ينزع عنهما لباسهما


الشيخ عبدالله بن محمد البصري




لا تختلف الطَّريقة التي يتبعها أبالسةُ اليوم في نزْع الحياء عن تلك التي بدأها أوَّلَ مرَّة عدوُّ الله إبليس، حين أخرج الأبوين من الجنَّة؛ إذ تتلخَّص في نزْع اللِّباس الظَّاهر، المؤدِّي إلى نزْع اللِّباس الباطن ولا بدَّ، يعلم ذلك مَن تأمَّل قول الله - جلَّ وعلا -: {يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آَدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 26، 27].

وهؤلاءِ الأبالسة حينَ يحاولون تعريةَ النَّاس من اللِّباس ظاهرًا، فهم إنَّما يسعَوْن إلى تعرية نفوسهم من التقوى باطنًا، وسَلْبِهم فطرتَهم، وتجريدهم من إنسانيتهم؛ لينحطُّوا بهم إلى درجةٍ يصيرون فيها كالحيوانات، أو أقلَّ من الحيوانات وأذل، ذلك أنَّ الفطرة السليمة تنفر من انكشاف سوءتها، وتحرص كلَّ الحِرص على إخفاء عورتها، وإذا ما سمحتْ بكشفها مرَّةً، فاعلمْ أنَّها قد مَرِضت واعتلت، وإذا ما استمرأتْ ذلك واعتادته، فاجزمْ بأنَّها قد ماتت، وحُقَّ عزاؤها.

وإذا وصل شياطينُ الإنس إلى إقناع النَّاس بنزْع اللِّباس، وخَلْع السِّتر أمامَ النَّاس، وهوَّنوا عليهم إظهارَ عوْراتهم في المحافل، وكشفَ سوءاتهم في كلِّ ناد - فقد نجحوا في الانحطاط بهم إلى القاع، وبلغوا بهم إلى الحضيض، فذلك هو خطُّ البداية والنهاية في آنٍ معًا، وتلك هي النُّقطة الفاصلة التي إذا رضي عبدٌ بتجاوزها، لم يحجزْه عن غيرها من المنكرات الخُلقيَّة حاجز، وما ظنُّك بنفس هان عليها أن تكشفَ سوءتها أمامَ النَّاس؟! أتراها ستُحجِم عن فاحشة أقلَّ من ذلك؟ لن يَحدُثَ هذا أبدًا؛ بل إنَّها سوف تسْتسهل كلَّ فاحشة، ولن تُحجم عن معصية؛ صغرت أو كَبرت، ومن هنا يظهر التلازم بينَ ما شَرَعه الله من اللِّباس؛ لِستر العوْرات وبين التقوى، إذ أولهما يستر عوْراتِ الجسم، والآخر يستر عوْرات القلب، ومن اتَّقى الله واستحيا منه، استقبح عُرِيَّ الجسد واستحيا منه، ومَن لا، فَلاَ.

ومهما زعم غِلمان الصحافة، ومُزوِّرو الرِّوايات، ومُتَّبِعو الشهواتِ: أنْ يُثبتوا للنَّاس أنَّ سترَ الجسد إنَّما هو مجرَّد عُرْف اجتماعيٍّ، أو عادة محليَّة، أو أنَّهم إنَّما يفعلونه حميَّةً قَبَلِيَّة - فإنَّ الستر يبقى فطرةً فطر الله النَّاس عليها، ثم هو بعد ذلك واجبٌ شرعي يُثاب مَنِ الْتزمه طاعةً لربِّه، ويعاقب من فرَّط فيه وتركه.

إنَّ مجتمعًا محافظًا كمجتمعنا، يعيش جَنَّة الحياء والستر، ويتفيَّأُ في ظلال التَّديُّن والتقوى - حَرِيٌّ به أن يحذرَ مِن هذه الفتنة العمياء، التي أصاب غبارُها أطرافَ جنَّته، وإن لم يفعلْ، فسوف تَزِلُّ به القَدَم إلى الحضيض بعدَ تسنُّم القِمَّة، وكما أُنزِلَ آدمُ وحوَّاء من الجَنَّة إلى الأرض - وشتَّانَ بينهما - بعد وسوسةٍ وصلَ بها الشيطان إلى أن ينزعَ عنهما لباسَهما، ويريهما سوآتِهما؛ فإنَّ أيَّ مجتمع يكون في العلياء، ثم يختار نزْع الحياء، فلا بدَّ له من السُّقوط في الهاوية، والنزول في المنحدر، وسُنن الله في خَلْقِه جارية.

إنَّ شياطين الإنس من الذين لا يؤمنون يُعيدون اليومَ ما صنعه قائدُهم الأعلى قديمًا، فتراهم يسعَوْن غير متوانين ولا مستترين في إبراز العوْرات، وإظهار السوْءات؛ لِيَسهُلَ عليهم قضاءُ شهواتهم، وإرضاء نزواتهم، دونَ وازع مِن إيمان، أو رادع من حياء، وصَدَق مَن لا يَنطِق عن الهوى - عليه الصَّلاة والسَّلام - حيثُ قال: ((الحياءُ لا يأتي إلاَّ بخير))، وقال: ((إذا لَمْ تَستحِ فاصنعْ ما شئت)).

