و أولها: أَن يَعمَل العالِم بعَلمِه وَأَن يُوافِقَ قَولهُ عَمَلَهُ فإِنَّ العَبدَ كَما أخبَر النَبّي صلى الله عليه وسلم: (لاتزال قدمه يَومَ القِيامة حَتى يُسأَل عَن أربع :عَن عُمرِه فيما أَفناه ,وَعن شَبابِه فيما أَبلاه, وعَن مالِه مِن أينَ إكتَسبُه وفيما أَنفَقَهُ, وَعَن عِلمِهِ ماذا عَمِل فيه).
و قَد تَضمنَت سُورة الفاتِحة الِهداية إلى العِلم والعَمَل وَهُوَ صِراطَ الّذينَ أنعَمَ اللهُ عَلَيّهِم مِنَ النَبِيينَ والصِدِّيقينَ والشُهداء وَالصالِحين غَيرِ المَغضوبِ عَليهِم أَلّذينَ عَلِموا وَلَم يَعمَلوا كَاليَهود وَمَن فَسَقَ مِن عُلماءِ المُسلِمين ولا الضّالينَ ألّذينَ عَمِلوا بِلا عِلمٍ صَحِيح كَالنصارى وَمَن ضَلّ مِن عِباد الأُمة.
قالَ سُفيان إبن عُيّينة رَحِمهُ الله: (من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى ).
وَقَد جَمَعَ اللهُ تَعالى بَينَ هذينِ الصِنفَينِ في كِتابِه كَما في قَولهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }{التوبة34 }.
فَالِهداية إِنمَّا هِيَ بِالعَمَل بِالعِلمِ وَالاستجابة لِلمَوعِظَةِ كما قال الله تبارك وتعالى: { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً{66} وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً{67} وَلَهَدَيْنَاهُ مْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً{68} وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً{69} {النساء66-69}.
فَمَن زَعَمَ مِن المُنتَسِبينَ لِلعِلمِ أَنّهُ مِن أَتباعِ سَلِفِ الأُمَّةِ وَهُوَ كاتِمٌ لِلحَق وَقاعِد عَن الجِهاد وَصاد عَن سبيلِ الله لأَجلِ َعرَضٍ مِنَ الدُنيا فَهُوَ كاذِبٌ في دُعواه بُل هُوَ أشبَهُ الناس بِعُلَماءِ اليُهود المَغضوبِ عَليّهِم الَّذِين قال الله تعالى عَنهُم: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ{42} وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ{43} أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ{44} {البقرة/43-44}.
وَفي الصَحِيحَينِ قال صلى الله عليه وسلم: (يأتى بالرجُل يَومَ القِيامة فَيُلقى في النّار فَتندلق أقتاب بَطنِه فَيدور بِها كما يَدور الحِمار في الرّحى فَيجتَمِع إِليه اهل النار فَيَقولون:يا فُلان ما لك ألم تَكُن تأمر بالمعروف؟ وتَنهى عَن الُمنكر؟ فَيَقول: بَلى لقَد كُنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عَن المُنكَر وآتيه)).
وَقد شَبّه الله تعالى مَن حَملَ العِلم وَلَم يَعمَل بِه وَعَرَفَ آياتِ الله تعالى ولكِنّه إنسَلَخَ مِنها بِالحِمار الّذي يَحمِل كتباً ولا يَنتَفِع بِها وبالكَلب الّذي يَلهَث على الدُنيا وعَلى الضَلال الّذي يَعيش فِيه في جَميع الأَحوال سَواءاً وَعَضَ بِالآيات الّتي تَعلّمها أَو بِغَيرِها أو لم يُوعِض فَقَد أخلَدَ إِلى الأرضِ ومالَ إِليها بِكليتِه وَأَصبَحَ إتّباع الشيطانِ والهَوى مَسلَكُه وَطَريقه فقال تَبارك وَتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }{الجمعة5 }.
وقال تبارك وتعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } {الأعراف174 }.
قَال تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ{175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ{1 76} {الاعراف174-176}.
وَقَد ذَكَر القُرطُبِي رَحِمَه الله تعالى عِندَ تَفسيره لهذهِ الآية أَن هذا الَمثل عام في كُل مَن أُوتيَ القُرآن فَلَم يَعمَل به.
وأما الصِفَة الثانية مِن صِفات طالب العِلم:
فَهِيَ تُبَيين العِلم لِلناس والصَدع بكَلمة الحَق وَقَد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ }{البقرة159}.
فَمَن كَتَمَ العِلم مِن المُنتَسِبينَ لِلعِلم فَهُوَ لَيسَ مِن العُلماء الّذينَ يَستَغفِر لَهُم مَن في السمواتِ وَمَن في الأَرض وَحَتى الحِيتان في الماء والّذينَ جاءَت النُصوص الشرعيّة بِمَدحِهِم وَذَكَر ثوابَهُم بَل هُو مِن الّذين يَلعَنَهُم الله وَيلعَنَهُم الّلاعِنون وإِنّما يَحمِل طالب العِلم على كَتم الحَق وَالخَوف مِن أَصحابِ السُلطة وَمِن بَطشَهُم وَوَسائِل إِعلامِهم وَطَلَبه لمرضاتِهم وَالمكانة عِندَهُم وَحِرصَه على الدُنيا وَمتاعها وَقَد قال الله تبارك وتعالى {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ }{آل عمران187}.
