الحمدلله علم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، والصلاة والسَّلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد
فهذا موضوع قديمٌ لي كنت قد سطَّرتُه متفرِّقًا في مشاركاتٍ قديمةٍ لي في ملتقى أهل الحديث من بضع سنين خلت.
والذي دعاني لإحياء الكلام عنه الآن ما رأيته من هذا الكتاب في منتدانا المبارك:
http://majles.alukah.net/showthread.php?t=21380
بداية الأمر والمشكلة أنَّ بعض الباحثين و"المثقَّفين الإسلاميين!!" صار لديهم هوسٌ في محاولة ربط الاكتشافات الغربيَّة أوالشَّرقيَّة أو النَّظريَّات أوالأساطير أوبعض الظواهر الكونية بالحقائق الشرعية ونصوصها، وتكلُّف ذلك ولو على حساب إلغاء دلالات الوحي أو لي أعناقها.
وممَّا تكلَّف له بعض المخلِّطين في هذا العصر ربط بعض النَّظريات والأساطير التي لم تثبت بطريقة علميَّة متَّفقٍ عليها =بنصوص الشَّرع، وكانَّها أمور مسلَّمٌ بها بلا مراء.. ذلك هو كلامهم بتخليط ورجمٍ بالغيب في موضوع الأطباق الطَّائرة ومثلَّث برمودا.
وممَّا شاع في ذلك ما زعمه بعض هؤلاء المتجرِّئين على الغيبيَّات والنصُّوص الشَّرعيَّة زعمهم أنَّ ظاهرة الأطباق الطَّائرة ومثَّلث برمودا لها علاقة مباشرة بـ"حقيقة الدجال"، وفسَّروا ذلك بأسباب.
منها أنَّ الدجال اتخذ منطقة برمودا قاعدة انطلاقٍ لمغامراته وغزواته المظفَّرة.
وأنَّ الأطباق الطائرة ليست إلَّا وسائل ذات تقنية رفيعة المستوى وتطور يفوق قدرات البشر تمكِّن المسيح الدَّجَّال من تسخيرها، سلباً لتحقيق ما يصبوا إليه من فتنة البشر، وإخراجهم من زمرة الإيمان عند ظهوره.
إلى غير ذلك من التفاصيل التي بُنيت على أوهام وخيالٍ، ولُبِّست لبوس الوحي والشرع زورًا!
دعوى إذا حققتها ألفيتها "أوهام" زور لُفِّقت بمحالوبأدنى إعمال عقلٍ -بلْه نسف نصوص الوحي له- يبطل هذا الباطل، إذ يُقال بداهةً: ماذا يفعل الدجال بالطائرات والسفن المخطوفة، وقاذفات القنابل؟! وأيُّ قدرةٍ تمكِّنه من ذلك والمسكين مربوط بالسَّلاسل، موثقٌ بها في جزيرته التي بالمشرق كما أخبر النَّبي ، لا بالمغرب الأقصى محل الجزيرة المذكورة!
وفي بعض ما ورد في السُّنة من التفاصيل حول هذا الأمر ما يكذِّب تفسير هذه الظاهرة بجزيرة الدجال... ولعلِّي أستعرض ذلك في مشاركة أخرى بإذنه تعالى.
ولو عدنا للبداية فإنَّ حقيقة المثلث المذكور كظاهرة غريبة ليس في العقل ولا النَّقل ما يدعو لتكذبيه ووجوده أصلاً.
لكن .. بعض التفاصيل المذكورة معه، ممَّا يتناقله الناس دون تمحيص علميٍّ، كفقدان 2500 سفينة في عام واحد فقط؟! يدلُّ على كذبٍ مبالغٍ فيه من صاحبه، إذ لم يحسن كيف يكذب! وكأنِّي بهذه الحصيلة من السفن ومن عليها في عامٍ واحدٍ حرب عالمية ثالثة؟!
لكن عدم تصديق المرء لبعض التفاصيل لا يلزم منه تصديقه لأصلها، إذ لا تعدو نظريَّة وظاهرةً تحتاج لتفسير، فيبقى خبراً من الأخبار القابلة للصدق والكذب. وهو مقتضى العقل.
وكما أنَّه ليس كل ما ورد من جهة الكفَّار يجب تكذيبه =فكذا لا يجب تصديقه إلَّا إن دلَّت الدلائل الحسِّيَّة على صحَّته وحقيقته.
وإذا كان النَّبيُّ قد قال: (حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، فقد ذكر أيضًا ما يقيِّدُ هذا الإخبار؛ فقال: (لا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم).
فأنا لا أصدِّق ولا أكذِّب من أخبارهم إلاَّ ما دلَّ الدليل على تكذيبه نقلاً أو حسَّاً أو عقلاً .
ثمَّ ليُعلم أنَّ التواتر المدَّعى في كثيرٍ من الأخبار المبالغ فيها والمهوَّل بأصلها قد يكون غريب الأصل، ثم تواتر، فظُنَّ به التَّواتر الذي لا يمكن دفعه عقلًا! ولا بد للتواتر المقبول عقلًا أن يكون مستنده الحس، فلا بد أن يقع في (العدد الكثير)، الذي يستحيل في العادة (اتفاقهم وتواطئهم على الكذب) ذلك الخبر ليصدَّق.
