(هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِيثُ ضَيۡفِ إِبۡرَٰهِيمَ ٱلۡمُكۡرَمِينَ (24) إِذۡ دَخَلُواْ عَلَيۡهِ فَقَالُواْ سَلَٰمٗاۖ قَالَ سَلَٰمٞ قَوۡمٞ مُّنكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ فَجَآءَ بِعِجۡلٖ سَمِينٖ (26) فَقَرَّبَهُۥٓ إِلَيۡهِمۡ قَالَ أَلَا تَأۡكُلُونَ (27) فَأَوۡجَسَ مِنۡهُمۡ خِيفَةٗۖ قَالُواْ لَا تَخَفۡۖ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَٰمٍ عَلِيمٖ (28) فَأَقۡبَلَتِ ٱمۡرَأَتُهُۥ فِي صَرَّةٖ فَصَكَّتۡ وَجۡهَهَا وَقَالَتۡ عَجُوزٌ عَقِيمٞ (29) قَالُواْ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡعَلِيمُ (30) ۞قَالَ فَمَا خَطۡبُكُمۡ أَيُّهَا ٱلۡمُرۡسَلُونَ (31) قَالُوٓاْ إِنَّآ أُرۡسِلۡنَآ إِلَىٰ قَوۡمٖ مُّجۡرِمِينَ (32) لِنُرۡسِلَ عَلَيۡهِمۡ حِجَارَةٗ مِّن طِينٖ (33) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلۡمُسۡرِفِينَ (34) فَأَخۡرَجۡنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدۡنَا فِيهَا غَيۡرَ بَيۡتٖ مِّنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ (36) وَتَرَكۡنَا فِيهَآ ءَايَةٗ لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلۡعَذَابَ ٱلۡأَلِيمَ (37))-الذاريات
هذا إخبار من الله تعالى عن سيدنا إبراهيم عليه السلام، ولأنه خبر هام وعجيب بدأه الحق سبحانه بهذا الاستفهام { هَلْ أَتَاكَ .. } [الذاريات: 24] وهل تلازم دائماً الشيء العجيب الذي يستحق أنْ نلتفت إليه.
ويشوِّقنا الحق سبحانه إلى معرفته، كما في قوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الصف: 10] يُشوِّقنا لنقول: نعم يا رب دلنا.
ولأن قصة ضيف سيدنا إبراهيم قصة عجيبة قال الله عنها { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ .. } [الذاريات: 24] أي نبأ { ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ } [الذاريات: 24].
وسيدنا إبراهيم أبو الأنبياء كرَّمه الله بقوله: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً .. } [النحل: 120] لأن فيه من الفضائل ومن خصال الخير ما يوجد في أمة بأكملها، لأن الله تعالى وزع الفضائل على الخَلْق جميعاً، فأنت لك فضيلة، وغيرك له فضيلة ثانية وثالثة وهكذا.
هذا ليتكاتف الخَلْق ويتعاون الناس، وإلا لاستغنى بعضنا عن بعض ولحدث التفكك في المجتمع، لذلك تجد العاقل لا يحتقر أحداً مهما رأى نفسه أفضل منه لأنه يعلم ميزان المساواة بين الخَلْق في هذه الفضائل، فيقول في نفسه: إنْ كنت أفضل منه في شيء فلا بدَّ أنه أفضل مني في شيء آخر.
والإمام علي رضي الله عنه يقول: عندما ترى مَنْ هو أدنى منك في شيء فتحَسّر، لأنك لا تعرف الفضيلة التي فضَّل بها عليك، ولا بدَّ للخَلْق أنْ يعي هذه الحقيقة لأنهم أمام الله سواسية، والله تعالى لم يلد ولم يولد، وخَلْقه عنده سواء، لا يتفاضلون إلا بالتقوى والعمل الصالح.
كلمة { حَدِيثُ .. } [الذاريات: 24] يعني الخبر المتداول، وفيه حقيقة أو حكمة، لذلك يتداوله الناسُ ويهتمون به { ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ .. } [الذاريات: 24] جاءت كلمة (ضيف) مفردة مع أنهم كانوا جمعاً من الملائكة، فلم يقل ضيوف ولا أضياف، إنما اختار اللفظ المفرد، فقال: (ضيف).
