لماذا تتضخم ظاهرة التدين؟
بقلم الدكتور حسن حنفي
من الملاحظ ازدياد ظاهرة التدين في الوطن العربي، وتضخمها في العالم الإسلامي بصرف النظر عن النظام السياسي ليبرالياً كان أم شمولياً. فالدين متجذر في الوجدان العربي أكثر من السياسة بل إن الأيديولوجيات العلمانية للتحديث، الليبرالية والقومية والاشتراكية والماركسية، لم تنجح في تحويل العاطفة الدينية إلى أيديولوجية سياسية لخدمة الناس وإعطاء أساس شعبي للتنظيمات الاجتماعية والسياسية.
وهناك أسباب عديدة لهذه الظاهرة أهمها:
1- الحضور الطاغي للماضي على حساب الحاضر والمستقبل. فمعظم البرامج الإعلامية وخطب المساجد والوعظ والبرامج الدينية تشيد بعظمة الماضي. وتهيج الذاكرة بعصر الفتوحات، وتأسيس العمران، وإبداع العلوم، وتأسيس الحضارة. فإذا ما قارن المسلمون حالهم اليوم بحالهم في الأمس انحازوا إلى الأمس ضد اليوم. وعاشوا في الماضي أكثر مما عاشوا في الحاضر. وكلما عظم الماضي تضاءل الحاضر، وغاب همّ المستقبل. وتقوي ذلك أقوال شائعة مثل "السلف خير من الخلف"، "ما ترك الأولون للآخرين شيئاً". فنشأت الحركات السلفية تدعو إلى العودة إلى الماضي.
التدين صعود إلى السماء بعد اليأس من الأرض، والتوجه بالدعاء بعد العجز عن ممارسة الفعل. يتم الهروب إليه لأنه أسهل من الاصطدام بالواقع.
2- أصبح التمسك بالدين الحصن الأخير كلما حدثت مساومات على المبادئ العامة وحقوق المسلمين في النظم السياسية على حقوق شعب فلسطين وعلى بقاء قوات الاحتلال مستقبلاً في العراق وأفغانستان. وكلما تم التساهل مع الآخر اشتد حساب النفس والتشدد معها مثل التمسك بالحدود، والامتناع عن الحرام، وامتداده على الحلال والمندوب والمكروه والمباح. أصبح مكسب الدين تعويضاً عن خسارة الدنيا. وكلما وقع تساهل في الحياة العامة حدث رد فعل في التشدد في الحياة الخاصة. فالحجاب رد فعل على مظاهر العري في بعض وسائل الإعلام. والزي الإسلامي رد فعل على آخر أساليب الموضة المستوردة من الغرب في الإعلانات وفي الحياة العامة وفي بعض أجهزة الإعلام، كالصحافة والتليفزيون. وغياب الهوية والإحساس بالضياع قد يؤديان أيضاً إلى التمسك باللحى والجلباب والطاقية البيضاء ومظاهر التدين المستوردة من خلال العمالة المهاجرة. ونظراً للأزمة الاقتصادية والديون الخارجية انتشرت محلات معينة بأسمائها الدينية وبضائعها الصينية الرخيصة. واستطاعت جذب الطبقات الشعبية. ولم تؤثر الروايات عن أصحابها حول حياتهم الخاصة في التقليل من رواجها أو النيل من سمعتها. وأخذت عناوين المحلات التجارية "الإسلامية" في الانتشار مثل "إسلامكو"، و"إيمانكو" من أجل الترويج لبضائعها عن طريق دغدغة العواطف الدينية.
3- وأمام الهزائم الكبرى في الداخل والخارج، وقمع بعض الحركات السياسية في الداخل، والزج بها في السجون والمعتقلات، وممارسة كافة أشكال الضغط عليها، حدث رد فعل في اجتزاء مقولات من التراث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد إن كممت الأفواه، ودخلت الألسن الحناجر. وأصبح "الدين" وسيلة سياسية تقحم ضد بعض نظم الحكم. وبدأ التكفير. وكلما ازداد العجز عن مواجهة الأعداء في الخارج، أصبح الدين هو الوسيلة الوحيدة الباقية، والتحول من الدفاع إلى الهجوم، ومن القبول والاستسلام إلى الاحتجاج والرفض في وقت تضعف فيه المعارضة العلمانية ناصرية وقومية وماركسية.
