﴿ لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ﴾

د. خالد النجار

قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 118 - 120].


لما أخبر تعالى عن مصير الكافرين في الآخرة، وأن ذلك المصير الْمُظْلِمَ كان نتيجة كفرهم وظلمهم، حذَّر المؤمنين من موالاتهم دون المؤمنين، وهو أيضًا متصل بما سبق من قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 100].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ بالله ربًّا، وبالإِسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، وصدَّر النداء بوصف الإيمان للإشارة إلى أن مقتضى الإيمان ألَّا يستعينوا بأولئك الذين كفروا بآيات الله تعالى، وجحدوا بها واستيقنَتْها أنفسهم، فقضية إيمانكم وكفرهم تُوجِب ألَّا تأمنوهم في خاصة أموركم.

وقيل: تصديره بالنداء يدل على أهميته والتنبُّه له، وتوجيهه إلى المؤمنين للحث على الامتثال، كأنه يقول: إن كنتم مؤمنين، فافعلوا كذا وكذا، وإن كنتم مؤمنين، فلا تفعلوا كذا وكذا، ففيه توجيه للمؤمنين، وإغراء بالامتثال.

كما أن امتثالهم من مقتضيات الإيمان؛ لأنه لا يُخاطَب الشخص بوصفٍ ثم يُوجَّه إليه حُكمٌ متعلق بهذا الوصف، إلا كان ذلك دليلًا على أن امتثال هذا الحكم من مقتضيات الإيمان؛ لأنه لا يصح أن تُوجَّه لفاسق كلمة تتعلق بالمؤمن، وبالمقابل أيضًا فإن الإخلال به نقصٌ في الإيمان.

﴿ لَا ﴾ الناهية ﴿ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً ﴾ بطانة الرجل: خاصَّتُه الذين يعرِفون خفايا أمره، ومكنون سرِّه، ويستبطنون ما يخفى على غيرهم، فيعرِفون موضِعَ قوته وضعفه، ويتخذ منهم مستشاريه الذين يستشيرهم، ويستنصحهم إن احتاج إلى نصيحة، وأصل البِطانة خلاف الظِّهارة، وتُطلَق على الثوب الخفيِّ الذي يكون باطنًا غيرَ ظاهر، وقد استُعير اللفظ للدَّلالة على الذين يختصون بالاطلاع على باطن أمرِ الشخص، وكأنه شبَّه الذين يختصون بشؤون الشخص خفيِّها وظاهرِها ببطانة الثوب التي تلاصق الجسم أو تقاربه؛ لقوة الاتصال في كلٍّ منهما، ولأن كليهما يَمَسُّ ذاته وشخصه؛ بطانة الثوب تَمَسُّه حسًّا، وبطانة الرجل تمسه معنًى، وكما أن الأُولَى أدرانُها تكون أمكنَ في الأذى وتكون أسرع، كذلك الثانية تكون أمكن وأقوى تأثيرًا وأسرع.

قال أهل اللغة: البِطانة في الأصل داخل الثوب، وجمعها بطائن، وفي القرآن: ﴿ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ﴾ [الرحمن: 54]، وظاهر الثوب يسمى الظِّهارة، والبطانة أيضًا الثوب الذي يُجعل تحت ثوب آخر، ويسمى الشِّعار، وما فوقه الدِّثار، وفي الحديث النبوي: ((الْأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ))؛ [البخاري]، واستعمال اللفظين مجاز عن قربهم واختصاصهم وتمييزهم على غيرهم في ذلك، فأُطلقت البطانة على صديق الرجل وخصيصه الذي يطَّلع على شؤونه؛ تشبيهًا ببطانة الثياب في شدة القرب من صاحبها.

والحاصل أن بطانة الرجل ووَليجتَه: هم خاصَّة أهله الذين يطَّلعون على باطن أمره، الذي يُخفيه على الناس للمصلحة، أو مَنْ يُعرِّفه أسرارَه ثقةً به.

﴿ مِنْ دُونِكُمْ ﴾ يجوز أن تكون «من» فيه زائدة، و«دون» اسم مكان بمعنى «حولكم»، وهو الاحتمال الأظهر؛ كقوله تعالى في نظيره: ﴿ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ﴾ [التوبة: 16]، وهذا يشمل المنافقين وأهل الكتاب والكفار.

