توثيق الحجج الوقفية وحماية أصولها
يعد توثيق الأوقاف من أعظم أسباب حفظها واستمرارها ومنع أيدي المعتدين عليها وهو السبيل الذي يحقق مقاصد الواقفين في بقاء أوقافهم مع تعاقب السنين
صياغة شروط الواقف ومصارف الوقف بطريقة شرعية محكمة ودقيقة سيقطع الطريق على محاولات تعطيل الوقف أو الاستيلاء عليه أو اندثاره
لا يحلُّ لأحد يؤمن باللّه العظيم واليوم الآخر نقض الوقف ولا تبديله ولا تغييره ولا الحيد به عن وجوهه وشروطه المذكورة فيه
نصَّت وثائق الوقف كافة على أن يبدأ الناظر بالصرف على عمارة الأعيان الموقوفة وترميمها أولاً والعناية بشؤونها وإصلاح خدماتها ثم الصرف من ريعها على ما حدَّده الواقف
اعتنى أهل العلم بشروط الواقف عنايةً خاصّة ورفعوها إلى منـزلة النصوص الشرعية فقالوا: «شرط الواقف كنصِّ الشارع» وذلك لأنّ الأصل الالتزام به
حرص الواقفون على تأكيد الوقف وتأبيده ولزومه فتضمَّنت وثائق الوقف تلك العبارات فقد جاء في جُلِّها عبارة: وقفًا صحيحًا شرعيًّا مؤبدًا وحبسًا صريحًا حبَّسه وسبَّله للّه -تعالى-
يعد توثيق الأوقاف من أعظم أسباب حفظها واستمرارها ومنع أيدي المعتدين عليها، وهو السبيل الذي يحقق مقاصد الواقفين في بقاء أوقافهم مع تعاقب السنين، والحفاظ عليها من الضياع والاندثار، والتقيُّد بمصارفها كما ينصُّون عليها، وحمايتها من التغيير بدافع الأهواء والمطامع، والحكمة من مشروعية التوثيق للوقف واضحة جلية، قال الشيخ العلامة السعدي: «فكم في الوثاق من حفظ حقوق، وانقطاع منازعات»، كما أن في إثبات الأوقاف وضبط إجراءاتها حفظًا لها من الاندراس والنسيان، أو الاعتداء عليها بالظلم والعدوان، وضبط جميع الحقوق المتعلقة بها، وهو مقصد معتد به في الشرع.
وإثبات الوقف بالكتابة أيضًا؛ لأن الكتابة أبقى من الشهادة؛ لذهاب أعيان المستشهد بهم، ووقف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ثبتَ بدايةً بالإشهاد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبكتابة الأحاديث النبوية الشريفة الخاصة به وتدوينها، ومع ذلك كتب عمر - رضي الله عنه - وثيقته وأشهد عليها؛ لأن الكتابةَ قَيْدٌ كما هو معلوم، وقد عُبّر عنها بالقَيْد والتّقييد لأّنّه تربط المعلومة وتوثِقُها فلا تتفلّت، وقد جاء في الحديث: «قيّدوا العلم بالكتاب»، قال الصنعاني: «قيّدوا العلم: اضبطوه عن الإضاعة». (2) تجديد وثائق الوقف
كما تعد الكتابة من أهمّ وسائل توثيق الوقف، فإنّها إذا خَلِقَتْ تخلّفت عنها وظيفتها وفائدتها؛ لذلك فقد عُني المسلمون -لحماية الوقف- بتجديد وثائقه مع تعاقب السنين، وقد نصَّت بعض الوثائق الوقفية على اشتراط الواقف في كل عشر سنين بالإثبات والتنفيذ لدى قاضي القضاة، وهذا التعاهد بتجديد وثيقة الوقف لحفظ الأصول على الدوام وقطع الطريق على المتلاعبين، وكان بعضهم ينقش ملخصًا لكتاب وقفه على الحجر أو الخشب داخل المنشآت التي أقامها لتكون وقفًا للّه تعالى، ليعلم الجميع أنها وقف، وكذلك ما وُقف للصرف على هذا الوقف؛ إن كان مدرسة أو مستشفى أو نزلاً لابن السبيل أو لطلبة العلم، وكانت الحُجج الوقفية