليها إلى أن الأقانيم غير الجوهر القديم ، وأن كل واحد منها إله ، وصرحوا بإثبات التثليث ، وقالوا : إن الله ثالث ثلاثة سبحانه وتعالى عما يشركون ، وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته وامتزجت به امتزاج الماء بالخمر وانقلبت الكثرة وحدة وأن المسيح ناسوت كلي لا جزئي وهو قديم أزلي ، وأن مريم ولدت إلهاً أزلياً مع اختلافهم في مريم أنها إنسان كلي أو جزئي ، واتفقوا على أن اتحاد اللاهوت بالمسيح دون مريم ، وأن القتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معاً ، وأطلقوا لفظ الأب على الله تعالى ، والابن على عيسى عليه السلام .
وفي الدر المنثور - (ج 3 / ص 423)
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } قال : قالت النصارى : إن الله هو المسيح وأمه ، فذلك قوله { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } [ المائدة : 116 ) .
انتهى المراد نقله.
مما سبق يتضح أن تأليههم للسيدة مريم تأليه ينافي صورة التوسل والتشفع التي لبست بها الأمر، وذلك كمن يقول إن اليهود يعتقدون أن سيدنا موسى نبي ونحن نعتقد أن سيدنا موسى نبي فالعقيدتين واحدة، إن هذا القائل قد قدم مقدمات وإنتهى إلى نتيجة لا علاقة لها بالمقدمات وإن كان ظاهرها فيه تلبيس، فكذلك المقدمتان اللتان قدمتهما والنتيجة التي وصلت إليها هي من سبيل التلبيس وليس السياق المنطقي الصحيح، وقولك: (يعتقدون أن ذلك كله يأتي من عندها هي لا من عند الآب (يعني الرب)؟) فيه دليل على تأليههم إياها فحيث جعلوا الإله الرب هو الآب فكذلك تأليههم للأم فافهم رزقك الله صحيح الفهم وصافي النظر.
وقولك: (هذه الصورة، سماها القرءان تأليها لها وعبادة، وجعلها من الشرك!) هو تقول على الله وعلى القرآن بغير حق فالصورة إنما أنت من أتى بها لا القرآن ولكن القرآن أتى بصورة أخرى وبآيات أخر فسر بها بعض المفسرين هذه الآية وهم أولى عندنا من وضعكم أنتم لصورة ثم تقولون سماها القرآن سبحانك هذا بهتان مبين.
وختاماً أرجو مراجعة أنفسكم في مسألة التوسل والوسيلة فعليه كان السلف والخلف والله يتولانا وإياكم ويهدينا سواء السبيل.
--- ------
فأجبته قائلا:
الحمد لله وحده
أما بعد، فقد قلتَ في جوابك عن استشكالي:
"فالتفاسير سيدي تصرح بخلاف ما ذكرت، وسنورد لك ذلك، في أن صورة تأليههم للسيدة مريم على نبينا وعليها وعلى إبنها أفضل الصلاة وأتم السلام إما في جعلها مع الله ثالث ثلاثة تعالى الله عن ذلك، أو في جعلها وسيدنا عيسى مع الله كل واحد إله كما سيرد في التفاسير، أو في قولهم إن سيدنا عيسى إله أو ابن الإله ثم جعلهم أم الإله إله. "
وأقول هذه مغالطة واضحة يا أخ فقير، فالآية انما بينت أنهم اتخذوا مريم عليها السلام الها معبودا، ولم تصرح – ولا حتى الماحا - بأنها من تلك الثلاثة المشار اليهم في الآية الأخرى، وهذا لدقة واحكام النص القرءاني، فمعلوم لكل من عنده أدنى دراية بمعتقد جميع النصارى في سائر بلاد العالم، أن الثلاثة الذين يتكون منهم الثالوث - الذي هو ركن دينهم وهو ذات الله عندهم باجماع لا يشذ عنهم فيه أحد، سبحانه وتعالى عما يصفون علوا كبيرا - هو الآب والابن والروح القدس، وليس الآب والابن والأم..