وقال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }{الأعراف169 }.
فَقَد دَرسوا العِلم على العُلَماء أَو في المدارس أو في.....كَما قال تَعالى: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} {الاعراف169} وَلكِن درسوه دِراسة مُجردة وَلَم يَكُن عَقيدة راسِخة وإِيماناً صادقاً وَلَم يَتَلقَوه تَلقِي الصحابة رَضِيَ الله عَنهُم الّذينَ حَمَلُوه وَصَبَروا على تَبلِيغَه وَمُجهادَة أعداءِه قال الِإمام إبن ألقَيّم رَحمه الله:(كل من آثر الدُنيا مِن أهلِ العِلم واستَحَبَها فلا بد أن يَقول علىِ الله غَيرَ الحَق في فَتواه وحُكمَه في خَبَره وإِلزامه لأن أحكام الرّب سُبحانَه كثيراً ما تأتي على خِلاف أغراض النّاس ولا سِيَّما أهلِ الرِياسَة وَالّذي يَتّبعونَ الشهوات فإنَّهُم لا تَتِم لَهُم أَغراضَهُم إلا بِمُخالفة الحق وَدَفَعَه كثيرا فإذا كان العالِم والحاكِم مُحبين لِلرِياسة مُتّبعينَ لِلشَهوات لَم يَكُن لهما ذلِك إلِا بِدَفِع ما يُضادَهُ مِنَ الحَق ولا سِيَّما إذا قامَت له شُبهه فَتَتَفِق الشُبهة والشَهوة وَيثور الهوى فَيَخفى الصَواب وَينطَمِس وَجهُ الحَقِ وإِن كانَ وَجه ظاهراً لا خَفاءَ بِهِ ولا شُبهة فيه أَقدَمَ على مُخالَفَتِهِ وَقالَ لي مخرج بالتوبة وفي هؤلاء وأشباهَهُم قال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً }{مريم59 }.
وقال تعالى فيهم أيضاً {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }{الأعراف169}.
فأَخبَرَ سُبحانَه أنَهُم أخَذوا العَرَضَ الأدنى مَعَ عِلمِهم بِتَحريمَه عَلَيهِم وقالوا سَيُغفِر لنا وَإِن عُرِضَ لَهُم عَرضٌ آخر أخَذوه فَهُم مُصِرّونَ على ذلك) انتهى كلامه.

فلَيسَ الشأنُ في حِفظ المُتونِ ودِراسةِ العُلوم بَل الشأن لِكي يَنفَع العِلم هو زَكاة وتقوى المَحل الذي يَتَلَقى الِعلم فإِذا كانَ القَلبُ زكيّاً نَفَعَ العِلم بأذن الله وَانتَفَع بِهذا العِلم المُسلِمون.
وأَمّا إذا كانَ القَلبُ الّذي يَتَلقى العِلم قلب مُنافِق أو قلباً مريضاً فإن صاحِبَه لا بُدَ أن يَكتُمَ الحَق وَيفتري على الله الكَذِب وَيَصُدُ عَن سَبيل الله وَيَجعَل فَتواهُ وأقوالهُ غِطاءاً شرعياً
وَأمّا الصِفة الثالثة مِن صِفاتِ طالبِ العِلم
فَهِيَ تَقوى الله تعالى وَخَشيتَهُ وَقَد قال الله تبارك وتعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }{الزمر9 }.
وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }{فاطر28 }.
وَمِنَ الدلائِل على أَنَّ العاِلم يخشى الله تعالى حَقَ خَشيَتِه أن يَصدَعَ بِالحَق وَيُبَيِنَ العِلمَ لِلناس وَيَنصَح لِلأُمَّة وَلا يَخافُ لَومَ الّلائِمين مِنَ النّصارى وَالمُرتَدّيِن وَالمُنافِقينَ كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً }{الأحزاب39 }.
وَمِنَ الدلائِل على خَشيةِ العاِلم للهِ تعالى أن يُجاهدَ في سَبِيلِ الله وقد قال الله تبارك وتعالى: {أَتَخْشَوْنَهُ ْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ{13} قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ{14}{التوبة 13-14}.
فإذا كَتَمَ طالِبُ الِعلم الحَق وَقَعَدَ عَنِ الجِهادِ بالنَّفسِ وَالمال وَاللسان في الوَقتِ الذي تَجتاحُ جُيُوشِ الصَّليبيّين العَديد مِن بِلادِ المُسلِمين فلا شَكَّ أنَ هذا المُنتَسِب لِلعِلمِ لَيسَ مِن أَهلِ العِلم الَّذينَ مَدَحَهُم الله في كِتابِه وَوَصَفَهُم بِكَمالِ الخَشية ِوَالخَوفِ مِنه.
الشيخ محمدابن عبدالله التميمي رحمه الله