قالوا: لأن (ضيف) تُطلق على المفرد والمثنى والجمع ممَّنْ استدعيته إلى بيتك أو جاءك فصار ضيفاً عليك، والمستضيف ينبغي أنْ يعامل الأضيافَ جميعاً معاملة واحدة ويستقبلهم بوجه واحد لا يُفضل أحداً على أحد، ولا يحتفي بأحد دون الآخر.
فكأنهم عنده شخص واحد لا يميز أحداً، لا في مجلسه ولا في نظره إليهم، لذلك عبَّر القرآن عنهم بصيغة المفرد، فهم في حكم الرجل الواحد.
وقد علمنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدرس، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يُسوي بين جُلسائه حتى في نظره إليهم حتى ليظن كل منهم أنه لا يوجد في المجلس غيره.
وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة تستخدم المفرد وتريد به الجماعة، ذلك حينما يكون توجههم واحداً وهدفهم واحداً، وحينما يجتمعون على أمر الله، وأمر الله دائماً واحد لا اختلافَ فيه، والجماعة حينئذ في حكم الواحد.
اقرأ هذا مثلاً في قوله تعالى في قصة سيدنا موسى وسيدنا هارون { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 16].
إذن: ضيف يعني أضياف، ومعنى { ٱلْمُكْرَمِينَ } [الذاريات: 24] جمع مكرم، وهو الذي يقع عليه الكرم من غيره، والفاعل مُكرِم والمفعول مُكرَم، فوصف الملائكة بأنهم مكرمون فمَنْ أكرمهم؟
قالوا: لها معنيان: أكرمهم الله تعالى كما قال سبحانه: { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [الأنبياء: 26-27].
أو مُكرمون أكرمهم سيدنا إبراهيم حينما أعدَّ لهم طعاماً وباشر خدمتهم بنفسه لا بعبيده، وجعل امرأته تشاركه في خدمتهم، مع أن المرأة مستورة وأكرمهم بأن بادرهم بالتحية.
ثم إنه لم يقدم لهم الطعام الحاضر، إنما أكرمهم وذبح لهم عجلاً مرة وصفه بأنه سمين، ومرة وصفه بأنه حنيذ وهذا كمال في الوصف، فهو سمين في ذاته. أي: ليس هزيلاً في تكوينه. وهو حنيذ، والحنيذ هو أفضل أنواع الشواء عندهم، فهو من حيث طريقة طهيه حنيذ مشوي، وهذا منتهى الإكرام.
وقوله: { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ .. } [الذاريات: 25] أي: الملائكة في صورة بشر { فَقَالُواْ سَلاَماً .. } [الذاريات: 25] فردّ عليهم { سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } [الذاريات: 25] أي: غير معروفين لنا، ويقال: إنه قالها في نفسه ولم يجهر بها.
ونلاحظ هنا فرقاً بين سلام الملائكة وردّ السلام من سيدنا إبراهيم، لأنهم حيَّوْه بقولهم { سَلاَماً .. } [الذاريات: 25] هكذا بالنصب فردَّ عليهم { سَلاَمٌ .. } [الذاريات: 25] بالرفع، هم بادروه بالسلام، لأن القادم قد يخشى المقدوم عليه منه، فبادروه بالسلام ليأمن جانبهم.
وكلمة { سَلاَماً .. } [الذاريات: 25] بالنصب دلَّتْ على أنها مفعول لفعل مقدّر أي: نسلم عليك سلاماً، والجملة الفعلية تدل دائماً على حدث سيحدث، وهو الأمر الذي جاءوا من أجله.
أما ردُّ السلام فكان بالرفع { سَلاَمٌ .. } [الذاريات: 25] أي: سلام عليكم، فهي جملة اسمية، والجملة الاسمية تدلُّ على الثبوت، وهو حال المستقبل سيدنا إبراهيم.
معنى { فَرَاغَ إِلَىٰ أَهْلِهِ .. } [الذاريات: 26] أي: ذهب خُفْية من الضيوف إلى امرأته، لأن العادة ساعة يدخل الضيف يقوم المضيف ليعدَّ له ما يكرمه به، فيقول له الضيف: اجلس والله ما أنت قايم، لذلك تسلَّل سيدنا إبراهيم خُفْية من أضيافه ليُعدَّ لهم الطعام دون أنْ يشعروا به، ودون أنْ يقولوا له اجلس لا نريد شيئاً.