ويجوز أن تكون «من» للتبعيض، و«دون» بمعنى «غير»؛ كقوله تعالى: ﴿ فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 27]؛ أي: غير فتح مكة فتح خيبر؛ يعني من غير أهل ملتكم، وقد علِم السامعون أن المنهيَّ عن اتخاذهم بطانةً هم الذين كانوا يموِّهون إلى المؤمنين بأنهم منهم، ودخائلهم تقتضي التحذير من استبطانهم.

وعلى معنى: من سواكم، أو من غيركم؛ أي: من غير المسلمين كالكفار وأهل الكتاب، الذين لم يبلُغوا ما أنتم فيه من قوة الإيمان والإخلاص للحق، أو في السيرة وحسن المذهب؛ كما قال تعالى: ﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾ [المؤمنون: 63]؛ أي: سوى ذلك، وقوله: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [يس: 74]؛ أي: من غيره.

قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: كان رجالٌ من المؤمنين يواصلون اليهودَ لِما بينهم من القرابة والصداقة والمحالفة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال مجاهد: نَزَلَتْ في قومٍ من المؤمنين كانوا يواصِلون المنافقين فنُهوا عن ذلك.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن أبي الدِّهْقانة قال: قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن ها هنا غُلامًا من أهل الحِيرة، حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتبًا؟ فقال: قد اتخذت إذًا بطانة من دون المؤمنين.

وروى أن أبا موسى الأشعري استكتب ذِمِّيًّا، فكتب إليه عمرُ يُعنِّفه، وتلا عليه هذه الآية.

وقدم أبو موسى الأشعري على عمر رضي الله عنهما بحسابٍ، فرفعه إلى عمرَ فأعجبه، وجاء عمرَ كتابٌ، فقال لأبي موسى: أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس؟ فقال: إنه لا يدخل المسجد، فقال: لِمَ؟ أجُنُبٌ هو؟ قال: إنه نصراني، فانْتَهَرَهُ، وقال: لا تُدْنِهم وقد أقصاهم الله، ولا تُكرِمهم وقد أهانهم الله، ولا تأمَنْهُم وقد خوَّنهم الله.

وعن عمر رضي الله عنه قال: "لا تستعملوا أهل الكتاب؛ فإنهم يستحِلُّون الرُّشا، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشَون الله تعالى".

وقيل لعمر رضي الله عنه: إن ها هنا رجلًا من نصارى الحِيرة، لا أحدَ أكتبُ منه، ولا أخط بقلم، أفلا يكتب عنك؟ فقال: لا آخُذُ بطانة من دون المؤمنين.

ففي هذه الآثار مع هذه الآية دلالة على أن أهل الذَّمَّة لا يجوز استعمالهم في الكتابة، التي فيها استطالة على المسلمين، واطِّلاع على دَوَاخل أمورهم التي يُخْشَى أن يُفْشُوها إلى الأعداء من أهل الحرب.

قال القرطبي: "وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبةً وأُمناءَ، وتسوَّدوا بذلك عند الجهَلة الأغبياء من الولاة والأمراء".

قال ابن كثير: "وقد قال الحافظ أبو يعلى... عن الأزهر بن راشد قال: كانوا يأتون أنَسًا، فإذا حَدَّثهم بحديث لا يدرون ما هو، أتَوا الحسن - يعني البصري - فيُفسِّره لهم، قال: فحدَّث ذات يوم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا تَسْتَضِيئوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ، ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيًّا))، فلم يدروا ما هو، فأتَوا الحسن فقالوا له: إن أنسًا حَدَّثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تَسْتَضِيئوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ، ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيًّا))، فقال الحسن: أما قوله: ((ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيًّا))، فمحمدٌ صلى الله عليه وسلم، وأما قوله: ((لا تَسْتَضِيئوا بِنَارِ الشِّركِ)) فيقول: لا تستشيروا المشركين في أموركم، ثم قال الحسن: تصديق ذلك في كتاب الله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ﴾ [آل عمران: 118].

وهذا التفسير فيه نظر، ومعناه ظاهر: ((لا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيًّا))؛ أي: بخط عربي، لئلا يشابه نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان نَقْشُه محمد رسول الله؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنه نهى أن يَنْقُشَ أحد على نقشه.

