هل أصبح تذكير الأمة الإسلامية بالمبشِّرات منهجاً غائباً!!

د. تيسير بن سعد بن راشد أبو حيمد




المتأمل لوسائل الإعلام يلحظ وبجلاء تامٍّ التسابقَ المحمومَ بين تلك الوسائل لنشر الأخبار والأحداث والوقائع ومتابعتها، وأصبح الواحد منا يسمع ما بين عشية وضُحاها عشرات الأخبار المروعة عن أمتنا وعالمنا الإسلامي، وإن المتابع لأحوال المسلمين في شتى بقاع الأرض ليأسى أشدَّ الأسى لما يتعرَّض له إخواننا في كل مكان.

وفي خضمِّ هذا السيل الجارف من الأخبار تُعقد المؤتمرات، وتُقام الندوات والمحاضرات، وتُكتب المقالات، وتُؤلَّف الكتب، وتَنشط كثير مِن مواقع الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، وتكثُر رسائل الجوَّال وتنتشر، وتستفيض الردود والمحاورات للحديث عن تلك الأخبار والمآسي وتحليلها، وهي ظاهرة جيدة ولا شكَّ، ولكن يغيب عنها بشكل أو بآخر تذكير الأمَّة الإسلامية بالمبشرات الواردة في الكتاب والسنة مِن نصرة لهذا الدين وظهوره، وأنه محفوظ بحفظ الله له، ونصرة المسلمين. ومن العجيب أن بعضهم قد يورد تلك المبشِّرات على استحياء في آخر الحديث!!

إن منهج ربط الأمة بالمبشرات وتذكيرها بها؛ ليس عبارات تُسرَد سردًا وتُهَذُّ هَذًّا لتلطيف الأجواء، بل هي صلب الموضوع ولبُّه الذي ينبغي البدء به. إن العاقل الحصيف هو مَن يستطيع أن يوظِّف تلك المآسي لتكون ضمن المبشِّرات، وحتى لا يقع في المحذور الشرعي الوارد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا قال الرجلُ هَلَكَ الناسُ فهو أهلكهم)).

وقوله: ((أهلكُهُم)) بضمِّ الكاف على الرفع؛ يعني: أنه هو أشدُّهم هلاكًا، وبفتحها على النصب بمعنى: أنه بقوله هذا كان سببًا في هلاكهم، والحديث في صحيح الإمام مسلم وغيره.

إنَّ ربطَ الأمَّة بالمبشِّرات جزءٌ مِن العلاج؛ بل قد يكون هو أصل العلاج، كيف لا وهو منهج قرآني نبوي تضافرَت نصوص الوَحْيَيْن على ذكْره بشتى صُوَرِه وأنواعه؛ العامِّ منها والخاصِّ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128]، وقال: ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [الصافات: 171 - 173]، وقال تعالى عن موسى عليه السلام وقومه: ﴿ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 61، 62].

وفي شأن نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم حين اختبائِه في الغار مع أبي بكر رضي الله عنه أثناء الهجرة، قال أبوبكر: "لو أن أحدَهم رفَع قدمَه رآنا"، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ما ظنُّك باثنين اللهُ ثالثُهما؟))، فأنزل الله في ذلك: ﴿ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40].

إنَّ تذكير الأمَّة بالمبشرات مطلَب مُلِحٌّ في كل وقت، وبالأخصِّ عند اشتداد الأزمات، وتوالي المآسي والنكبات، قال تعالى في بداية سورة القصص عند اشتداد أذى فرعون ومن معه على موسى عليه السلام وقومه: ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 4]، ثم قال تعالى بعد ذلك كله - واستمِع للمبشرات والوعد الصادق-: ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ [القصص: 5، 6].

إنه منهج تعليق الأمَّة بخالقها، والمعرفة التامَّة بأن هذا الدين هو دين الله، وهو منصور وظاهر بنا أو بغيرنا، ولكن الشأن في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38].

يا لله، العجب، الداخلون الجدد في الإسلام كيف دخلوا؟ ما سبب الهجمات الشرسة المتتالية على هذا الدين، والتطاولِ على نبي الأمة وعلى المسلمين؟ ما سر الإحصائيات الغربية المتتالية والمُحذِّرة مِن انتشار الإسلام، وزيادة أتباعه خصوصا في هذا الزمان؟ ألا يدعو ذلك كلُّه للتأمُّل والتفكُّر؟! وصدَق النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ((لا يبقى على الأرض بيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله اللهُ الإسلام بِعِزِّ عزيز، أو بذُلِّ ذليلٍ))، وفي بعض ألفاظ هذا الحديث مِن طُرق أخرى: ((إما يُعِزُّهم اللهُ فيجعلهم مِن أهلها، أو يُذِلُّهم فيَدينون لها)). ومعنى قوله: ((بيتُ مَدَرٍ)) أي: أهل المدن والقرى، والوَبَر: أهل البوادي.

إن الجسد قد يمرض وتعتريه الآفات، وهذا شر في حد ذاته؛ لكنه مِن جهة أخرى فيه نفع وخير؛ لينتبه صاحب هذا الجسد، وليعرف أسباب مرضِه، بل قد يستفيد هذا الجسدُ مِن ذلك المرض بتخلُّصِه مِن أخلاط رديئة، لم يُمْكنه التخلص منها إلا بعد أصابته بذلك المرض، وللإمام ابن القيم رحمه الله كلامٌ جميلٌ في هذا.

ومن المفيد جدًّا أثناء الحديث عن مآسي الأمَّة الإسلامية، وتذكيرها بالمبشرات: تعليقُها بخالقها، وتذكيرُها بسُنَنِ اللهِ الكونية التي لا تُحابي أحدًا كائنًا ما كان، وتنبيهها إلى أهمية الأخذ بالأسباب المشروعة، وفيما تقدم مِن النصوص دلالة كافية على تأكيد هذا المنهج المتكامل وتأصيله.