فالواقع أنه لم يقل أحد من النصارى بأن أم الاله جزء من الثالوث أو أنها شريك في اللاهوت على نحو ما يعتقدون في الابن والروح! وان ادعيت ذلك فعليك الاتيان ببينته من كلامهم هم، لا من كلام جماعة من علماء المسلمين لم يصيبوا – كما سياتي تفصيله - في تصور تلك الثلاثة التي يعتقد النصارى أنها هي ذات الله! وكون هذا القول قد ذهب اليه أكثر المفسرين، هذا يجعله قول الجمهور على أقصى تقدير! وقول الجمهور ليس بحجة كما هو متقرر في الأصول، فقد يكون الحق في خلافه، وما دام الخلاف موجودا فهو ليس باجماع، والحجية انما تكون في الاجماع الذي لا يعلم فيه مخالف. ولم ينقل أي اجماع عن أئمة التفسير في تفسير هذه الآية على أن المراد بالثلاثة فيها: الأب والابن والأم! كما أنه لم ينقل اجماع على أن المراد باتخاذ مريم الها: أن تكون أقنوما أو تكون مساوية للمسيح فيما يزعمونه له من "اللاهوتية" ومن كونه "جزءا" من ذات الرب، سبحانه وتعالى علوا كبيرا!
وتأمل – غير مأمور – قول الامام الخازن رحمه الله في تفسيره: " قوله تعالى : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ) وهذا قول المرقوسية والنساورية من النصارى.
ولتفسير قول النصارى طريقان : أحدهما وهو قول أكثر المفسرين إنهم أرادوا بهذه المقالة أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة وأن الإلهية مشتركة بينهم وأن كل واحد منهم إله ويبين ذلك قوله تعالى للمسيح : ( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ( " ؟ فقوله ثالث ثلاثة فيه إضمار تقديره إن الله أحد ثلاثة آلهة أو واحد من ثلاثة آلهة.
قال الواحدي : ولا يكفر من يقول إن الله ثالث ثلاثة ولم يرد به أنه ثالث ثلاثة آلهة لأنه ما من اثنين إلا والله ثالثهما بالعلم ويدل عليه قوله تعالى في سورة المجادلة ) ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا وهو سادسهم ( " وقد قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) ؟.
والطريق الثاني : أن المتكلمين حكوا عن النصارى أنهم يقولون : إنه جوهر واحد ثلاثة أقانيم أب وابن وروح القدس وهذه الثلاثة إله واحد كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة , وعنوا بالأب الذات وبالابن الكلمة وبالروح الحياة وأثبتوا الذات والكلمة والحياة قالوا إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء باللبن , وزعموا أن الأب إله والابن إله والروح إله والكل إله واحد .. " اهـ. (لباب التأويل 2/77)
بل انظر كيف أجاب الامام القرطبي رحمه الله على هذا الاستشكال في تفسيره عند هذه الآية – وهو من الذين أخرجوا رواية السدي التي عليها معول القول بادخال مريم في الثلاثة - قائلا: " فإن قيل : فالنصارى لم يتخذوا مريم إلها فكيف قال ذلك فيهم ؟ فقيل : لما كان من قولهم إنها لم تلد بشرا وإنما ولدت إلها لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضية بمثابة من ولدته , فصاروا حين لزمهم ذلك بمثابة القائلين له" اه.
فالامام رحمه الله كان يدري أن ثالوث النصارى ليست مريم عليها السلام داخلة فيه!
