من درر العلامة ابن القيم عن الصدق والكذب
فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فالصدق والكذب من الموضوعات التي تكلم عنها العلَّامة ابن القيم رحمه الله في عدد من كتبه، وقد جمعتُ بفضلٍ من الله وكرمه بعضًا مما ذكره، أسأل الله الكريم أن ينفع بها الجميع.
[ كتاب: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح]
الكذب مفتاح النفاق:
وجعل الكذب: مفتاح النفاق.
[ كتاب: أعلام الموقعين عن رب العالمين]
القول الثابت هو القول الحق والصدق:
قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾ [النساء: 66]، فأثبَتُ الناس قلبًا أثبتُهم قولًا، والقول الثابت هو القول الحق والصدق.
الكاذب من أمهن الناس:
الكاذب من أمهن الناس وأجبنهم وأكثرهم تلوُّنًا وأقلهم ثباتًا.
الكذب له تأثير عجيب في سواد الوجه:
شرُّ ما في المرء لسان كذوب؛ ولهذا يجعل الله سبحانه شعار الكاذب يوم القيامة، وشعار الكاذب على رسوله سواد وجهه، والكذب له تأثير عجيب في سواد الوجه، ويكسوه برقعًا من المقت يراه كل صادق، ولا سيما الكذاب في وجهه يُنادى عليه لمن له عينان، والصادق يرزقه الله مهابةً وحلاوةً، فمن رآه هابه وأحبَّه، والكاذب يرزقه مهانةً ومقتًا، فمن رآه احتقره.
[كتاب: مدارج السالكين في منازل السائرين]
الصدق منزلة القوم العظمى:
منزلة الصدق، وهي منزلة القوم العظمى الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم الذي من لم يسِرْ عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميَّز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران.
وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيءٍ إلا قطعه، ولا واجه باطلًا إلا أرداه وصَرَعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به عَلَتْ على الخصومِ كَلِمتُه.
الصادق مع أهل الرفيق الأعلى:
وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين، وخصَّ المنعم عليهم من النبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، فقال: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]، وقال:﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ﴾[النساء: 69] فهم أهل الرفيق الأعلى﴿ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69].
مطلوب الصادق رضا ربه:
الصادق مطلوبه: رضا ربه، وتنفيذ أوامره، وتتَبُّع محابِّه، فهو متقلِّب فيها، يسير معها أين توجَّهت ركائبها، ويستقل معها أنَّى استقلَّت مضاربها، فبينا هو في صلاة إذ رأيته في ذكرٍ، ثم في غزوةٍ، ثم في حجٍّ، ثم في إحسان للخلق بالتعليم وغيره من أنواع النفع، ثم أمرٍ في معروفٍ، أو نهي عن منكرٍ، أو قيام بسببٍ فيه عمارة للدين والدنيا.
حمل الصدق كحمل الجبال الرواسي، لا يطيقه إلا أصحاب العزائم.
لا ينفع ولا ينجي من العذاب يوم القيامة إلا الصدق:
وأخبر سبحانه أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد ويُنْجيه من عذابه إلا صِدْقُه، قال الله تعالى: ﴿ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾[المائدة: 119].
وقال جل وعلا: ﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الزمر: 34، 35]، فالذي جاء بالصدق هو من شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله، فالصِّدْق في هذه الثلاثة.
الصديق لا تُخطئ فراسته:
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: إذا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق، فإنهم جواسيس القلوب، يدخلون في قلوبكم ويخرجون من حيث لا تحتسبون.
ويقال في بعض الكتب القديمة: إن الصديق لا تُخطئ فراسته.
وكان الصدِّيق رضي الله عنه أعظم الأمة فراسةً، وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووقائع فراسته مشهورة، فإنه ما قال لشيءٍ: "أظنه كذا" إلا كان كما قال.
من علامات الصدق:
ومن علامات الصدق: طمأنينة القلب إليه، ومن علامات الكذب: حصول الريبة، كما في الترمذي مرفوعًا من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما: ((الصدق طمأنينة، والكذب ريبة)).
تمرين النفس على الصدق:
من منازل ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5] الرياضة، وهي تمرين النفس على الصدق.
قال صاحب المنازل رحمه الله: "وهي تمرين النفس على قبول الصدق" وإرادته، فإذا عرض عليها الصدق قبلته وانقادت له وأذعنت له.
والثاني: قبول الحق ممن عرضه عليه، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [الزمر: 33]، فلا يكفي صدقك، بل لا بد من صدقك وتصديقك للصادقين، فكثير من الناس يصدُق، ولكن يمنعه من التصديق كبر أو حسد أو غير ذلك.