ما من شكٍّ أنَّه لا أحدَ يَسْلم من المعاصي، ولا مجتمع يخلو من المنكرات؛ يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((كلُّ ابنِ آدمَ خطَّاء، وخَيرُ الخطَّائين التَّوابُّون))، وإذا لم تكن مِن العِباد التوبة التي هي أوَّل الواجبات عليهم؛ لغسل أثر المعصية، فليكنْ منهم استتار وتوارٍ عن الأعين، وخوف وحياء، فإنَّ ذلك أدعى لتوبتهم وإنابتهم لاحقًا، وأحرى بهم للرُّجوع إلى ربِّهم فيما بعد؛ يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((اجتنبوا هذه القاذوراتِ التي نهى الله - تعالى - عنها؛ فمَن ألَمَّ بشيءٍ منها، فلْيستترْ بستر الله، ولْيتبْ إلى الله، فإنَّه مَن يُبْدِ لنا صفحتَه نُقِمْ عليه كتاب الله)).

وإذا بارز العِبادُ ربَّهم بالعِصيان في مجتمع ولم يستتروا، فذلك عُنوان بلاءِ ذلك المجتمع، وأمارةُ هلاكِه وشقائه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: ((كلُّ أُمَّتي معافى إلاَّ المجاهرين، وإن مِن المجاهرة أنْ يعملَ الرَّجلُ باللَّيل عملاً، ثم يُصبِح - وقد ستره الله - فيقول: يا فلان، عَمِلتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه، ويُصبح يكشف سِترَ الله عنه!))، تأمَّل، هذا فيمن يُحَدِّثُ بما عَمِل ويصف ما اقترف، حتى كأنَّ النَّاس يرونه، فكيف بمن يخرج مِن ثياب حيائه أمامَ النَّاس، ويعصي الله جِهارًا نهارًا؟! كيف بِمَن يهتك سترَ ربِّه والنَّاسُ يرونه رأْيَ العَين؟! بل كيف بمن يدعو إلى ذلك ويجعله همًّا له وهدفًا، بل ويحارب المصلحِين، ويسعى للتقليل منهم، وإقصائهم عن قيادة دفَّة السفينة؟! ما أشقَى ذلك وما أشدَّ بلاءَه!

إنَّه لمن الغريب أن ترى في مجتمعنا شرذمة طَغتْ وبغت، وتجرَّدت من دِينها وحيائها، ولم تكتفِ بما اقترفتْه من كبائرَ وموبقات في أنفسها، حتَّى سعت إلى قيادة النَّاس للطُّغيان ومعصية الرحمن، وأرادت لهم العَيش في هَرَجٍ ومَرَج، واختلاط وعهر، ونزع ستر، وإن العاقل ليستغرب هذا الإلحاحَ الشديد الذي نراه ونسمعه، وذلك الإصرار الذي نلمسه بقوَّة على كافَّةِ الصُّعد؛ لإخراج المرأة مِن بيتها، ونزْعها سِترَ ربِّها عليها!

إنَّها - وربِّ الكعبة - الخطواتُ الشيطانيَّة بلبوس الحِرص على العمل، وكسب الرزق، والمساهمة في التنمية، وما هي في الحقيقة إلاَّ زجٌّ بالمرأة إلى عالَم الشقاء، وحياة التعاسة - شاء مروِّجو ذلك الفِكر، أم أَبَوْا.

إنَّ مسلسل نزْع الحياء، ونبذ الستر، وإلقاء رداء الحشمة - مسلسلٌ طويل، مرَّ بتجويز إبراز الوجه والتهوين من شأن الحجاب الكامل، وهو الأمر الذي كان يدعم - في أحيان كثيرة - بفتاوى وآراء تُجلب مِن هنا وهناك، ثم مرَّ بتقصير الثِّياب من أطرافها، والتفنُّن في ملئها بالفتحات من أمامَ وخلف، وعن يمين وشمال، ثم كان ما كان من تهوين أمر رُكوبها مع السائق، ثم سَكنها في الشُّقق المفروشة بلا مَحْرَم، وفي حلقات المسلسل المتطورة كانت قضية عَملِها مع الرِّجال هي العقدة، وهو الأمر الذي تزامن مع تفجير فتنة قيادتها للسيَّارة، ثم جاءت فكرةُ النوادي النِّسائيَّة، وثَمَّة دعوة للزَّجِ بالمرأة في الدِّفاع المدني وفي الأمن؛ لمباشرة الحوادثِ؛ بحجَّة الحرص على أن تتولى إنقاذَ بنات جِنسها، حتى لا تمتد إليهنَّ أعين الرِّجال!!

وأمَّا قضية بطاقة المرأة المشتملة على صورتها، فأمر لا ينقضي العجبَ مِمَّن يدعو إليه بإلحاح، ويسابق الزمن لجعله واقعًا لا مفرَّ مِن قبولِه، وهو يزعم أنَّه مريد للإصلاح، وساعٍ للوصول بالمجتمع للقمة في الرقي ومصافِّ الدُّول العظمى؛ إذ لا يخفى على صِغار المثقَّفِين - فضلاً عن المسؤولين والنخبة - أنَّ العالَم قد تخلَّى عن أسلوب التصوير في البطاقات، واستبدل به أساليب أقوى في كشف الشخصية وأرقى، من بصمة اليد والعين والأرقام السِّريَّة وغيرها، وإنَّ ما يعرفه كلُّ مواطن في هذا البلد من قصص عمَّال أُجلُوا لبلادهم لجرائمَ ارتكبوها، ثم عادوا بصورٍ أخرى، وجوازات جديدة - لهو خيرُ شاهد على بدائية أسلوب التصوير في البطاقات والجوازات والرخص؛ لكن لمريدي إشاعة الفواحش مآربُ أخرى.

ولا ندري ماذا بقي من فصول المسلسل قبلَ الوصول إلى النقطة النهائية، حيث تخرج المرأة مع مَن تشاء شِبهَ عارية على الشاطئ، وفي المتنزهات والحدائق، لا تلبس إلاَّ ما يدعو إلى زيادة تأمُّل الرِّجال فيها، وتحديق العيون الخائنة في زينتها؟! غير أنَّ الذي لا نَشكُّ فيه لحظة ولا يخفى علينا، أنَّ القصدَ هو نزْعُ اللِّباس؛ ليروا السوْءات، فيذهب الحياء، فيستمتعوا بالمرأة أينما أرادوا، وكيفما شاؤوا.

ليتَ إماءَ الله يَعين خططَ الماكرين، وترتيبات المخادعين، فيحفظنَ على أنفسهنَّ حياءهنَّ، ويلتزمن بستر ربهنَّ عليهنَّ، مِن قَبلِ أن يُجرحنَ جرحًا لا تُذهِبُ الأيَّام أثرَه، لَيْتَهنَّ يَرْعَين نعمةَ الله عليهنَّ، مِن قَبلِ أن يبتلين بما ابتليت به المرأة الغربيَّة، حين كشفتْ عورتها، وأظهرت سوءتها، مغترَّة بذلك الرَّجل المخادع الذي احتضنها بقوَّة في زهرة شبابها؛ ليقضيَ منها وطرَه، ويفرغ فيها شهوتَه، ثم رمى بها كهلةً وعجوزًا في صحراء الضَّياع، وألْقاها في عالَم التِّيه، وتركها وحيدة تعاني الأمرَّين: الفقر والمرض، لا تملك من أمرها إلاَّ أن تمدَّ يدَها سائلةً متسولة، في الحين الذي تتشرَّف فيه مثيلتها في دِيار الإسلام برعايةٍ من أبنائها، وعناية من أحفادها، وقبلَ ذلك بولاية أبٍّ حانٍ، أحسنَ تربيتَها، وأغدق عليها من فيض حنانه، ولبَّى مطالبها بكريم عطائه، ثم مَحبَّة زَوجٍ عطوف لا يراها مجرَّد عشيقةٍ وخدينةٍ وربيبةِ سَمَرٍ فحسبُ.

بل هي لديه أعزُّ وأغلى، هي شريكة حياة غالية، وأمُّ أولاد حانية، وسَكنُ رُوح، وطُمأنينة قلْب، وراحةُ نفْس، ورمز طهارة، تُبادِله المودةَ، وتمنحه المحبَّة، وتشيع في بيته الألفة، وتنشر في مجتمعه الرَّحمة، ويأوي إليها كلَّما قَستْ عليه الحياة، فيجد الكلمةَ الطيِّبة، والرأي الدافئ، والمشورة المطمئنة، ويزيده طُمأنينةً وشعورًا بالكمال أنَّها له وحدَه، في عَلاقة فطريَّة شريفة، باطنها الطهارة والنقاء، وظاهرها العَفاف والصَّفاء.

إنَّنا نرفع الصَّوت جهرةً منذرِين، ونبسط الكلامَ مُحذِّرِين: يا نساءَ المؤمنين، يا مَن خصَّكنَّ الله واصطفاكنَّ وطهركنَّ، إنَّكنَّ الآن في مفترق طرق خطير، والاختيار ليس بصعبٍ؛ لكن النتائج ستكون صعبةً ومُرَّةً لمن لم تحسنِ الاختيار، فهيَّا إلى ما أدَّب الله به نساءَ نبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاستمسكنَ به، فإنَّه لَكُنَّ مِن بعدهنَّ؛ قال - سبحانه -: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 32 - 33].