ومثله ما قاله الامام السمعاني رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية، قال: " فإن قال قائل : هم لم يتخذوا أمه إلها ؛ فما معنى قوله : ( ^ اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) ؟ قيل : إنه - جل وعز - لما أراد ذكر عيسى مع أمه ، قال : إلهين ، وهذا كما يقال عند ذكر أبي بكر وعمر معا : عمران ، وقالوا : هذا سنة عمرين ، ويقال للشمس والقمر : قمران ، قال الفرزدق : ( لنا قمراها والنجوم طوالع ** )
يعني : الشمس والقمر ، وقيل : إن عيسى كان بعضا لمريم ، فلما اتخذوه إلها ؛ فكأنهم اتخذوا أمه إلها" اهـ. (تفسير السمعاني 2/82)
وقال الامام ابن الجوزي في زاد المسير: " ولفظ الآية لفظ الاستفهام ومعناها التوبيخ لمن ادعى ذلك على عيسى قال أبو عبيدة وإنما قال آلهين لأنهم إذ أشركوا فعل ذكر مع فعل أنثى غلب فعل الذكر ذكروهما فان قيل فالنصارى لم يتخذوا مريم إلها فكيف قال الله تعالى ذلك فيهم فالجواب أنهم لما قالوا لم تلد بشرا وإنما ولدت إلها لزمهم أن يقولوا إنها من حيث البعضية بمثابة من ولدته فصاروا بمثابة من قاله .." (زاد المسير 2/464)
وكذا قال الامام الماوردي رحمه الله في تفسيره: " فإن قيل : فالنصارى لم تتخذ مريم إلهاً ، فكيف قال تعالى فيهم ذلك ؟
قيل : لما كان من قولهم أنها لم تلد بشراً وإنما ولدت إِلَهاً لزمهم أن يقولوا إنها لأجل البعضي بمثابة من ولدته ، فصاروا حين لزمهم ذلك كالقائلين له ." اهـ (النكتب والعيون 2/86)
وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة رحمهم الله موافق لما عليه اعتقاد النصارى في العذراء! فالبعضي هذا الذي يذكرونه هو الناسوت في المسيح، (الجانب البشري الطيني) وهو المأخوذ منها، بينما اللاهوت – على عقيدتهم – مأخوذ من الروح القدس (أو من الآب نفسه، على خلاف بين طوائفهم) فهم لا يجعلونها أقنوما ولا جزءا من الثالوث ولا يساويها أحد منهم بالمسيح أو بالآب، وانما يجعلونها في منزلة رفيعة مقدسة لكونها أم الرب عندهم، فوجب تقديسها من هذه الوجهة! وقد بلغ الغلو فيها عندهم مبلغه وان لم يروا أنها جزء من الرب الخالق أو أنها مساوية له!
أما الاستشهاد من جانب من ذكرت من أهل التفسير باعتقاد طوائف قديمة في لاهوتية مريم عليها السلام، فهذا لا يغير حقيقة أن جميع طوائف النصارى كانت ولا زالت تتخذها الها من دون الله وان لم تكن داخلة في الثالوث عندهم ولا مساوية للأب والابن والروح، وانما هي في عقيدتهم بشرا طارها صافيا قدسيا لا دخل للاهوتية فيه!
وانا أدعوك لسؤال أي نصراني من أي طائفة تختارها عن عقيدته في العذراء مريم لتعرف بنفسك!
وفي الحقيقة فان استدلال كثير من المفسرين على أن الثلاثة المشار اليها في قوله تعالى ((ولا تقولوا ثلاثة)) وقوله ((ثالث ثلاثة))، هي الله والمسيح ومريم، بناءً على قوله تعالى: ((أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله)) استدلال غير صحيح! ذلك أن تقديس وتذلل وتعبد النصارى للعذراء، وصلاتهم لها ورفعهم الدعاء اليها وتسبيحها بصلاة "الوردية" وغيره مما يتعبدون به لها، كل هذا دليل واضح على التأليه كما سيأتي، مع كونها ليست من الثالوث في شيء عندهم! فهي والمسيح على رأس ما يتوجهون اليه بالعبادة والتأليه من دون الله، وان كان اعتقادهم في طبيعة المسيح بخلاف اعتقادهم في طبيعتها.. فمن جهة اتخذاهما الهين فهذا حاصل، ولكن الآية لا تدل على أنها داخلة في الثالوث!