وأما الاستضاءة بنار المشركين، فمعناه: لا تقاربوهم في المنازل بحيث تكونون معهم في بلادهم، بل تَبَاعَدُوا منهم وهَاجِروا من بلادهم؛ ولهذا روى أبو داود رحمه الله: ((لا تَتَرَاءَى نَاراهُمَا))، وفي الحديث الآخر: ((مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ أَوْ سَكَنَ مَعَهُ، فَهُوَ مِثْلُهُ))؛ فحَمْلُ الحديث على ما قاله الحسن رحمه الله، والاستشهاد عليه بالآية فيه نظر، والله أعلم؛ أ.ه.

ثم بيَّن تعالى الوصف الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال: ﴿ لَا يَألُونَكُمْ ﴾ «الأُلِي»: بمعنى بذل الجهد، ثم استُعمل مُعدًّى إلى مفعولين في قولهم: "لا آلوكَ نُصحًا"، و"لا آلوك جُهدًا" على تضمين معنى المنْعِ والنقصِ؛ أي لا أمنعك نصحًا ولا أنقصكه، فالأَلْوُ: التقصير والترك، فلا يألون جهدًا في خبالكم؛ يعني أنهم يبذلون كل جهد ولا يقصرون في إفساد الأمور عليكم.

﴿ خَبَالًا ﴾ الخَبَلُ: اختلاف الأمر وفساده، ومنه سُمِّيَ فساد العقل خبالًا؛ يعني: لا يتركون الجهد في فساد في أمور دينكم وديناكم، وإن لم يقاتلوكم في الظاهر، فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة.

﴿ وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ ﴾: أحبُّوا وتمنَّوْا عَنَتَكم؛ أي: مشقتَكم وشدةَ ضررِكم؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ﴾ [البقرة: 220]؛ أي: ألحق بكم المشقة، وقال تعالى: ﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُمْ ﴾ [التوبة: 128]؛ أي: شديد عليه ما شقَّ عليكم.

فلذا هم لا يشيرون عليكم إلا بما يُفسد عليكم أموركم، ويُسبِّب لكم الكوارث والمصائب في حياتكم.

وهذا هو الوصف الثاني، أو الحال الثانية من أحوالهم، أو العلة الثانية لعدم اتخاذهم بطانة: وهي سبب لإرادتهم البوارَ والفساد للمسلمين، فالأُولَى مظهر ونتيجة، والثانية باعث ودافع، فهم لَا يودُّون للمسلمين السعادة والرفاهية، والخير والقوة، بل يودون لهم الشقاء والتعس والأذى، وليس لعاقلٍ أن يُطلع خفايا أموره ويستنصح من لا يَوَدُّ له إلا الشر والأذى.

﴿ قَدْ بَدَتِ ﴾ ظهرت ﴿ الْبَغْضَاءُ ﴾ البغضاء: البغض الشديد المستمكن الثابت، الذي لا يتغير ولا يزول، فهي صفة ثابتة، وفرقٌ بين البُغض والبغضاء؛ فالبغض حال تقْبَلُ الزوال، وأما البغضاء فهي كراهية يبعُد زوالها، وهي على ذلك أخص من البغض المطلق؛ إذ هي بُغضٌ مقيَّد، وهي تظهر من عباراتهم وكلماتهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَتَعْرِفَنَّ هُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ﴾ [محمد: 30]؛ أي: فَلَتَات أَقْوالهم.

﴿ مِنْ ﴾ لبيان محل البُدُوِّ ﴿ أَفْوَاهِهِمْ ﴾ قد ظهرت البغضاءُ في كلامهم؛ لِما أنهم لا يتمالكون مع مبالغتهم في ضبط أنفسِهم وتحاملِهم عليها أن ينفلِتَ من ألسنتهم ما يُعلم به بغضُهم للمسلمين.

وخص تعالى الأفواهَ بالذِّكر دون الألسنة إشارة وإشعارًا بأن ما تلفَّظوا به يملأ أفواههم، كما يُقال: كلمة تملأ الفم إذا تشدَّق بها، فهُمْ فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه.

وفي هذه الآية دليلٌ على أن شهادة العدو على عدوه لا تجوز، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز، ورُوِيَ عن أبي حنيفة جواز ذلك، وحكى ابن بطال عن ابن شعبان أنه قال: أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوه في شيء وإن كان عدلًا، والعداوة تُزيل العدالة، فكيف بعداوة كافر؟

﴿ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ﴾ مما بدا لأن بُدُوَّه ليس عن رَويَّة واختيار.

أي: قد لاح على صَفَحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة، وعندهم من البغضاء في القلوب أكثر بكثير مما تُبديه الألسن ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله، مما لا يخفى مثله على لبيب عاقل.

