المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو مالك العوضي
لا يصح الاستدلال على حجية الإجماع بدليل واحد؛ لأن كل دليل في الوجود بانفرداه يمكن الطعن فيه بوجوه كثيرة من الطعن، وحينئذ لا يمكن أن يكون قطعيا، والفرض أن القوانين الكلية لأصول الفقه قطعية، وهذا خلف.
والذي يظهر للناظر عند التأمل أن حجية الإجماع لم تكن عند الشافعي ولا عند من سأل الشافعي، ولا عند من قبل الشافعي موضع شبهة أصلا، وإنما كان السؤال عن الدليل الدال، لا عن صحة المدلول، فالمدلول معروف ولا إشكال فيه، وإنما الإشكال في معرفة النص الدال عليه، وهذا كما نقول: كل ما يشرعه الله فله حكمة، ثم بعد ذلك نبحث عن هذه الحكمة، فإذا لم نجد هذه الحكمة فليس معنى هذا عدم وجودها، وإنما معناه عدم قدرتنا على معرفتها، والفرق شاسع بين الأمرين.
والأدلة الدالة - كما يقول الشاطبي وغيره من أهل العلم - مأخوذة من نصوص تفوق الحصر، وهذا الكلام عند التأمل صحيح؛ لأن الأدلة التي يستفاد منها أن الأمة لا تجتمع على باطل أكثر من أن تحصى، ولكن دلالة كل منها تكون في سياق يختلف عن سياق الدليل الآخر، ومع هذا فالحكم الكلي المفهوم منها صحيح، وهذا يشبه ما يمثل به أهل العلم كثيرا في كتب الأصول، من شجاعة علي وجود حاتم، فنحن ما علمنا هذين الأمرين من نص بعينه، وإنما عرفناه من وقائع كثيرة تفوت الحصر، فحصل التواتر المعنوي على هذا المعنى.
فحجية الإجماع وحجية القياس وحجية العموم وغير ذلك من القواعد الأصولية كلها مأخوذة من أدلة ونصوص تفوت الحصر، بحيث يثبت بها القطع أو التواتر المعنوي، ولو رام رائم أن يثبت أيا من هذه القواعد بنص معين أمكن إيراد الإيرادات على استدلاله بحيث تقدح فيه، أو على الأقل تجعله ضعيفا.
وينبغي أن نفرق بين بحث المسائل الأصولية وبين بحث المسائل الفروعية، فإنه من السهل عادة أن تبحث مسألة فروعية في استحباب شيء أو كراهته استنادا إلى عموم حديث أو ظاهر آية أو نحو ذلك، أما القواعد الأصولية فلا يصح الاستدلال عليها بنحو ذلك من الأدلة منفردة، وإنما يكون البحث فيها باستعمال الاستقراء لجميع الأدلة الشرعية في سياقاتها المختلفة بحيث يستخرج من كل منها ما يشير إليه مطابقة أو تضمنا أو التزاما.
فمن أراد أن يتكلم في حجية القياس فلا يصح أن يستند إلى نص بعينه منفردا في حجيته أو إلى نص بعينه في منعه؛ لأن كل طرف من الطرفين يسهل عليه أن يفعل هذا، ولا ينفعك دليل واحد إذا كان يخالفه مئات الأدلة الأخرى.
والنكتة هنا هي لزوم التفريق بين دلالة الدليل وبين ما يفهمه الناظر من الدليل، فأنت عندما تستدل بدليل إنما تستدل في الحقيقة بفهمك لهذا الدليل، فقد يكون فهمك صحيحا، وقد يكون خطأ، وإنما يعرف هذا بالنظر في أمرين: الأمر الأول: في فهم باقي العلماء لهذا الدليل، والأمر الثاني في دلالة باقي الأدلة على هذا المدلول، فإذا وجدت أن جميع الأدلة تتفق على الدلالة المشتركة التي تريد الاستدلال عليها، فحينئذ يخرج الدليل من الظنية إلى القطعية، وتثبت القاعدة بالاستقراء، أما إذا وجد اختلاف في دلالة الأدلة، فحينئذ ينظر إلى أقواها دلالة، وحينئذ يتسع المجال لاختلاف آراء العلماء.
ولكي لا أترك المجال بغير فائدة، فإنه من عجائب الاتفاقات أنني قد خطر في بالي أن أستقري المواضع التي تدل على حجية الإجماع من القرآن الكريم، فجمعت قدرا لا بأس به من الآيات، وها هي ذي، ويمكن الناظرَ أن يستخرج أدلة أخرى من البابة نفسها، وغني عن البيان أن دلالة كل منها تختلف قوة وضعفا على المراد، ولكن المراد - كما سبق ذكره - الدلالة الإجمالية التي تتقوى بالمجموع.
وبعضها يكون وجه الدلالة فيه خفيا، فأتركه لذكائكم:
- {هذا ذكر من معي وذكر من قبلي}
- {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}
- {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه}
- {أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين}
- {ولا تكونوا أول كافر به}
- {ويتبع غير سبيل المؤمنين}
- {فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك}
- {قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب}
- {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}
- {لعلمه الذين يستنبطونه منهم}
- {فأتوا بسورة من مثله}
- {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}
- {فإن تنازعتم في شيء}
..... إلخ إلخ