ولفظة ثلاثة في الآيات عامة، فتنصرف الى اعتقاد النصارى الذي أجمعوا عليه وهو أن الرب ثلاثة أقانيم لجوهر واحد، كلها آلهة وكلها اله واحد، وليست العذراء داخلة فيها، وهذا هو اعتقادهم الخرافي قاتلهم الله! وتأليههم لمريم العذراء وعبادتهم اياها لا يلزم منه دخولها في تلك الثلاثة، لأن القرءان لم يصرح بادخلها فيها، ولم يساو بينها وبين المسيح فيما اعتقدوه في أمرهما، انما ساوى بينهما في عبادتهما وتأليههما. وليس قوله تعالى ((الهين من دون الله)) بدليل على ادخالها في تلك الثلاثة، وانما هو دليل على ادخالها في جملة ما يعبده النصارى من معبودات، لا تنحصر بالضرورة في تلك الثلاثة!
ألا ترى أن الله تعالى يقول في حق اهل الكتاب أنهم: ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله . ؟ فلم يقصر القرءان اتخاذ الأرباب والآلهة من قبل أهل الكتاب في تلك الثلاثة! وهذا عدي ابن حاتم يسأل النبي عليه السلام في تلك الآية، قال: يا رسول الله ما اتخذناهم أربابا، لم نسجد لهم، قال ألم يحلوا لكم الحرام ويحرموا عليكم الحلال فأطعتموهم؟ قال: بلى، قال: فذلك عبادتكم إياهم! فتأمل كيف ان مفهوم العبادة – والتي هي حقيقة التأليه – غير منحصر عند النصارى فيما يعتقدونه في الثلاثة التي يتكون منها الثالوث! فدل على بطلان التلازم بين عبادتهم اياها وبين دخولها في الثلاثة! وعلى أن مفهوم العبادة والتأليه أوسع مما عليه اعتقاد النصارى في تلك الثلاثة تحديدا، فهو مفهوم يشملها من غير ادخالها فيهم! فهي على هذا الهة عندهم معبودة من دون الله وان لم تكن من تلك الثلاثة..
أما قولك: "أما صورة التوسل وطلب الشفاعة التي أوردتها أنت في هذا الموضع فلم ترد في التفاسير فيما يخص هذا الأمر"
وقولك: " مما سبق يتضح أن تأليههم للسيدة مريم تأليه ينافي صورة التوسل والتشفع التي لبست بها الأمر"
فأقول سبحان الله! يا سيدي تصورك عن عقيدة النصارى في العذراء – مع احترامي لك – تصور غير صحيح! بل ان عبادتهم اياها تتمثل في سؤالهم وتذللهم بين يديها لتشفع لهم وتصلي من أجلهم، على اعتبار أنها انسانة طاهرة مقدسة، ذات مكانة رفيعة عند الرب!
ألست تتكلم عن صورة عبادتهم لمريم عليها السلام؟ فلماذا لا ترجع الى كتبهم هم والى صلواتهم وعباداتهم وأدعيتهم لترى بنفسك حقيقة عبادتهم اياها وما يقولون هم في ذلك ؟؟ دعني اذا أنقل اليك من صلواتهم ما أسأل الله أن يكون كافيا لاقناعك بحقيقة عبادتهم اياها وتأليههم اياها كيف تكون ..
لعلك أن تتفضل مشكورا – غير مأمور – بقراءة هذه الأنشودة التي يتلوها النصارى في مناجاة العذراء..
