الوجيز بين العالم والمتعالم (1)

د. عبدالسلام حمود غالب


نقف معكم في سلسلة جديدة حول العالم والمتعالم؛ لنبين المعالم الواضحة التي يمشي عليها العالم وكذلك مجموعة من الصفات التي يتصف بها العالم المتمكن من العلم والمتشبع منه على أكمل وجه؛ حيث ونحن نرى الجميع سواء العالم وطلاب العلم والمتعالمين كل أولئك يرقبون تصرفات العالم قولًا وفعلًا، ويصفونه إما بالعالم المتقن والمتفنن أو بالمتعالم المنتحل للعلم، فلا بد من التنبه والحذر من القول خلاف العمل أو العمل بجهل دون علم، فكله يفسد الأمر.

ونذكر أيضًا ما يتعلَّق بالمتعالم والمتعالمين نظرًا لظهور هذا الصنف وبشكل كثير وكبير؛ مما أدى لضياع كثير من أمور الدين، والتباس الأمر، وتشتُّت الناس، واضطراب في الفتوى بسبب ما يقوم به أولئك من العبث وقلب الأمور، فنبدأ بذكر طرف مما يتعلق بالمتعالمين مما ذكره العلماء ودونه الكثير من الباحثين والمتخصصين حولهم، ننقلها للفائدة بعد الجمع والترتيب، والتقديم والتأخير لا غير، وأحيانًا بتصرُّف يسير، وبالله التوفيق وعليه الاعتماد، ونبتغي بذلك وجه الله، وجمع ما تناثر هنا وهناك للفائدة لي ولغيري، فلعل الكلمة التي تنتفع بها لم تقرأها بعد.

التَّعالُم لغةً:
التَّعالُم: مصدَرُ تعالَمَ، وتعالَمَ الشَّخصُ؛ أي: ادَّعى أو أظهر العِلمَ والمعرفةَ، وصيغةُ «تفاعَلَ» قد تدُلُّ على التَّظاهُرِ بالفِعلِ، مِثل: «تعامى»، «تغافَلَ».

وتعالَمَ على زُملائِه: تباهى وتفاخَر بالعِلمِ عليهم.

وأيضًا يقالُ: تعالَم النَّاسُ الخَبَرَ: إذا عَلِموه، وهذا هو الأصلُ في إطلاقِ هذه الكَلِمةِ، ثمَّ استُعمِلَت بمعنى إظهارِ العِلمِ وادِّعائِه؛ (الصحاح للجوهري (5/ 1991)، ((معجم ديوان الأدب للفارابي (2/ 472).

التَّعالُمُ اصطِلاحًا:
هو: ادِّعاءُ العِلمِ والمعرفةِ، والتَّظاهُرُ والتَّفاخُرُ بهما مع كونِ مُدَّعي ذلك ليس أهلًا لما يدَّعيه؛ يُنظَر: (معجم الصواب اللغوي لأحمد مختار 1/ 239).

فالتعالم هو ادِّعاء العلم والمعرفة دون امتلاكها الحقيقي، وهو سلوك سلبي له عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع، ويؤدي التعالم إلى العديد من المشكلات سواء للفرد أو للمجتمع، فالتعالم سلوكٌ ضارٌّ يؤثر في الفرد والمجتمع.

ما ورد في ذم التعالم في الكتاب والسنة:
ذكر كثير من الباحثين حول ذمِّ التعالم وجمع عددًا من الآيات والأحاديث حول ذم التعالم نوردها كما يلي:
أولًا: ما ورد في القرآن الكريم في ذم التعالم:
1- قال تعالى: ﴿ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 188].

وعن عِكرمةَ مولى ابنِ عَبَّاسٍ: "قولُه: ﴿ وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ﴾: أن يقولَ النَّاسُ لهم: عُلَماءُ، وليسوا بأهلِ عِلمٍ، لم يحمِلوهم على خيرٍ ولا هُدًى، ويحبُّون أن يقولَ النَّاسُ: قد فعَلوا".