وليس معنى ذلك أن البغضاء لا تبدو إلا في الأقوال، بل تظهر أيضًا في الأفعال، ولكن عند الفحص الدقيق، والوزن الصحيح، وإن ما يظهر على اللسان هو طفح مما امتلأ به القلب، فهي فيض الإناء وما يسيح منه، وما في الإناء أكثرُ وأغزر، وهو المادة الوفيرة التي كان منها طفح الكيل؛ ولذلك قال تعالى: ﴿ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ﴾؛ أي: ما يَطْوُون في صدورهم وتنطوي عليه نفوسهم أكثر مما يظهر؛ إذ إن ما يظهر هو الجزء الذي انبثق من الوِكاء، أو هو في الحقيقة الرشح الذي ظهر من المسامِّ التي تُخفي ما وراءها، وهذا الوصف هو في الحقيقة توبيخ لأولئك الذين يأتمنونهم، وحالهم في البغضاء ظاهرة مكشوفة، غير مخفِيَّة ولا مستورة.

وهذه الخِلال الثلاث ثابتة لهم؛ فهي صالحة للتوصيف، ولتعليل النهي؛ ذلك لأن العداوة الناشئة عن اختلاف الدين عداوة متأصِّلة، لا سيما عداوة قومٍ يَرَون هذا الدين قد أبطل دينهم، وأزال حظوظهم.

﴿ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ ﴾ أظهرناها حتى صارت بيِّنة مثل فلَقِ الصبح، ﴿ الْآيَاتِ ﴾ دلائل سوء نيات هذه البطانة، المتضمِّنة لبيان أعدائكم وأحوالهم وصفاتهم؛ لتعتبروا وتأخذوا حَيْطَتَكم.

أو قد بيِّنَّا لكم علامات عداوتهم بتلك الصفات، إن كنتم تعقلون، فتتوسمون تلك الصفات؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِ ينَ ﴾ [الحجر: 75].

ولم يَزَلِ القرآن يربِّي هذه الأمة على إعمال الفكر، والاستدلال، وتعرُّف المسبَّبات من أسبابها، في سائر أحوالها؛ في التشريع، والمعاملة؛ ليُنشِئها أُمَّةَ عِلْمٍ وفطنة.

وفيه دلالة على أن الله تعالى له عناية خاصة بالمؤمنين، يُبيِّن لهم الآيات التي قد تخفى عليهم، بل هي خافية عليهم.

وختم الله تعالى هذه الأحوال بهذا النص الكريم؛ ليدعوهم إلى التفكير فيما هم مقبلون عليه، وليدعوهم إلى الحذر وتخيُّر خاصتهم وبطانتهم، وخصوصًا الحُكَّامَ منهم؛ فإن البطانة تكون خيرًا إن حضَّت على الخير، وتكون شرًّا إن حرضت على الشر، والعميق النظرُ المدرِك المتعقِّل فيما يفعل هو الذي يدرك الأخيار من الأشرار؛ ولقد روى البخاري، والنسائي، وغيرهما، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلا اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَة إلا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأمُرُهُ بِالْخيرِ وتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأمُرُهُ بِالسُّوءِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمه اللهُ)).

﴿ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118] إن كنتم تعقِلون ما بُيِّن لكم من الآيات، فلا تتخذوا بطانة من دونكم، وقد علِم تعالى أنهم عقلاء، لكن علَّقه على هذا الشرط على سبيل الهزِّ للنفوس؛ كقولك: إن كنت رجلًا فافعل كذا.

ولكون هذه الآيات آياتِ فِراسةٍ وتوسُّم، قال: ﴿ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118]، ولم يقل: إن كنتم تعلمون أو تفقهون؛ لأن العقل أعمُّ من العلم والفقه.

والمشاهَد على مرِّ العصور والأزمنة وواقع الحال أن ذلك حقٌّ، فما وُجِدَ حاكمٌ يتخذ خاصته من غير المؤمنين، إلا إذا كان ممن غلبت عليه شهواته وأهواؤه، وأرْدَتْهُ ودولتَه، وما رأيت حاكمًا مسلمًا يتجنب هؤلاء، إلا إذا كان ممن غلب عقلُه هواه، وممن جنَّبه الله الزَّلَلَ في الحكم.