يقولون:
"يا أمَّ الله يـا حنــــونــــة
يا كنزَ الرحمة والمعونــــــَـ ـة
أنتِ ملجانا وعليكِ رجـانــــــا
تشفّعي فينا يــا عـــــــذراء
وتحنّني على مـوتـــــانــــ ا
وإن كان جسمُكِ بعيداً منّــــــا
أيتُها البتـــول أمّنــــــــا
صلَواتُكِ هي تَصحَبُنا
وتكون معنــا وتحفظنـــــــا
بجاه مَن شـــرّفكِ على العالَميــن
حين ظهَر منكِ ظهوراً مبيــــــن
أطلُبي مِنه للخـــاطئيـــــ ـن
المراحم لدهرِ الداهــريــــــ ن
أنتِ أمّنا ورَجـــــانــــ ــا
انتِ فخرنا ومَلجـــانـــــ ـا
عندَ ابنكِ إشفعــي فينـــــــا
ليغفر برأفته خطايـــانــــــ ا
لا تُهمِلينـا يـا حنـونـــــــة
يـا مملـوءة كلَّ نِعــمَــــــة
بـل خلّصي عبيـدَكِ أجمَعيـــــن
لنَشكُرَكِ لــدَهـر الـداهــريـن
(رفعت رابط الموقع الكنسي المنقول منه النص احتراما لضوابط المجلس)
فها هم يقولون لها "عبيدك" وهم من أول الدعاء الى آخره انما يستشفعون بها ويتوسلون ويطلبون دعاءها وصلاتها لهم!
وهذا نص صلاة الوردية الصلاة الأشهر عند النصارى، يقولون في مقطعها الثاني:
" السلام عليكِ يامريم
يامُمتَلئة نعمة
الرب معكِ
مباركة انتِ في النساء
ومباركة ثمرة بطنك
سيدنا يسوع المسيح
ياقديسة مريم
ياوالدة الله
صلي لإجلنا نحن الخُطاة
الآن وفي ساعة موتنا
آمين..."
بل وتأمل هذا الدعاء الطويل، وانظر الى طبيعة العبودية والتأله المصروف للعذراء هنا:
" ايها الآب السماوي الله...................... ..........أرحمنا
ياأبن الله مُخلص العالم.................. .............أرحمنا
ياروح القدس الله...................... ................أرحمنا
أيها الثالوث القدوس الإله الواحد.................. أرحمنا
ياقديسة مريم...................... .....................صلي لإجلنا
ياوالدة الله...................... ........................ .صلي لاجلنا
ياعذرا العذارى................ ........................... صلي لإجلنا
ياأم سيدنا يسوع المسيح.................. ..............صلي لإجلنا
ياأم النعمة الألهية................ ........................... صلي لإجلنا
يااما طاهرة.................... .......................صل ي لإجلنا
يااما عفيفة.................... .......................صل ي لإجلنا
ياأماغير مدنسة.................... .......................صل ي لإجلنا
ياأما بغير عيب........................ ...................صلي لإجلنا
ياأما حبيبة.................... .......................صل ي لإجلنا
ياأما عجيبة.................... .......................صل ي لإجلنا
ياأم الخالق.................. .........................ص لي لإجلنا
ياأم المخلص.................. .........................ص لي لإجلنا
يابتولا حكيمة.................... ......................صلي لإجلنا
يابتولا مكرمة.................... .....................صلي لإجلنا
يابتولا ممدوحة.................. .....................صلي لإجلنا
يابتولا قادرة.................... .......................صل ي لإجلنا
يابتولا حنونة.................... .......................صل ي لإجلنا
يابتولا أمينة.................... .......................صل ي لإجلنا
يامرآة العدل.................... .......................صل ي لإجلنا
ياكرسي الحكمة.................. ....................صلي لإجلنا
ياسبب سرورنا.................. .....................صلي لإجلنا
ياأناءأ روحيا.................... ....................صلي لإجلنا
ياأناءأ مكرما.................... ....................صلي لإجلنا
ياأناء العبادة الجديدة................ ...............صلي لإجلنا
ياوردة سرية...................... ..................صلي لإجلنا
ياأرز لبنان.................... ......................صلي لإجلنا
يابرج داؤد...................... ....................صلي لإجلنا
يابرج العاج.................... .....................صلي لإجلنا
يابيت الذهب.................... .....................صلي لإجلنا