فلما جاءهم بالعجل السمين المشوي قرَّبه إليهم وقدَّمه أمامهم ليأكلوا، فرأى أنهم لا يُقبلون على الطعام كعادة الناس، قال لهم { أَلاَ تَأْكُلُونَ } [الذاريات: 27] يحثهم على الأكل، لكنهم لم يأكلوا ولم تمتدَّ أيديهم إلى الطعام فأحسَّ بالخوف منهم:{ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ}.
لما بدت على إبراهيم علامات الخوف بادرته الملائكة تُطمئنه { لاَ تَخَفْ .. } [الذاريات: 28] ثم بشَّروه بغلام عليم هو سيدنا إسحاق، ووصفه بأنه عليم يعني يبلغ في العلم مبلغاً، لكن كيف ذلك وسيدنا إبراهيم رجلٌ عجوز وامرأته سارة عقيم لا تلد.
{ فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ .. } [الذاريات: 29] في ضجة وصيحة شديدة { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا .. } [الذاريات: 29] لطمتْه مُتعجبة من هذه البشرى { وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } [الذاريات: 29] يعني: كيف ألد وأنا عجوز عقيم.
إذن: قاستْ المسألة بمقياس الأسباب البشرية، فالأسباب البشرية تقول أنها مستحيل أنْ تلد، لكن لله تعالى مقياساً آخر، ولقدرة الله كلام آخر نطقتْ به ملائكة الله.
{ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ } [الذاريات: 30] كلمة { كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ .. } [الذاريات: 30] يعني: ما دام قد قال سبحانه فهو أمر واقع لا شكَّ فيه، لأن قدرة الله فوق الأسباب.
وهذا التعجب من السيدة سارة لما بُشِّرتْ بإسحاق، رأيناه من السيدة مريم لما بُشِّرت بعيسى عليه السلام { قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ .. } [آل عمران: 47].
وقوله تعالى: { إِنَّهُ هُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ } [الذاريات: 30] الحكيم الذي يضع الشيء في موضعه، والعليم هو الذي يحيط علمه بكل شيء، ويعلم أنه إذا أمر بشيء أطاعه ولم يمتنع عليه.
(قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ *قَالُوۤاْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ *لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ *مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ )
{ قَالَ .. } [الذاريات: 31] أي: سيدنا إبراهيم عليه السلام للقوم الذين دخلوا عليه { فَمَا خَطْبُكُمْ .. } [الذاريات: 31] يعني: ما شأنكم؟ وما حكايتكم؟ وما الأمر الخطير الذي جئتم من أجله؟ كلمة الخطب تدل على الأمر الخطير وحدث هام أراد أنْ يعرف ما هو وهل هو متعلق به أم بغيره؟
وهذا الكلمة جاءت بهذا المعنى أيضاً في قوله تعالى في قصة سيدنا يوسف: { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ .. } [يوسف: 51] أي: الأمر العجيب الذي حملكن على هذا الفعل.
وقالها سيدنا موسى لما رأى ابنتيْ سيدنا شعيب قد خرجتا لسَقْي الغنم { قَالَ مَا خَطْبُكُمَا .. } [القصص: 23] أي: ما الذي ألجأكنَّ للخروج، فكأنه أمر عجيب غير عادي. إذن: هذه الكلمة وُضِعت للأمر الخطير الذي يدعو إلى الدهشة والتعجب.
فردَّ الملائكة { قَالُوۤاْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } [الذاريات: 32] وهنا اطمأن سيدنا إبراهيم، وعرف أن الأمر لا يتعلق به، والقوم المجرمون في هذا الوقت هم قوم لوط، ثم بيَّنوا مهمتهم { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } [الذاريات: 33].
ومفهوم أن الحجارة تختلف عن الطين، الحجارة فيها صلابة وقساوة تختلف قوة وصلابة حسب نوع الحجر بداية من المرمر، ثم الجرانيت والرخام والجير.
فكيف تكون الحجارة من طين، وهما وصفان في الظاهر متناقضان؟ قالوا: هو طين أحْمِي عليه في النار حتى صار صَلْباً قاسياً، كما نفعل مثلاً في صناعة الفخار.
ومعنى { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } [الذاريات: 34] أي: مُعلَّمة، فكلُّ حجر منها يحمل اسم صاحبه وعنوانه، فهو مُخصص له لا لغيره ومُوجَّه إليه لا يخطئه.