﴿ هَا أَنْتُمْ ﴾ استئناف ابتدائي، قُصِد منه المقابلة بين خُلُق الفريقين؛ فالمؤمنون يحبون أهل الكتاب، وأهل الكتاب يُبغضونهم، وكل إناء بما فيه يرشَح، والشأن أن المحبة تجلب المحبة إلا إذا اختلفت المقاصد والأخلاق.

(ها) للتنبيه، وفيها قراءتان: المد (هَا أَنْتُمْ)، أو القصر (هأنتم)، وكلاهما قراءتان سَبْعِيَّتان، ينبغي للقارئ أن يقرأ بهذه أحيانًا، وبهذه أحيانًا، إلا أمام العامة، فأمام العامة لا ينبغي أن تقرأها إلا بقراءة المصحف الذي بين أيديهم؛ لأنك لو قرأت بغير قراءة المصحف الذي بين أيديهم اتهموك بالخطأ، أو شكَّكوا في القرآن، يقولون: أنت غيَّرت كتاب الله؛ لأن العامة الدَّهْماء لا يميِّزون.

﴿ أُولَاءِ ﴾ منادى، وأصله: يا هؤلاء، حُذِفت منه هاء التنبيه لوجودها في ﴿ هَا أَنْتُمْ ﴾ قبلها، جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ صُدِّرت بحرف التنبيهِ؛ إظهارًا لكمال العنايةِ بمضمونها؛ أي: أنتم أولاءِ المخطِئون في موالاتهم.

﴿ تُحِبُّونَهُمْ ﴾ هذه البطانة الذين لا يألونكم خبالًا، والذين وَدُّوا ما عنتُّم، والذين قد بدت البغضاء من أفواههم، والذين ما تخفيه صدورهم أكبر، تحبونهم؛ وذلك لأن المؤمنين يغلُب عليهم سلامة القلب وطهارته وعدم ظن السوء في غيرهم، وكان هؤلاء يتوددون إليهم ويدَّعون أنهم يَصِلُونهم فيُحبُّهم المؤمنون بِناءً على تغريرهم بهم.

﴿ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ ﴾ نفاقًا، لا باطنًا ولا ظاهرًا، والمحبة هنا بمعنى المصافاة؛ أي: أنتم - أيها المسلمون - تصافونهم ولا يصافونكم لنفاقهم.

﴿ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ ﴾ الكتاب هنا اسم جنس يشمل جميع الكتب، تؤمنون بالكتاب؛ القرآن والتوراة، والإنجيل والزبور، وصحف إبراهيم.

﴿ كُلِّهِ ﴾؛ أي: بكتابكم وكتابهم، وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ ﴾ [البقرة: 91]، فأنتم أحقُّ بالبغضاء لهم منهم لكم.

وفيه توبيخٌ بأنهم في باطلهم أصلبُ منكم في حقكم؛ لأن المؤمنين لما آمنوا بجميع رسل الله وكتبهم، كانوا ينسُبون أهل الكتاب إلى هدًى ذَهَبَ زمانه، وأدخلوا فيه التحريف، بخلاف أهل الكتاب؛ إذ يرمقون المسلمين بعين الازدراء والضلالة واتباع ما ليس بحقٍّ، وهذان النظران - منا ومنهم - هما أصل تسامح المسلمين مع قوتهم، وتصلُّب أهل الكتابَينِ مع ضعفهم.

وقيل: هو تعجيب وليس فيه شيء من التغليظ، ولكنه مجرد إيقاظ للفئة المؤمنة.

﴿ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا ﴾ نفاقًا ومداهنة، هذا في شأن المنافقين واضح، أما في شأن الكافرين، فإنهم يُظهِرون الرضا بحكم الإسلام والاطمئنان إليه، وأنهم يريدون قوة الدولة الإسلامية وعزتها، فليس الإيمان على حقيقته، بل معناه الرضا بقبول الحكم الإسلامي.

ولم يذكروا متعلق الإيمان، ولكنَّهم يُوهِمون المؤمنين بهذا اللفظ أنهم مؤمنون.

﴿ وَإِذَا خَلَوْا ﴾؛ أي: خلا بعضهم ببعض، وانفردوا دونكم، والمعنى: خَلَتْ مجالسهم منكم، فأسند الخلوَّ إليهم على سبيل المجاز.