ياتابوت العهد.................... ....................صلي لإجلنا
ياباب السماء.................. ......................صلي لإجلنا
يانجمة الصُبح.................. .....................صلي لإجلنا
ياشِفاء المَرضى................ .....................صلي لإجلنا
ياملجا الخطأة.................. .......................صلي لإجلنا
يامُعزية الحزانى................ ......................صلي لإجلنا
يامَعونة النصارى................ .....................صلي لإجلنا
ياسلطانة الملائكة.............. .......................صلي لإجلنا
ياسلطانة الآباء.................. ........................صل ي لإجلنا
ياسلطانة الأنبياء.............. .........................صل لإجلنا
ياسلطانة الرسل.................... .....................صلي لإجلنا
ياسلطانة الشهداء................ .......................صلي لإجلنا
ياسلطانة المعترفين............ .........................صل لإجلنا
ياسلطانةالعذارى .............................. ..... .....صلي لإجلنا
يلسلطانة جميع القديسيين............ ..................صلي لإجلنا
ياسلطانة الوردية المقدسة................ .............صلي لإجلنا
ياسلطانةالسماوا ت والأرض.................. .........صلي لإجلنا
ياسلطانة حُبل بها بلا دنس........................ ......صلي لإجلنا
ياسلطانة الأنتقال.............. ............................ صلي لإجلنا
ياسلطانة السلام.................. .........................ص لي لاجلنا
ياحمل الله الحامل خطايا العالم.................. ........أنصت الينا
ياحمل الله الحامل خطايا العالم.................. ........استجب لنا
ياحمل الله الحامل خطايا العالم.................. ..........أرحمنا ... "
(رفعت رابط الموقع الكنسي المنقول منه النص احتراما لضوابط المجلس)
نقلت هذا الدعاء الأخير على طوله لأنه قد أذهلني حقيقة نسبة ما فيه من التأله والتذلل والتعبد للعذراء في مقابل ما فيه من التوجه بذلك لله والمسيح معه مجتمعين!! النسبة 50 الى 7!!! وكل هذا وهم لا يقولون لها الا "صل لأجلنا" كما ترى!!! فصدق الله العظيم!
أكتفي بهذا، وان شئت المزيد زدتك، ولكن لا أظن أن الحاجة تدعو اليه!
هذا ولا أظنه يخفى عليك أن كلمة "اله" في اللغة لا ترادف الرب الخالق الذي بيده كل شيء، فلا يلزم من التأله والتعبد اعتقاد أن ذاك المعبود هو الخالق الرازق الباري، ولا يلزم من اتخاذ جماعة من الناس الها معبودا أن يعتقدوا أن هذا الاله هو الله نفسه أو أنه جزء منه أو أقنوم منه أو نحو ذلك! والا فلا حجة فيما وبخ القرءان به مشركي قريش من كونهم على الرغم من اقرارهم بأن الله هو وحده الخالق الباري الرازق، الا أنهم يعبدون من دونه ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا، ويزعمون أن هذا من الوسيلة التي تقربهم الى الله زلفى، ((أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ)) [الزمر : 3]
وتامل قوله تعالى: ((قلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [يونس:31] وقوله: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ)) (المؤمنون:84-89)
والنصوص القرءانية وافرة في ذلك المعنى – محاججة مشركي قريش - ولا داعي لنقلها منعا للاطالة! ولكن الشاهد أن الله هو الذي عد ذلك التأله وتلك العبادة شركا: تأليه وعبادة مخلوق تزلفا وتقربا الى الله! فتأمل بروية وانصاف، هداك الله الى الحق، وراجع قولك هذا: " هذا تقول على الله وعلى القرآن بغير حق فالصورة إنما أنت من أتى بها لا القرآن ولكن القرآن أتى بصورة أخرى وبآيات أخر فسر بها بعض المفسرين هذه الآية وهم أولى عندنا من وضعكم أنتم لصورة ثم تقولون سماها القرآن سبحانك هذا بهتان مبين"
وأما التوسل المشروع، فلا يدخل فيه التوسل بالموتى واستشفاعهم وطلب دعائهم والمدد منهم! فهذه هي بعينها صورة تاليه النصارى لمريم ولسائر القديسين عندهم، وهو ما أثبتناه فيما تقدم بحول الله وقوته، والله الهادي الى سواء السبيل!
والحمد لله رب العالمين.
انتهى الجواب.