قال ابنُ عاشورٍ: "ومعنى: ﴿ وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ﴾: أنَّهم يحبُّون الثَّناءَ عليهم بأنَّهم حَفَظةُ الشَّريعةِ، وحُرَّاسُها، والعالِمون بتأويلِها، وذلك خلافُ الواقِعِ"؛ (التحرير والتنوير 4/ 193).

قال ابنُ كثيرٍ: "قولُه تعالى: ﴿ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 188] الآية، يعني بذلك المُرائين المُتكَثِّرين بما لم يُعطَوا"؛ (تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/ 181).

2- قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا * وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ﴾ [الإسراء: 36 - 38].

عن قتادةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه في قولِه: "﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾: لا تقُلْ: سَمِعتُ، ولم تسمَعْ، ولا تقُلْ: رأيتُ، ولم تَرَ؛ فإنَّ اللَّهَ سائِلُك عن ذلك كُلِّه"؛ ((تفسير القرآن لابن أبي حاتم 7/ 2331).

قال ابنُ عاشورٍ: "أي: إنَّك أيُّها الإنسانُ تُسألُ عما تُسنِدُه إلى سمعِك وبصَرِك وعَقلِك، بأنَّ مَراجِعَ القَفْوِ المنهيِّ عنه إلى نسبةٍ لسَمعٍ أو بصرٍ أو عقلٍ في المسموعاتِ والمُبصَراتِ والمُعتَقَداتِ، وهذا أدَبٌ خُلُقيٌّ عظيمٌ.

وهو أيضًا إصلاحٌ عقليٌّ جليلٌ يُعَلِّمُ الأمَّةَ التَّفرقةَ بَينَ مراتِبِ الخواطِرِ العقليَّةِ بحيثُ لا يختَلِطُ عندها المعلومُ والمظنونُ والموهومُ.

ثمَّ هو أيضًا إصلاحٌ اجتماعيٌّ جليلٌ يجنِّبُ الأمَّةَ من الوقوعِ والإيقاعِ في الأضرارِ والمهالكِ من جرَّاءِ الاستنادِ إلى أدلَّةٍ موهومةٍ"؛ (التحرير والتنوير 15/ 101).

ثانيًا: ما ورد في السنة من ذم التعالم:
1- عن عبدِاللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رضِي اللهُ عنهما، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ لا يقبِضُ العِلمَ انتِزاعًا ينتزِعُه مِن العِبادِ، ولكن يقبِضُ العِلمَ بقَبضِ العُلَماءِ، حتَّى إذا لم يُبقِ عالِمًا اتَّخَذ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فسُئِلوا فأفتَوا بغَيرِ عِلمٍ، فضلُّوا وأضلُّوا))؛ (أخرجه البخاري برقم 100) واللفظ له، و(مسلم برقم (2673)).

قال ابنُ بطَّالٍ: "وإنَّما يكونُ قَبضُ العِلمِ بتضييعِ التَّعلُّمِ، فلا يوجَدُ فيمن يبقى من يَخلُفُ من مضى"؛ ((شرح صحيح البخاري)) (1/ 177).

قال المُناويُّ: "«فأفتَوا بغيرِ عِلمٍ»... أي: استِكبارًا وأنَفةً عن أن يقولوا: لا نَعلَمُ، «فضلُّوا» في أنفُسِهم، «وأضَلُّوا» من أفتَوه... وهذا تحذيرٌ من ترئيسِ الجَهَلةِ، وأنَّ الفتوى هي الرِّئاسةُ الحقيقيَّةُ، وذَمُّ من يُقدِمُ عليها بلا عِلمٍ"؛ ((فيض القدير للمناوي 2/ 274).

2- عن ثوبانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((... وإنَّما أخافُ على أمَّتي الأئمَّةَ المُضَلِّين))؛ أخرجه مطولًا: أبو داود (4252) واللفظ له، والترمذي (2202، 2229) مفرقًا، وأحمد (22452) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (7238).

قال ابنُ رسلانَ: "«وإنَّما أخاف على أمَّتي» من «الأئمَّة» الأئمَّةُ: جمعُ إمامٍ، وهو الذي يدعو النَّاسَ إلى ضلالةٍ بالقَولِ أو الفِعلِ أو اعتقادٍ يعتَقِدُه، «المُضَلِّين» الذين تولَّوا الوِلاياتِ بغيرِ علمٍ، فحَكَموا بغيرِ عِلمٍ، فضَلُّوا وأضَلُّوا، فهم ضالُّون عن الحَقِّ، مُضِلُّون لغيرِهم، وقد يدخُلُ فيهم العُلَماءُ الذين لا يَعمَلون بعِلمِهم، وجُهَلاءُ الصُّوفيَّةِ الذين صاروا مشايخَ يُقتدى بهم، فيَلعَبُ بهم الشَّيطانُ وبمن يقتدي بهم، إلَّا من وفَّقه اللَّهُ تعالى"؛ (شرح سنن أبي داود لابن رسلان (16/ 672).

3- عن ثابتِ بنِ الضَّحَّاكِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((من ادَّعى دعوى كاذِبةً ليتكَثَّرَ بها، لم يَزِدْه اللَّهُ إلَّا قِلَّةً))؛ أخرجه مسلم (110) مطوَّلًا من حديثِ ثابتِ بنِ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللهُ عنه.

قال القاضي عِياضٌ: "هذا عامٌّ في كُلِّ دعوى يتشَبَّعُ بها المرءُ بما لم يُعْطَ؛ من مالٍ يحتالُ في التَّجمُّلِ به من غيرِه، أو نَسَبٍ ينتمي إليه ليس من جِذْمِه- أي: فَرعِه- أو عِلمٍ يتحلَّى به ليس من حَمَلتِه، أو دينٍ يُرائي به ليس من أهلِه؛ فقد أعلَم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه غيرُ مُبارَكٍ له في دعواه، ولا زاكٍ ما اكتَسَبه بها"؛ (إكمال المعلم بفوائد مسلم 1/ 391).

4- عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((المُتشَبِّعُ بما لم يُعْطَ كلابِسِ ثَوبَيْ زُورٍ))؛ أخرجه البخاري (5219)، ومسلم (2130).

قال النَّوويُّ: "قال العُلَماءُ: معناه المتكَثِّرُ بما ليس عندَه، بأن يُظهِرَ أنَّ عندَه ما ليس عندَه، يتكثَّرُ بذلك عندَ النَّاسِ، ويتزيَّنُ بالباطِلِ؛ فهو مذمومٌ، كما يُذَمُّ من لَبِس ثوبَي زُورٍ؛ قال أبو عُبَيدٍ وآخرون: هو الذي يلبَسُ ثيابَ أهلِ الزُّهدِ والعبادةِ والوَرَعِ، ومقصودُه: أن يُظهِرَ للنَّاسِ أنَّه متَّصِفٌ بتلك الصِّفةِ، ويُظهِرَ من التَّخشُّعِ والزُّهدِ أكثَرَ ممَّا في قلبِه، فهذه ثيابُ زُورٍ ورياءٍ، وقيل: هو كمن لَبِس ثوبَينِ لغيرِه وأوهَمَ أنَّهما له، وقيل: هو مَن يلبَسُ قميصًا واحدًا ويَصِلُ بكُمَّيه كُمَّينِ آخرَينِ، فيُظهِرُ أنَّ عليه قميصينِ، وحكى الخطَّابيُّ قولًا آخَرَ: أنَّ المرادَ هنا بالثَّوبِ الحالةُ والمذهَبُ، والعرَبُ تُكنِّي بالثَّوبِ عن حالِ لابسِه، ومعناه: أنَّه كالكاذِبِ القائِلِ ما لم يكُنْ، وقولًا آخَرَ: أنَّ المرادَ الرَّجُلُ الذي تُطلَبُ منه شهادةُ زُورٍ فيَلبَسُ ثوبَينِ يتجمَّلُ بهما، فلا تُرَدُّ شهادتُه لحُسنِ هيئتِه. واللَّهُ أعلَمُ"؛ (شرح النووي على مسلم 14/ 110).

ذكرنا ما ذكره عدد من الباحثين حول التعالم ابتداء بالتعريف لغةً واصطلاحًا ومن ثم ذكر ما ورد في الكتاب والسنة حول ذم التعالم نظرًا لخطورته والآثار المترتبة على ذلك.

يتبع...