﴿ عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ ﴾ وعضُّ الأنامل كناية عن شدة الغيظ والتحسُّر، وإن لم يكن عضُّ أناملَ محسوسًا، ولكن كُني به عن لازمه في المتعارف، فإن الإنسان إذا اضطرب باطنه من الانفعال، صدرت عنه أفعالٌ تناسب ذاك الانفعال، فقد تكون مُعينة على دفع انفعاله؛ كقتل عدوِّه، وفي ضده تقبيل من يحبه، وقد تكون قاصرة عليه يشفي بها بعض انفعاله؛ كتخبُّط الصبي في الأرض إذا غضِب، وضرب الرجل نفسَه من الغضب، وعضِّه أصابعه من الغيظ، وقرعه سنِّه من الندم، وضرب الكف بالكف من التحسُّر، والخط في الأرض للمهموم، ومن ذلك التأوُّه والصياح ونحوها، وهي ضروب من علامات الجَزَعِ، وبعضها جِبليٌّ كالصياح، وبعضها عادي يتعارفه الناس ويكثُر بينهم، فيصيرون يفعلونه بدون تأمل.

وظاهره فِعْلُ ذلك، وأنه يقع منهم عض الأنامل لشدة الغيظ، مع عدم القدرة على إنفاذ ما يريدون.

﴿ مِنَ الْغَيْظِ ﴾ من أجله تأسفًا وتحسرًا حيث لم يجدوا إلى التشفِّي سبيلًا، وذلك أشد الغيظ والحنق، ويحتمل أن يكون العض كناية عن شدة الغيظ، بل مظهر لأعلى وأقصى درجات الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه.

﴿ قُلْ ﴾ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لمن يتأتى خطابه وهو الأقرب؛ لأنه كان يخاطب المؤمنين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾؛ يعني: قل يا أيها المؤمن لهؤلاء.

﴿ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ﴾ الباء قيل: إنها للغاية والمصاحبة؛ أي: ابقُوا على غيظكم إلى أن تموتوا، وقيل: إنها للسببية؛ أي موتوا بسبب غيظكم فإنه لا يُهِمُّنا، والثاني أقرب، فالأول دعاء عليهم ببقاء الغيظ إلى الموت، والثاني دعاء عليهم بتعجيل الموت بسبب الغيظ، فيكون هذا أقرب للصواب، وأشدَّ في التحدي والبعد عنهم، وصيغة الأمر هنا للتهكُّم عليهم.

وقيل: صورته أمر، ومعناه الخبر، والباء للحال؛ أي: تموتون ومعكم الغيظ، وهو على جهة الذم والتقريع والتوبيخ على قبيح ما عملوه.

وفي البحر المحيط: قال بعض شيوخنا: هذا ليس بأمر جازم؛ لأنه لو كان أمرًا لَماتوا من فورهم؛ كما جاء: ﴿ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ﴾ [البقرة: 243].

وليس بدعاء؛ لأنه لو أمره بالدعاء لَماتوا جميعهم على هذه الصفة، فإن دعوته لا تُرَدُّ، وقد آمن منهم بعد هذه الآية كثير.

وليس بخبرٍ؛ لأنه لو كان خبرٌ لَوَقَعَ على حكم ما أخبر به، يعني: ولم يؤمن أحد بعدُ.

وإنما هو أمر معناه التوبيخ والتقريع؛ كقوله تعالى: ﴿ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ﴾ [فصلت: 40]، وقول: ((إذا لم تَسْتَحِ فاصنع ما شئتَ)).

وقيل: ويجوز ألَّا يكون ثَمَّ قولٌ، وأنْ يكون أمرًا بطِيب النفس، وقوة الرجاء، والاستبشار بوعد الله أن يهلِكوا غيظًا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به، كأنه قيل: حدِّث نفسك بذلك.

والمعنى: فمهما كنتم تحسُدون عليه المؤمنين ويُغيظكم ذلك منهم، فاعلموا أن الله مُتمٌّ نعمته على عباده المؤمنين ومُكَملٌ دينه، ومُعْلٍ كلمتَه ومظهر دينَه، فموتوا أنتم بغيظكم.

﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ﴾ تأنيث «ذي» بمعنى صاحب ﴿ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران: 119]؛ أي: بالقلوب صاحبة الصدور، فيعلم ما في صدوركم من العداوة والبغضاء والحنق، فهو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم، وتُكنُّه سَرَائرُكُم من البغضاء والحسد والغل للمؤمنين، وهو مُجازيكم عليه في الدنيا بأن يُريَكم خلاف ما تؤمِّلون، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها، فلا خروج لكم منها، فحالهم في الدنيا شرُّ حالٍ، وفي الآخرة العذاب الأليم، فلهم كَمَدُ الدنيا، وعذاب الآخرة.