4- وإذا ما انسدت طرق التغير الاجتماعي، وتوقف المجتمع عن الحركة، وأصبحت البركة آسنة، بدأت المياه الجوفية في الحراك تجد لها متنفساً في شقوق الأرض لتنفجر منها كعين دافقة أو بركان هائج. وفي كلتا الحالتين الصعود إلى أعلى بدلًا من الجريان إلى الأمام. والتدين صعود إلى السماء بعد اليأس من الأرض، والتوجه بالدعاء بعد العجز عن ممارسة الفعل. وهو السبب في نشأة أنماط من التدين في المجتمعات المغلوبة على أمرها، الفقيرة، كنوع من التوازن النفسي بين الإشباع الروحي والحاجة البدنية. حيلة العاجز. يتم الهروب إليه لأنه أسهل من الاصطدام بالواقع وتغييره. فالروح فضاء فسيح. يجول فيه المواطن كيف يشاء. وهي مفتاح سحري وحيد بديلًا عن العلم والفن والفكر والسياسة.
5- ويخلق المواطن عالماً خاصاً من الخيال، يظنه حقيقة بينما يعتبره الآخر وهماً. يخلق الخيال عالماً بديلاً عن العالم الواقعي. سماه الدارسون "الخيال الخلاق". يشعر المواطن العربي بالرضا والسعادة في هذا العالم الوهمي البديل الذي يتجلى فيه الإيمان حسب اعتقاده. وتنبثق فيه الحقيقة الدينية بدلًا من عالم الظلم والجحود، والكفر والإلحاد. يسعد بالدين، ويشقى بالدنيا. ويعيش في الحلم بدلًا من الواقع. فالوهم تعويض عن الحقيقة وبديل عنها. وبالتالي تتضخم ظاهرة التدين إما بالتشدد في الخارج والتمسك بالمظاهر كما يفعل بعض الفقهاء أو الغوص في الباطن والإيغال فيه كما يفعل بعض أهل الذوق في التدين.
6- والطريق للعودة بالمواطن العربي إلى العالم والتخلي عن العجز أمامه هو أن يربط بين الدين والدنيا. فالتظاهر بالتدين ليس غاية في ذاته بل وسيلة لأن يحقق الإنسان رسالته في الأرض. ليس الدين اغتراباً عن العالم بل هو عوْد إليه وذلك عن طريق ما سماه البعض بـ"لاهوت التحرير" الذي بدأ في أميركا اللاتينية وانتشر في آسيا وأفريقيا ومازال يتحسس طريقه في الوطن العربي. ويقوم على الربط بين الدين وحاجات الناس، بين اللاهوت وتحديات العصر. ويتفرع إلى عدة أنواع: لاهوت الأرض من أجل تحرير الأراضي المحتلة، والربط بين الإيمان والحرية. ومنه أيضاً لاهوت التحرر من أجل تحرير الإنسان من كل صنوف القهر والطغيان من بعض النظم السياسية، والرضا بالظلم والهوان. فالإنسان هو الحرية والرفض بفضل الشهادة "لا إله" فعل النفي، نفي الآلهة المزيفة في كل عصر، وحتى يتحرر الوجدان يقوم بفعل الإثبات "إلا الله". ومنه لاهوت العدالة الاجتماعية، وحق الفقراء في أموال الأغنياء. ففي المال حق غير الزكاة. ومنه لاهوت الوحدة ضد مظاهر التجزئة كالطائفية والعرقية. فالإيمان لا ينعكس فقط في وحدة الألوهية بل أيضاً في وحدة البشرية، ووحدة الأمة، ووحدة المجتمع، ووحدة الأسرة، ووحدة الشخصية الإنسانية ضد كل مظاهر الازدواجية مثل النفاق والخوف والجبن. ومنه لاهوت التنمية، والعمل في الأرض، في الزراعة والصناعة والإنتاج. فصورة الأرض في القرآن هي الأرض الخضراء التي ينزل عليها الماء وتنتج من كل زوج بهيج. والحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس. ومنه لاهوت الهوية والدفاع عن الذات ضد كل مظاهر التغريب وتقليد الآخر. ومنه لاهوت حشد الجماهير وتوعية الناس.
فإذا كانت ظاهرة التدين متضخمة في الوطن العربي لظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يمر بها فعلى الأقل تأخذ الظاهرة وجهتها الصحيحة بعيداً عن التعويض والعجز والاغتراب بل عوداً إلى العالم والعمل فيه. فالدين هو العمل. وهو العمل الرشيد القائم على التخطيط ورؤية المستقبل وتغيير الأمر الواقع وليس الاستسلام له. الدين ثورة وغضب على أخطاء الواقع وليس رضا واستكانة لها.
http://www.alittihad.ae/wajhatdetails.php?id=40600