[كتاب: الكلام على مسألة السماع]
أظهر السمات على الوجوه سمة الصدق والكذب:
أظهر السمات على الوجوه سمة الصدق والكذب، فإن الكذَّاب يُكسى وجهه من السواد بحسب كذبه، والصادق يُكسى وجهه من البياض بحسب صدقه.
وهذا أمر محسوس لمن له قلب، فإن ما في القلب من النور والظلمة والخير والشر يسري كثيرًا إلى الوجه والعين، وهما أعظم الأعضاء ارتباطًا بالقلب.
وتأمل قوله تعالى:﴿ فَلَعَرَفْتَهُم ْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّ هُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ﴾[محمد: 30]، فهذا قسم محقق لا شرط فيه، وذلك أن ظهور ما في قلب الإنسان على لسانه أعظمُ من ظهوره على وجهه، لكنه يبدو بُدوًّا خفيًّا يراه الله، ثم يقوى حتى تصير صفةً في الوجه يراها أصحاب الفراسة، ثم يقوى حتى يظهر لجمهور الناس.
[كتاب: الفوائد]
خطورة الكذب وأثره في فساد الأعمال:
إياك والكذب، فإنه يفسد عليك تصوُّر المعلومات على ما هي عليه، ويُفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس.
فإن الكاذب يُصورُ المعدوم موجودًا والموجود معدومًا، والحقَّ باطلًا، والباطلَ حقًّا، والخير شرًّا، والشرَّ خيرًا، فيفسُدُ عليه تصوُّره وعلمه عقوبةً له، ثم يُصور ذلك في نفس المخاطب المغتر به الراكن إليه، فيفسدُ عليه تصوُّره وعلمه.
وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده، ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها...فيعُم الذنب أقواله وأعماله وأحواله، فيستحكم عليه الفساد ويترامى داؤه إلى الهلكة إن لم يتداركه الله بدواء الصدق يقلعُ تلك المادة من أصلها؛ ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق، وأضدادها من الرياء والعُجْب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجُبْن والمهانة وغيرها أصل الكذب، فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤه الصدق، وكل عمل فاسدٍ ظاهرٍ أو باطن فمنشؤه الكذبُ، والله يعاقب الكذَّاب بأن يقعده ويُثبطه عن مصالحه ومنافعه، ويُثيب الصادقَ بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق، ولا مفاسدهما ومضارهما بمثل الكذب.
[كتاب: تحفة المودود بأحكام المولود]
تربية الأبناء على تجنُّب الكذب:
من أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدًى، فقد أساء إليه غاية الإساءة... وينبغي لوليِّه.... أن يجنبه الكذب والخيانة أعظم مما يجنبه السم الناقع؛ فإنه متى سهل له سبيل الكذب والخيانة، أفسد عليه سعادة الدنيا والآخرة وحرمه كل خير.
[كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد]
الصدقُ بريدُ الإيمان، ودليله، ومركبه، وسائقه، وقائده، وحليته، ولباسه:
عظم مقدار الصدق، وتعليق سعادة الدنيا والآخرة والنجاة من شرهما به، فما أنجى الله من أنجاه إلا بالصدق، ولا أهلك من أهلكه إلا بالكذب، وقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين، فقال: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119].
وقد قسم سبحانه الخلق إلى قسمين: سعداء، وأشقياء، فجعل السعداء هم أهل الصدق والتصديق، والأشقياء هم أهل الكذب والتكذيب، وهو تقسيم حاصر مطرد منعكس، فالسعادة دائرة مع الصدق والتصديق، والشقاوة دائرة مع الكذب والتكذيب.
وأخبر سبحانه وتعالى: أنه لا ينفع العباد يوم القيامة إلا صدقهم، وجعل علم المنافقين الذين تميَّزوا به هو الكذب في أقوالهم وأفعالهم، فجميع ما نعاه عليهم أصلُه الكذب في القول والفعل، فالصدق بريد الإيمان، ودليله، ومركبه، وسائقه، وقائده، وحليته، ولباسه، ولُبُّه، فمضاده الكذب للإيمان كمضاد الشرك للتوحيد، فلا يجتمع الكذب والإيمان إلا ويطرد أحدهما صاحبه، ويستقر موضعه. فما أنعم الله على عبد بعد الإسلام بنعمة أفضل من الصدق الذي هو غذاء الإسلام وحياته، ولا ابتلاه ببلية أعظم من الكذب الذي هو مرض الإسلام وفساده، والله أعلم.