ويحتملُ أن يكون من جملة المَقول؛ أي: أخبرْهُم بما يسرُّونه من عضِّهم الأنامل غيظًا إذا خَلَوا، وقل لهم: إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرُّونه بينكم وهو مُضمَرات الصدور، فلا تظنوا أن شيئًا من أسراركم يخفى عليه.

ويحتمل أن يكون خارجًا عن المقول؛ بمعنى: لا تتعجَّب من اطْلَاعي إياك على ما يسرون، فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو مُضمَرات صدورهم، لم يُظهروه بألسنتهم، فإني عليمٌ بذات الصدور.

وقيل: هو أمرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطِيب النفسِ، وقوة الرجاءِ والاستبشار بوعد الله تعالى أن يَهلِكوا غيظًا بإعزاز الإسلامِ وإذلالِهم بقوته، من غير أن يكون ثمةَ قولٌ كأنه قيل: حدِّث نفسَك بذلك.

والظاهر الأول، فأورد ذلك على أنَّه وعيدٌ مُواجَهون به.

ثم زاد الله كشفًا لِما في صدورهم بقوله: ﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ ﴾ هنا أتى بصيغة الجمع، وأتى بصيغة المفرد في قوله: ﴿ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ﴾ وسبق أن جاء بصيغة الجمع ﴿ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ ﴾، وهذا من التفنُّن في الخطاب، ومن فوائده الانتباه؛ فإن الإنسان إذا اختلف الأسلوب عنده انتبه، وليس كما إذا كان الأسلوب على وتيرة واحدة.

﴿ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ﴾ الحسنة: ما يحسُن من أنواع الخير؛ كالنصر والغنيمة، والتأييد والقوة، والخير والرخاء والخِصب، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم، فأي حسنة تُصيب المؤمنين، فإنها تسوؤهم.

﴿ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ ﴾ ما يسوؤكم؛ كالهزيمة أو الموت، أو المجاعة أو اختلاف بينكم، وهذه الأقوال في الحسنة والسيئة هي على سبيل التمثيل، وليست على سبيل التعيين، وليس المراد بهما هنا الاصطلاح الشرعي.

﴿ يَفْرَحُوا بِهَا ﴾ بيانٌ لتناهي عداوتِهم إلى حدِّ أنْ حسَدوهم على ما نالهم من خير ومنفعة، وشمِتُوا بما أصابهم من ضرٍّ وشدة، وقابل الحسنة بالسيئة، والمساءة بالفرح وهي مقابلة بديعة.

وفي الحسنة قال: ﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ ﴾ وفي السيئة قال: ﴿ وَإِنْ تُصِبْكُمْ ﴾، فهل هذا من باب اختلاف التعبير أو هناك فرق معنويٌّ؟

قال فريق من المفسرين: المعنى واحد، والتعبير بأحدهما في جانب الحسنة، وبالآخر في جانب السيئة، تفنُّن في الخطاب، وأن المعنى في قوله: ﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ ﴾؛ أي: إن تصبكم حسنة، قالوا: ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ [النساء: 79]، ﴿ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ ﴾ [التوبة: 50]، ﴿ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾ [المعارج: 20، 21].

وقال الفريق الثاني: بل بينهما فرقٌ؛ لأن المسَّ أخفُّ من الإصابة، وبنى على ذلك أنهم يساؤون من الحسنة وإن كانت قليلة جدًّا، ويفرحون بالسيئة إذا أصابت وأوجعت.

قال الفريق الأول: وهذا الفرق بالنسبة لقوله: ﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ ﴾ وجيه، لكن بالنسبة لقوله: ﴿ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ ﴾ لو قلنا بهذا الفرق، لكان فرحهم بالسيئة لا يكون إلا إذا كانت شديدة، وهذا فيما يظهر خلاف حالهم، وبناءً على ذلك يترجح القول بأن «مس وأصاب» بمعنى واحد، لكن اختلف التعبير لفائدة؛ وهي التنبيه؛ لأنه إذا اختلف الأسلوب لا بد أن يحدُث للإنسان المخاطب انتباهٌ، بخلاف ما إذا كان على وتيرة واحدة.