وقوله { عِندَ رَبِّكَ .. } [الذاريات: 34] دلّ على أنها نزلتْ من السماء وليستْ من حجارة الأرض، وأنها مُعلَّمة من عند الله جاءت هكذا جاهزة، ونحن مهمتنا أنْ نرميهم بها بأسماء أصحابها، فلا يختلط حجر بحجر.
ومعنى { لِلْمُسْرِفِينَ } [الذاريات: 34] المسرف هو الذي تجاوز الحدَّ في المعصية فكأن هناك حدوداً للأمور، وحدوداً للحلال وحدوداً للحرام، وقد بيَّنها الحق سبحانه، وعلَّمنا كيف نقف عند هذه الحدود، فقال تعالى في الحلال { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا .. } [البقرة: 229].
وقال في الحرام { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا .. } [البقرة: 187] أي: قِفْ عند حدود الحلال لا تتجاوزه إلى غيره، أما الحرام فإياك أنْ تقربه. احذر مجرد الاقتراب منه، لأنك لو اقتربتَ منه تُوشك أنْ تقع فيه فهي حماية لك.
كما قال سبحانه لآدم { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ .. } [البقرة: 35] وقال { وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ .. } [الإسراء: 32] ففي الحرام لا يمنعنا من الفعل، بل يمنعنا من الاقتراب من أسبابه.
ففي أيِّ شيء أسرف هؤلاء المجرمون المسرفون؟ أسرفوا في فعل مُحرَّم يناقض الطبيعة النقية التي خلقها الله؛ لأن الله تعالى لما أراد أنْ يجعل خليفة في الأرض خلق آدم وخلق معه زوجه ليتم التكاثر، وتأتي القبائل التي تعمر الأرض، لأن عمارتها لا تقوم بواحد أو اثنين إنما تحتاج إلى جمهرة من الناس.
ثم جعل التكاثر أيضاً في كل شيء يريد له النمو والاستمرار ليخدم هذا الخليفة { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ .. } [الذاريات: 49].
فإذا كان الإنسانُ سيتكاثر فلا بدَّ أنْ تكبر رقعة الأرض التي يعيش عليها ويتكاثر النبات الذي يعيش عليه، قال تعالى: { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً .. } [النساء: 1] إذن: نحتاج إلى زرع يتناسب وهذه الزيادة.
والمتأمل في مسألة التكاثر هذه في النبات وفي الإنسان يجدها بحسب أهمية الشيء ومدى الاستفادة منه والانتفاع به. قلنا مثلاً: حينما تزرع الفجل يمكن أنْ تأكل منه بعد عشرة أيام، والخيار بعد أربعين يوماً. والتمر بعد أربعة أعوام.
فكل شيء قبل أن يعطيك يأخذ منك على قدر أهميته، فإنْ أردتَ الإنسان فإنه ولا شكَّ يحتاج إلى كثير من الجهود والتبعات، لذلك ربطه الخالق سبحانه في مسألة التكاثر بلذة جامحة تفوق كلَّ لذة أخرى يشعر بها الإنسانُ في كُلِّ جوارحه تفوق لذة العين حين ترى، والأذن حين تسمع، واللسان حينما يتذوق، والأنف حينما يشم، واليد حينما تلمس، لأن الجوارح لكل منها مهمته ووجهته.
أما لذة الجنس فهي تستغرق الجوارح كلها، ولولا أن الخالق سبحانه ربط التكاثر بهذه اللذة ما أقبل أحدٌ عليه ولا تحمَّل تبعاته.
ولك أنْ تتصور الفرق بين تربية طفل وتربية حَمَل أو عجل مثلاً، الحَمَل يقوم ويمشي خلف أمه بعد عدة دقائق من ولادته، والطفل يمشي بعد عام ونصف العام.
ومَشْيه يأتي على مراحل، فبعد عدة شهور يستطيع أنْ يجلس، وبعد عدة شهور أخرى يحبو ثم يقف ثم يمشي.
لذلك نرى طفولة الإنسان أطول طفولة في المخلوقات كلها، ومن هنا ربط الخالق سبحانه عملية التكاثر في الإنسان بهذه اللذة الجارفة التي لا يستطيع الإنسانُ مقاومتها لتكون حافزاً له على التكاثر، وإلا ما أقبل على تحمُّل هذه المسئولية وهذه المعاناة.
ومن هنا أيضاً اهتم الإسلام بتكوين الأسرة، ووضع لها من الضوابط ما يكفل لها النجاح، فهذه الغريزة لا تأتي هكذا كما في الحيوانات، إنما جعل لها قواعد لاختيار الزوجة الصالحة، وحَثَّ على اختيار ذات الدِّين، وجعل فترة للخطوبة ليتعرَّف كلُّ طرف على الآخر.
وأباح لكل منهما أنْ ينظر إلى الآخر ليختار كلٌّ من الزوجين ما يناسبه ويُرضى ذوقه ورغبته في الجنس الآخر، ثم شرع المهر وعقد القرآن، كل ذلك لتكون نواة الأسرة قوية متينة، مُعدَّة لاستقبال الحياة بكلِّ ما فيها من تبعات ومسئوليات.
والجريمة التي ارتكبها هؤلاء القوم واستحقوا بها ما حاق بهم من ألوان العذاب أنهم صرفوا هذه الغريزة التي جعلها الله في الإنسان عن وجهها الحلال إلى وجه آخر محرم لا فائدة منه ولا ثمرةَ له.
وجه ينافي الفطرة السليمة والأذواق المستقيمة، فكانوا يأتون الذكران بدل أنْ يأتوا النساء كما أحل الله، ومعلوم أن الإتيان مقصور على مكان الحرث والاستنبات. { { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ .. } [البقرة: 223].
إذن: فعلتهم هذه كانت إسرافاً منهم على أنفسهم، ومجاوزة للحد الذي شرعه الله، والإتيان في غير المحلِّ يستوي فيه إتيان الرجل وإتيان المرأة فكله محرم.
ولما كان هذا الفعل زنا يستحق الرجم رجمهم الله لا بحجارة من الأرض، إنما بحجارة من السماء تنزل على كلِّ واحد منهم باسمه تخصُّه دون غيره، بحيث لم تُبْقِ منهم أحداً وأبادتهم عن بَكْرة أبيهم.
(فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ *فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ *وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ )
أي: قبل أنْ ينزل بهم العذاب أخرجنا مَنْ كان في القرية من المؤمنين، والمعنى: ما قلنا لهم اخرجوا، إنما هيأنا لهم سبيل الخروج بخواطر قذفناها في نفوسهم، فخرجوا ولم يُصبْهم العذاب.
{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا } [الذاريات: 36] أي: في القرية { غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [الذاريات: 36] إذن: تكلم أولاً عن المؤمنين ثم عن المسلمين، ومعلوم أن الإيمان أعم من الإسلام، فالإيمان أمر عقديّ، والإسلام أمر سلوكي، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً.
والإيمان والإسلام يلتقيان في أنك لا تُسلم زمامك في التكليف إلا لمَنْ آمنتَ بحكمته في التكليف، أما إنْ نافق المؤمنُ أو راءى فموضوع آخر، لذلك قال تعالى: { قَالَتِ ٱلأَعْرَابُ آمَنَّا .. } [الحجرات: 14] فردَّ عليهم { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـٰكِن قُولُوۤاْ أَسْلَمْنَا .. } [الحجرات: 14] أي: الإسلام الظاهري { وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ .. } [الحجرات: 14].
إذن: هنا قال في الناجين المؤمنين والمسلمين، وفي موضع آخر قال: { إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَابِرينَ } [العنكبوت: 33] لأن الأهلية على حقيقتها ليستْ أهلية الدم والنسب، إنما أهلية الدعوة، أهلية اتباع بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سلمانُ منَّا أهل البيت" .
وسيدنا نوح لما قال لربه عز وجل: { رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي .. } [هود: 45] قال له: { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ .. } [هود: 46].
وقوله سبحانه: { وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } [الذاريات: 37] أي: في القرية والمكان الذي حدثت فيه هذه العملية، قالوا: الآية الباقية بعد هلاكهم هي الحجارة التي أهلكهم الله بها ما تزال موجودة، ومَنْ يراها يقول: هذه ليست من حجارة الأرض، بل هي نوع آخر هي الحجارة التي نزلتْ على هؤلاء المجرمين فأهلكهم الله بها. وهكذا تظل هذه الآية باقية لردْع كلّ مَنْ تُسوِّل له نفسه أنْ يفعل فعلهم.
وقالوا: بل الآية التي تركها الله شاهداً عليهم هي عَيْنٌ مُنتنة، لا يطيق الإنسانُ أنْ يشمَّها.
التفاسير العظيمة