لا أن يكون مستند الحس في أول الخبر عند عدد قليل متواطئين على الكذب ثم يتواتر بعد ذلك.
ولهذا نظائر كثيرةٌ في العلوم الشَّرعيَّة وغيرها، والأخبار الواردة من هنا وهناك.
فمقتل عيسى بن مريم المسيح هو متواتر عند ملايين الناس، مع كون أصله غريبًا منكرًا مختلقًا.
وقريب منه كذلك مهديُّ الأضحوكة المُسَرْدَبة لشيعة النَّوك والحمق والغدر والخيانة (عج!) هو متواتر عندهم ! ابتسموا؟!
بل إنَّ مثل هذه الأخبار المتواترة في هذا الزمن صحفياً كثيرة، وأصلها كذبٌ ملفَّق.
وليُقس ما لم يُقل على ما قيل
ومن هذا القبيل الذي أصدِّق مجمله وأصله إن تواتر تواترًا قد ثبت بشروطه، ولا يلزمني تصديق تفاصيله، والذي قد يكون مختلقاً =الأطباق الطائرة .
فحيث ثبتت بالتواتر الصحيح لا المختلق فأنا أصدِّق بها، لتواتر وتوارد رؤية الناس لها.. ونقف هنا حسبُ..
وأمَّا التفاصيل المهوَّل بها في هذه الظَّاهرة فهو ممَّا لا أصدِّقه لزوماً إلاَّ بدليل حسِّيٍّ أوعقلي غير مدفوعٍ (ولا ثمَّ حتى الآن!)، كتفسيرهم إيَّاها بكونها مخلوقات من كواكب أخرى، المريخ أو غيره! أومجرَّة أخرى!
ومن عجائب ما في تناقض كثيرٍ من ملاحدة الغرب وأذنابهم من المخبِّطين وجود من ينكر منهم حقيقة الجن والشياطين، ويرى أنَّها من أساطير الأولين وخرافات وخزعبلات الجدَّات يخوِّفون بها البنين، وممَّا تمَّ نفضه من بقايا عصر الظُّلمات!
ثم استعاضوا عن هذه الحقيقة الشرعية الثابتة بإثبات ( خرافة لا دليل عليها ) من صنع أخيلتهم، وجسَّدوها في أفلام (من صنع هوليوود وغيرها ) = ألا وهي الأطباق الطائرة ورجال الفضاء الأشرار .. الخ.
وأحسبُ أنِّي أزعم أنَّه ليس ثمَّ ما يمنع من وجود هذه الأطباق الطائرة؛ لا شرعاً ولا عقلاً ولا حسَّاً ولا غيرها.. ولكن أين ما يثبت التَّفاصيل، على الأقل حتى الآن!
ولكن قد يكون أقرب (احتمالٍ) لهذه الأطباق الطائرة -إن ثبت أصل وجودها- أنَّها جنس من الجنِّ.
إذن فالمسارعة بالتَّكذيب وتكلُّف الاستدلال عليه من الطرف المضاد هو من التطرُّف المقابل، والذي قد يصدق عليه قوله: ((بل كذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمَّا يأتهم تأويله)).
وإنَّما ذكرت ما ذكرت من احتمالٍ لا جزمٍ بكونها قد تكون جِنًّا = لأنَّ الجنَّ لهم قدرة تفوق قدرة الإنس بمرَّات، من جهة على التشكُّل والطيران، وغير ذلك... الخ.
وما حصل في عهد سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام مثالٌ على ذلك؛ فقد نُقِل عرش بلقيس في زمن أقل من طرفة عين (أجزاء من الثانية)، ولم تكن ثَمَّ حينها طائرات نفاثة ولا شركات نقل سريعة! وكذا ما حكاه الله عنهم من خدمتهم لسليمان بالخوارق والعظائم.. فهذا مثالٌ واحدٌ مما عُرِّفناه عنهم، وما لم نعرفه قد يكون أكثر.
يقول تعالى: (قال يا أيها الملؤ من يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ننن قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقويٌّ أمين قال الذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدَّ إليك طرفك).
وبقية الأدلة الدالة على قدرتهم على ما يعجز عنه بنو آدم معروفة: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات).. الخ.
وغير المعروف من التفاصيل الأخرى عن غير طريق نصِّ الشارع أكثر، كقدرتهم على حمل بني آدم (قبل اختراع الطيران)، وسرعة نقل الأخبار (قبل اختراع وسائل الإعلام السريعة الحديثة)، ومعرفة مكنوناتها (قبل اختراع أجهزة التنصُّت والتجسّس)، وسرقة أموال الناس واستخراج الكنوز ومعرفة الأدواء، مما يذكره العلماء (من أهل السنة) عن خدمة الجن لأوليائهم من الإنس (من الكهنة والسحرة)، وغير ذلك.
وممَّا يماثل هذا التفسير ما اشتهر عند بعض الناس من المشاهدات الغريبة الأسطوريَّة -وبعضها قد يكون كذباً من الناحية العلمية-! فإنَّها إن ثبت وجودها فـ(قد) تكون من الجن، كرجل الثلج في جبال التبت، وغيره.
وصلى الله على نبينا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين..
يتبع إن شاء الله: تتمَّات، والرد على من تأوَّل أخبار الدَّجَّال وحملها على المجاز..