لكن أصحاب القول الثاني قالوا: وذكرُ المسِّ مع الحسنة والإصابة مع السيئة، للإشارة إلى تمكُّن الحقد والحسد في قلوبهم بحيث إن أيَّ حسنة ولو مسَّت ولم تغمر وتعُم - تسوؤهم؛ لأنهم يستكثرون كلَّ خير للمؤمن مهما ضَؤُل، كالشأن في كل الذين يحسُدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولا يفرحون بالمصيبة التي تمسُّ، فإنها لا تشفي غيظهم، بل لا يفرحون إلا بالمصيبة التي تغمر وتعم وتستمر.

قال ابن عطية: "ذكر الله تعالى المسَّ في الحسنة ليبين أنه بأدنى طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين، ثم عادل ذلك في السيئة بلفظ الإصابة، وهي عبارة عن التمكُّن؛ لأن الشيء المصيب لشيء هو متمكِّن منه، أو فيه، فدلَّ هذا النوع البليغ على شدة العداوة؛ إذ هو حقد لا يذهب عند نزول الشدائد، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين"؛ [انتهى كلامه].

وفيه: أن العدو إذا أصابت عدوَّه حسنةٌ ساءته، وإذا أصابته سيئة فرح بها، وقد جعل الفقهاء رحمهم الله هذا ضابطًا في العداوة حينما تكلموا في باب الشهادات، على أن العدو لا تُقبَل شهادته على عدوه، قالوا في ضابط العدو: هو من سرَّه مساءتك، وساءه مسرَّتك، مأخوذ من هذه الآية.

﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا ﴾ فتضبطوا أنفسكم ولا تنساقوا في محبة من لا يستحق المحبة، وتتحملوا مشاقَّ التكليفات، وتقاوموا العداوة بمثلها، وتردوا اعتداءهم بمثله.

﴿ وَتَتَّقُوا ﴾ ما حرَّم الله تعالى عليكم ونهاكم عنه، فلا تتخذوا منهم بطانة، وتتقوا مباطنتهم.

﴿ لَا يَضُرُّكُمْ ﴾ فيها قراءتان: إحداهما (لا يَضُرُّكُم)، والثانية (لا يَضِرْكم) من الضَّير، والضَّير بمعنى الضرر وبمعنى الضيم، فهو ضرر بضيم؛ أي: لا يلحقكم ضير، فتكون القراءتان كل واحدة منهما أفادت معنى غير الأخرى؛ لأن مطلق الضرر دون مطلق الضير، فالضير أشد، فهم لا يُلحقوننا بضرر ولا بضير.

﴿ كَيْدُهُمْ ﴾ والكيد هو التوصل إلى الإيقاع بالخصم بالأسباب الخفية، وهو بمعنى المكر وبمعنى الخداع.

﴿ شَيْئًا ﴾ نكرة في سياق النفي فتكون عامة، يعني: أي شيء يكون.

فشرط تعالى نفيَ ضررهم بالصبر والتقوى، فكان ذلك تسليةً للمؤمنين، وتقوية لنفوسهم؛ أي: لا يضركم شيئًا من الضرر بفضل الله وحفظِه الموعودِ للصابرين والمتقين، ولأن المُجِدَّ في الأمر المتدرِّبَ بالاتقاء والصبرِ يكون جريئًا على الخصم.

يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكَيْدِ الفُجَّار، باستعمال الصبر والتقوى، والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم، فلا حول ولا قوة لهم إلا به، وهو الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته، ومن توكل عليه كفاه.

﴿ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ في عداوتكم من الكيد ﴿ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 120] إحاطة العلم والقدرة والسلطان، فهو محيط بهم كإحاطة السور بمن في داخله؛ أي: لا يتمكنون أن يفرُّوا من قضاء الله عز وجل وعلمه، وسلطانه وقدرته، وهو مُعاقبهم على ذلك.

ذَيَّلَ الله سبحانه الآية بهذا النص، ليُطْمِئَنَ المؤمنين ويهدِّد الكافرين، فالمعنى: الله تعالى محيط بما يعملون إحاطة علمٍ وإحاطة قدرة، وإحاطة العلم فيها بيان أنه لَا تخفى عليه خافية من كيدهم، وإحاطة القدرة مؤدَّاها أنه مُحبِط كلَّ ما يُدبِّرون؛﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].

هذه وصايا الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بالنسبة لسياسة أمورهم مع مخالفيهم، يحترسون منهم، ولا يفرِّطون في الثقة بهم، فلا يتخذوا منهم بطانة وخاصة، وإلا كان الدمار والبَوار والخَبال، وهكذا نحن الآن للأسف، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدًا.