حوانيت الأعراض ..
مصطفى لطفي المنفلوطي
انا لا استطيع ان اتصور الفرق بين رجل يمد يده الى خزانة بيتي فيسرق مالي وبين آخر يمد لسانه او قلمه الى شرفي فيستلبه كلاهما مجرم فاتك وكلا هما لص مغتال وان كان اولهما من نظر القانون وفي عرف الناس اكبرهما إثما وأسوأهما أثرا.
المال خادم من خدام الشرف وحاجب من حجابه والوقوف على بابه ولولا مكان الشرف والكلف بصيانته والن به ان يعبث بجوهره عابث ما كان لامرئ في هذا المعدن الصامت ارب اكثر من ان يقيم به صلبه ويمسك به حباءه فان كان سارق المال مجرما من حيث كونه هاتكا لذلك الحجاب المسبل دون الشرف فجدير بمن يسرق الشرف نفسه ان يكون راس الجانين واكبر المجرمين.
يكون الرجل -من الصحفيين مثلا- عند الرجل من كرام الناس وسراتهم وذوي السيرة الصالحة فيهم مأرب من المآرب التي لا يعرف لنفسه فيها حقا ولا يمت اليها بسبب من الاسباب الظاهرة اوالباطنة فما هو الا ان يمتنع عليه حتى يرميه بسهم جارح من سهامه النافذات يصيب به مقتلا من شرفه وكرامته ولا ذنب له عنده الا انه لم يكن من لحيته يلف عثنونها على يده ثم يقوده بها الى حيث شاء كما تقاد السائمة الى مصرعها.
يحب الرجل المجد حبا يملأ ما بين جوانحه ويكلف به حتى يصبح آثر عنده من نفسه التي بين جنبيه ويقضي لكلفه به ورصه عليه سواد ليله يساهر الكوكب حتى ينحدر الى مغربه وبياض نهاره يساير الشمس حتى تغرب في حمأتها ويقيم بينه و بين شهوات نفسه ونزعات قلبه حربا عوانا يحمل في سبيلها ما لا يستطيع ان يحمله بشر حتى اذا امكنه المقدار منه وبدأ ينهل اول نهلة من مورده الباردالعذب رآها ممزوجة بذلك العلقم المر الذي صبه له في إنائه ذلك المجرم الأثيم.
ان بين جدران تلك القاعات التي يسمونها ((ادارات)) قوما مفاليك قد دارت الأيام دورتها وسلبتهم المواهب التي يعيش بها امثالهم ممن ولد مولدهم ونشا منشأهم فاقت بهم سبل العيش التي ما كانت تضيق لو ان الله ابقى لهم بعد ان سلبهم فضيلة الفهم والعلم فضية العمل الصالح والسيرة المستقيمة فلم يجدوا بين ايديهم منفذا ينفذون منه الى القوت فتحوا حوانيت للاتجار بأعراض الناس وكرامتهم سموها صحفا واكثر مشتملاتها اعراض الاشراف والعظماء وارباب الجدوالعمل الذين سبقوهم الى فردوس السعادة وخلفوهم وراءهم يتأكلون غيظا لحرمانهم مما أفاض الله عليهم فهم ان فتشت عنهم وكشفت عن دخائل نفوسهم علمت ان لا فرق بينهم وبين اولئك الفوضويين الذين يدينون بقتل الملوك والأمراء واستغفر الله فللفوضويين راي يرونه في لك الجرائم يرونه وفكرة خاة يعتقدون صحتها ل م كقطاع الطريق الذين يهاجمو ن الغادين والرائحين ولا نب لهم عندهم الا انهم مزودون وهم مقفرو الأيادي من الزاد.
ولقد يكون خطبهم سهلا ومصابهم محتملا لو انهم صرحوا عن انفسهم وابدوا للناس صفحات وجوههم وطلبوا قوتهم من طريق الكدية الواضحة البنية ولكنهم مراؤون مخادعون يشتمون باسم الموعظة ويقرضون الاعراض باسم النصيحة ويتهمون الابرياء باسم الغيرة الدينية او الادبية ووالله ما بهم من ادب ولا دين ولاعظة ولا نصيحة ولكنهم قوم محددون قد بلغت الفلاكة منهم مبلغا وضاقت بهم الارض الفضاء على رحبها فهم يروحون عن نفوسهم بالنيل من شرف الشرفاء وتنغيص لذة السعداء ويطلبون قوتهم فيما بين هذا وذاك من يد تلك الفئة الساذجة التي لا تستطيع ان تفرق بين الكاتب الذي يكتب ليقوم معوجا او يصلح مختلا او يرفع بدعة باطلة او يكشف عن حقيقة خافية وبين الآخر الذي يدور مع الدنيا دورة الحرباء مع الشمس لا يفارقه حتى يفارقها والذي لا يلذه شرب الماء الا ممزوجا بدم.ووالله ما ادري ما الذي اقامهم هذا المقام وعهد اليهم هذا العهد ومن الذي وكل اليهم النظر في شؤون الناس والفصل في قضاياهم والقيام على حسناتهم وسيئاتهم وماهم بالبررة الاتقياء الذين ليصلحون ان يكونو امثلة حسنة في منازلهم فيكونو قدوة صالحة في امتهم ولا بالعلماء الفضلاء فنهتدي بهداهم ونستن بسنتهم ولا بالصادقين المخلصين فنبتعد باجلالهم واعظامهم بل ليس لواحد منهم فضل الصانع في مصنعه او التاجر في حانوته او العامل في معمله فيصلح ان يكون حكما في قضايا الاشراف والنبلاء وميزانا لحسناتهم وسيئاتهم وعندي ان لو جمعت عيوب الناس في كفة ميزان ووضعت في الكفة الاخرى عيوبهم الجامعة للسفاهة والكذب والنميمة والتجسس وهتك الاعراض واتهام الابرياء واستهواء الضعفاء لثقلت كفتهم امام كفة الذين يزعمون انهم يقومون معوجهم ويثقفون منآدهم ويصلحون ما فسد من شؤونهم.