تُكتب على الورق والجلود والخشب والحجر، إلا أنه خوفًا من تلفها، ولا سيما ما كان مكتوبًا على الورق أو الجلد؛ فقد كانت تجدَّد كلما مضى عليها فترة من الزمن، كما كان بعض الواقفين يشترط أن يقوم ناظر الوقف بتعهد كتابة الوقف كل عشر سنين بالإثبات والتنفيذ لدى قاضي القضاة. وبعض هذه الوثائق يجدَّد على رأس كل مائة سنة، ويصاحب ذلك قراءتها في الجوامع، أو من خلال تكرار توقيع القضاة على الوثيقة الوقفية، كما في وقفية صلاح الدين الأيوبي المؤرخة في سنة 585هـ/1189م، وقد جرى توثيقها في المحكمة الشرعية في القدس في عام 1022هـ/ 1613م، ولكن قبل ذلك كان القضاة المتعاقبون يضعون أختامهم على الوثيقة تأكيدًا عليها والتزامًا بها، وقد رُصد خمسة عشر توقيعًا وختمًا للقضاة على تلك الوثيقة خلال مائتي سنة. (3) كتابة ما ينبغي أن تحتويه وثيقة الوقف كاملاً
يجب كتابة ما ينبغي أن تحتويه وثيقة الوقف كاملاً وذلك لكي لا تُستغلّ الثغرات والمساحات التي لم يغطّها الواقف في نصّه لكي تُفسّر على أهواء البعض أو تُترك لاجتهادهم، ثمّ يتولّى هذا الاجتهاد من ليس من غرضه أن يتصرّف لمصلحة الواقف ولا الموقوف عليه، وإنّما لمصلحة نفسه، فإنّ الله تبارك وتعالى عندما يتعلّق الأمر بالحقوق اللّازمة يبيّنه لعباده غاية البيان، لئلّا تميل النّفوس بالتأويل وتحت شعار الاجتهاد والتقديرات الشخصية إلى أكل حقوق الغير بالهوى والطمع، ومن هنا أرى أن تحتوي وثيقة الوقف على عناصر سبعة، وهي على النحو الآتي: 1- المقدمة أو الاستهلال: وتتضمن البسملة والحمدلة والصلاة والسلام على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم -، وذكر بعض الآيات والأحاديث الشريفة الدالَّة على عمل الخير. 2- التوثيق: وفيه إثبات اسم القاضي الشرعي، واسم الواقف، وتاريخ تحرير الحُجة واسم المحكمة الشرعية. 3- الشهود: وهم الجماعة الذين حضروا واقعة تحرير الحُجة لغرض التعريف بالواقف. 4- صيغة الوقف: وهي الصيغة التي تحدد الممتلكات الموقوفة وتعيّنها تعييناً تامًّا ينتفي معه اللّبس. 5- مصرف الوقف: وفيها تحديد الجهة الموقوف عليها بالتفصيل، وهذه النّقطة تحتمل تفصيلاً كثيراً، فينبغي أن يبيّن فيها كلّ ما من شأنه أن يلتبس ويُختلَف فيه في حال عدم بيانه. 6- شروط الواقف: والمتعلّقة بالنظارة، وإجراءات صرف الغلّة أو العائد، والترتيب الواضح في آليّة انتقال الاستحقاق من بطن إلى بطن، أو من جهة إلى جهة، أو من مكان إلى مكان. 7- الخاتمة: ويذكر فيها لزوم الوقف، والتحذير من الاعتداء عليه أو انتهاك حرمته؛ كما تحتوي أيضًا على ختم القاضي وتوقيع الواقف، والشهود والتاريخ، ومحرر الحجة أو الصكِّ، وما يتعلق بذلك. صياغة شروط الواقف
لا شكَّ بأنّ صياغة شروط الواقف ومصارف الوقف بشكل شرعي محكم ودقيق، مع القابلية العملية للتنفيذ والتحقيق لأطول فترة ممكنة من عمر الوقف؛ سوف يقطع الطريق على كل ما ذُكر من محاولات لتعطيل الوقف أو الاستيلاء عليه أو اندثاره، ولا يتأتَّى ذلك إلا باستشارة المختصين في مجال الوقف وتوثيقه، وما ينبغي أن تتضمنه وثيقة الوقف بوضوح لا لبس فيه، لتقطع الطريق على المنازعات؛ سواء من أهل الواقف أم الموقوف عليهم، ولتحقيق ذلك: لا بدَّ من إنشاء دوائر متخصصة لصياغة الحُجج الوقفية في المؤسّسات الخيريّة، ومساعدة الواقفين على صياغة تلك الوثائق، مع توفير ما يلزم من الثقافة الشرعيّة والقانونيّة، ولفت النّظر إلى أيّة اعتبارات أو احتمالات قد تكون غائبة عن ذهن الواقف عند إنشاء الوقف. ولذلك فقد اعتنى أهل العلم قاطبةً بشروط الواقف عنايةً خاصّة، ورفعوها إلى منـزلة النصوص الشرعية، فقالوا: «شرط الواقف كنصِّ الشارع»؛ وذلك لأنّ الأصل الالتزام به، والخروج عنه هو الحالة الاستثنائيّة، وهذه الحالة الاستثنائية لا تُؤتى إلّا بسُلطة الدّليل الشرعيّ النّصيّ أو المقاصديّ المقطوع به، أي لا تُخالَف شروطُه إلّا إن كان في اشتراطِهِ مخالفاً للكتاب والسُّنَّة، أو كان -مع إفصاحه بغرضه وهدف الشرعيّ النبيل من الوقف- قد اشترطَ شروطاً عن جهلٍ أو نوع هوىً أو تعصُّبٍ تمنع من تحقيق مقصده أصلاً، فيُعمَد إلى مقصده ساعتئذ فيُعتمد ويُعمل بموجبه ويُطرح شرطُه، بعد القطع بأنّ حال الوقف بعد مخالفة شرط الواقف أعظم أجراً للواقف وأعظم نفعاً للموقوف عليه، من حاله لو تمّ التزام شرطه بحذافيره. (4) استعمال التوكيد في صيغة الوقف لفظاً ومعنىً
حرص الواقفون على تأكيد الوقف وتأبيده ولزومه؛ فتضمَّنت وثائق الوقف تلك العبارات، فقد جاء في جُلِّها عبارة: «وقفًا صحيحًا شرعيًّا مؤبدًا، وحبسًا صريحًا، حبَّسه وسبَّله للّه -تعالى-، دائما أبدًا حتى يرث اللّه الأرض ومن عليها»، ولهذا فإن من الطرائق الوقائية والعلاجية لموضوع الاعتداءات على الأعيان الموقوفة، ضبط الحجج الوقفية عند تحريرها بضوابط تمنع ذوي الشوكة أو الموظفين المسؤولين أو النظار من التدخُّل بما يؤدي إلى الاستيلاء على الوقف، والنصُّ كذلك على تأبيدها وعدم استبدالها إلا بأمر من القضاء. (5) النص في وثيقة الوقف على حرمة الاعتداء والتبديل في الوقف
وذلك تذكيرًا وتحذيرًا من عقوبة الاعتداء والتبديل في الوقف؛ فلا تكاد تجد وثيقة وقفية تخلو من قول اللّه -عز وجل-: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيم}، ومثال ذلك ما جاء في خاتمة الوثيقة الوقفية للمدرسة التنكزية في القدس: «وقد صحَّ هذا الوقف ولزم، وصار وقفًا على الوجوه المشروحة في هذا الكتاب، فلا يحلُّ لأحد يؤمن باللّه العظيم واليوم الآخر، ويعلم أنه إلى ربه الكريم صائر؛ نقض هذا الوقف ولا تبديله ولا تغييره، ولا الحيد به عن وجوهه وشروطه المذكورة فيه، ولا بيعه ولا إتلافه ولا المناقلة به ولا بشيء منه، ولا يخرج إلى ملك أحد من سائر الناس أجمعين، بل كلما مرَّ بهذا الوقف زمن أكَّده، وكلما أتى عليه عصر أو أوان أخلده وسدده، فهو محرم بحرمات اللّه، متبع فيه مرضات اللّه، لا يوهنه تقادم دهر، ولا يبطله انقراض عصر، وهذا الواقف المسمى -خلَّد الله سعادته ونعمته- يستعدي إلى الله -عز وجل- على من يقصد وقفه هذا بفساد، أو يرومه بنقض وعناد، ويحاكمه إليه ويخاصمه لديه يوم القيامة يوم الحسرة والندامة، يوم التناد، يوم عرض الأشهاد، يوم عطش الأكباد، يوم يكون اللّه -تعالى- هو الحاكم بين العباد، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار،{فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيم}. النصُّ في وثيقة الوقف على مورد عمارته وصيانته
ولضمان استمرار بقاء الوقف نصَّت كافة وثائق الوقف على أن يبدأ الناظر بالصرف على عمارة الأعيان الموقوفة وترميمها أولاً، والعناية بشؤونها وإصلاح خدماتها، ثم الصرف من ريعها على ما حدَّده الواقف، فالوقف يرتبط غالبًا بالصرف؛ إما يصرف منه أو يُصرف عليه؛ فيصرف منه على من حددهم الواقف؛ وهم الموقوف عليهم، ويُصرف عليه ليستمر نفعه بعمارته وتشغيله وتنميته، جاء في «ترتيب الصنوف في أحكام الوقوف»: «تُصرف غلة الوقف على عمارته أولاً، ولو لم يشترط ذلك الواقف؛ وذلك لأن الواقف قد قصد بوقفه تأبيد صرف غلة الوقف، واستحالة تحقيق قصده هذا دون عمران الموقوف، الأمر الذي يَثبُت به شرط التعمير اقتضاءً»؛ ولهذا يفضل النصُّ في صياغة حُجة الوقف على عمارة الوقف، وترميمه، واقتطاع نسبة من الريع للترميم الدوري، لئلّا يتذرّع من أضمر الفساد بأنّ في تقديم العمارة اختلافاً، أو نحو ذلك. ٦- الإكثار من الشهود
ومن الأخطاء: كتم الوقف وإخفاؤه، فالأصل في الوقف أن يُشاع بين الناس، والإخفاء يكون بداية من الواقف؛ ظنًّا منه أن ذلك أكثر أجرًا، وهذا قد يدفع بعض الورثة إلى كتمان الوقف الذي وقفه مورِّثهم، ويتلفون عمدًا أي ورقة كتبها المورِّث؛ ليتصرفوا فيه بيعًا وانتفاعاً، وتنعدم قيمة مشافهة الواقف به، أو تكون حالة الشهود أو حيازة الورثة للوثيقة مع كتمان الأمر سبباً في إبطال الوقف بطريقة ما. ٧- إشهار الوقف في المجتمع
ومما شاع في العهود الإسلامية أن الواقفين كانوا يتعمدون الإعلان عن أوقافهم؛ حتى يعرف الناس على اختلاف طبقاتهم بالوقف وشروطه، ومن الطرق التي نقلتها كتب التاريخ؛ زفُّ كتاب الوقف بالأناشيد والأشعار في شوارع القاهرة! فضلاً عن الحفلات التي تقام -عادة- عند افتتاح المنشآت الموقوفة، مثل المدرسة وغيرها وفي إشهار وقف سعد بن عبادة -]- لأمه صورة من صور حماية الوقف؛ فقد جاء عن عبداللّه بن عباس -رضي الله عنهما-: أن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - (أخا بني ساعدة) توفيت أمه وهو غائب عنها، فأتى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن أمي توفيت وأنا غائب عنها؛ فهل ينفعها شيء إن تصدَّقت به عنها؟ قال: «نعم»، قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقةٌ عليها؛ فالأَوْلى إظهار الوقف والإعلان عنه، حتى لا يُنازع فيه، ولا سيَّما من الورثة، أو ممن يطمع في سلبه. فالوقف بعد لزومه والحكم به مآله إلى الشيوع والاشتهار أصلاً، ولن يبقى مكتوماً كصلاة العبد بالليل أو صدقته على الفقير في خلوةٍ، فإنّ الصلاة لله وحده، والصدقة على الفقير لا يضرّ صاحبها أنْ يجحدها الفقير بعد ذلك! أمّا الوقف ففي تعريضه لإمكان الجحد إضرارٌ به وبكلّ منتفعٍ به في شأن الدّنيا أو الآخرة، فإشاعته وإذاعة خبره أصلح من كتمانه، بل الإشهار من وسائل حماية الوقف المباشرة.
اعداد: عيسى القدومي