قصة أخرى عن الولاء لله ورسوله


مصطفى شيخ مصطفى



كنتُ ذكَرْتُ في مقالة سابقة عنْوَنتُها بـ"الولاء لله ولرسوله" - قصَّةَ صحابي جليل، وَلِي إمارة حِمْص على عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عن الصحابة أجمعين.
وذكرتُ أنَّ حمْصَ كانت تُدعى الكوفة الصُّغرى، وكان أهلُها يكْثرون الشِّكاية على وُلاتهم.

وتتمَّةً للموضوع، والشيء بالشيء يُذْكر؛ أذكر اليوم قصةً لصحابي آخر، وَلِيَ ذاتَ الموقع، وكان عاملاً لعمر بن الخطاب على حمصَ أيضًا، هذا الصحابي بطَلُ هذه القصة هو سعيد بن عامر بن حذيم الجُمَحي - رضي الله عنه.

والقصة موجودة في كتاب حياة الصحابة للكاندهلوي - الجزء الثاني - في باب اهتمام الصحابة باجتماع الكلمة واتحاد الأحكام، يُمكن - لمن أراد - الرجوعُ إليها في الكتاب المذكور.

فمَن هو سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي - رضي الله عنه؟ وما هي قصته مع حمص وعمَلِه على ولايتها على عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه؟


هو أحد كبار الصحابة وفضلائهم، أسلم قبل خَيبر، وهاجر، وكان مشهورًا بالخير والزهد، استعمله عمر - رضي الله عنه - على حمص بعد عياض، وليَ في المحرَّم سنة عشرين كما جاء في الإصابة.

ما أحوجَنا - نحن المسلمين - أن نقرأ بعناية فائقةٍ عُنوانَ الباب الذي ضَمَّ هذه القِصةَ وقَصصًا أخرى؛ فالعنوان للباب يبدأ باهتمام الصحابة، ولنا أن نسأل: أين اهتمامُنا نحن؟

ومتى سيصبح همُّنا واهتمامنا باتحاد الكلمة؟ ومتى سيصبح هَمُّنا باتحاد الكلمة واتحاد الحُكْم؟ نرجو الله العزيز القدير أن يكون ذلك قريبًا.

فلما قام عمر بن الخطاب بزيارةٍ للأقاليم الإسلامية في عهده؛ يتفقد الرعية، وصَلَ إلى حمص، فاجتمع بوُجَهاء أهلها: كيف ترون أميركم؟
أتعني سعيد بن عامر؟
نعم، إيَّاه أعنِي.
قالوا: يا خليفة رسول الله، نشكو منه أمورًا أربعة.
وما هي أيها السادة؟
لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار.
قال عمر: أعظِمْ بها مِن شِكاية! هذه واحدة، فما التي تليها؟
قالوا: إن أميرنا لا يجيب أحدًا بليل.
قال عمر: وهذه عظيمة أيضًا، فما الثالثة؟
قالوا: له يوم في الشهر لا يخرج إلينا فيه البتة.
قال عمر: وهذه عظيمة أيضًا، فما الرابعة أيها السادة الكرام؟
قالوا: يُغْنَظ الغَنْظَةَ بين الأيام - يَعنون أنه تأخذُه موتَةٌ وكأنه يُغشى عليه، ثم يقوم.

فجمع عمر - رضي الله عنه - بينه وبينهم، وتوجَّه إلى خالقه؛ داعيًا إياه: اللهم لا تخيِّب رأيي فيه اليوم.

ثم التفت إلى القوم: ما تشكون منه؟
لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار.
ماذا تقول في ذلك يا سعيد؟
والله إني لأكره ذكر سبب ذلك، ولكنْ إنْ لم يكن بُدٌّ فإنه ليس لأهلي خادم، فأعجن عجيني، ثم أجلس حتى يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ، ثم أخرج إليهم.

هذه الكلمات لم تكن إجابةً عن سؤال فحسْبُ، بل إنها رسالة إلى الأمراء والولاة في كل زمن وحين، هذه هي المَعالِمُ الحقيقية، والآثار الطيبة التي تركها نخبة الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين.

ثم قال عمر - رضي الله عنه -: وماذا تشْكُون منه أيضًا؟
قالوا: هذا رجل لا يجيب أحدًا بليل؟
فماذا تقول فيما يقولون يا سعيد؟
لا حول ولا قوة إلا بالله، ما كنت أحِبُّ ذِكْر ذلك، ولكنني جعلْتُ النهار لهم، وجعلت الليل لله رَبِّ العالمين.

قال عمر: وما تشْكون أيضًا؟
إنَّ له يومًا في الشهر لا يَخرج فيه إلينا.
وما عندك جواب لهذه يا سعيد؟
ليس لي خادم يغسل ثيابي، ولا لي ثياب أبدِّلها، فأغسل ثيابي وأنتظرها حتى تجف، وأخرج إليهم آخِرَ النهار.
ما هذه الصفات يا سادة؟! أين هذه الصفاتُ مِن صفات الأمراء والولاة اليوم؟!


ثم قال عمر: وما تشكون منه أيضًا؟
قالوا: يُغْنَظ الغنظة بين الأيام.
فقال عمر - رضي الله عنه -: ما تقول يا سعيد؟
قال: شهدتُ مصْرَعَ خُبيب الأنصاريِّ بمكة وقد قَطعت قريشٌ لحْمَه، وحملوه على جذعة، وقالوا له: أتحب أنَّ محمدًا مكانك؟

وانظروا إلى الجواب أيها السادة، إنه جواب يجعل العيون تدمع، والقلوب تخشع، والنفوس ترقَى.. قال: قال خبيب:
- "ما أُحِبُّ أنِّي في أهلي وأن محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - شِيك بشوكة"، وإني - يا أمير المؤمنين - ما تذكرتُ ذلك اليومَ وتَرْكِي نُصرَتَه على تلك الحال وأنا مُشرِك لا أؤمن بالله العظيم، إلا ظننتُ أنَّ الله لا يَغفر لي ذلك الذنب أبدًا، قال: فتصيبني تلك الغنظة.

قال عمر - رضي الله عنه -: الحمد لله الذي لم يفيِّلرأيي فيه، ولم يخيب فراستي في سعيد بن عامر، وأرسل إليه ألف دينار، وقال له: استعن بها على أمرك.

ما أنْ رأَتْ المالَ زوجُهُ حتى قالت له: الحمد لله الذي أغنانا عن خدمتك.
فقال سعيد: فهل في خيرٍ مِن ذلك؛ نَدْفعها إلى مَن يأتينا بها في وقتٍ أحوجَ ما نكون إليها.
قالت المرأة: نعم.

فدعا رجلاً مِن أهل بيته يَثِق به، ثم صرَّرها صُررًا، ثم قال له: انطلق إلى أرملةِ فلانٍ، وإلى اليتيم الفلاني، وإلى مَسْكن آلِ فلان، وإلى مُبْتَلَى آل فلان.

فبقيَتْ منها ذهيبةٌ واحدة، فقال لزوجه: أنفقِي هذه.

ثم عاد إلى عمله، فقالت: ألا تشتري لنا خادمًا؟ ما فعل ذلك المال؟
فقال: سيأتيك أحوجَ ما تكونين.

رضي الله عن سعيد بن عامر، وعن الصحابة أجمعين، وخلَّقَنا بأخلاقهم، وحشَرَنا معهم ومع نبيِّنا محمد - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - لم يكن وَلاؤُهم إلا لله ولرسوله، ولم يكن همُّهم إلا رِضا الله ورضا رسوله.