الموقف المنبهر
(الاستشراق بين منحيين.. النقد الجذري أو الإدانة)
أ. د. علي بن إبراهيم النملة
ثم يتوسَّع الحوار مدى قبول إسهامات المستشرقين ليتصدَّى للدفاع عنهم رهطٌ من علماء العربية ومفكِّريها، ويأتي مَن يُقرِّر أنَّ المستشرقين ليسوا كلهم أعداءً للعروبة والإسلام، فمنهم من أدَّى للعروبة والإسلام أجلَّ الخدمات[1]، وأنَّهم إنما ينقلون عن المؤلِّفين المسلمين[2]، ولعلَّ الكاتب يشير إلى شيوع ذكر الإسرائيليَّات عند بعض المفسِّرين، تلك التي أضحت (مصايد) لبعض المستشرقين للطعن في الإسلام[3].
وفي عبارة واضحة ينقل عبدالعزيز فارح عن طه حسين من مقدَّمة كتابه (في الأدب الجاهلي) قوله: "وإنما يُلتمس العلم الآن عند هؤلاء، ولا بُدَّ مِن التماسه عندهم، حتَّى يُتاح لنا نحن أنْ ننهض على أقدامنا ونطير بأجنحتنا، ونستردَّ ما غلبنا عليه هؤلاء الناس من علومنا وآدابنا وتاريخنا"[4]، وقد جاء حديث طه حسين هذا في سياق أخذ العلوم والآداب عن (الفرنج) والإلمام بها، وبما انتهى إليه (الفرنج) من نتائج علمية مختلفة، حين درسوا تاريخ الشرق وآدابه ولغاته المختلفة[5].
ومِن أبرز مَن تعصَّب للمستشرقين من روَّاد الفكر العربي زكي مبارك (1892 - 1952 م)، ومحمد يوسف موسى (1899 - 1963 م)، ويوسف أسعد داغر (1899 - 1981)، ونجيب العقيقي (1916 - 1982 م)[6]، وطه حسين (1891 - 1993 م)، وبنت الشاطئ عائشة عبدالرحمن (1912 - 1998 م)، وعبدالوارث كبير، وصلاح الدين المنجِّد (1920 - 2010 م)، وعبدالرحمن بدوي (1917 - 2002 م)[7]، ومحمد أركون (1928 - 2010 م)، وميشال جحا (1930 م)، وصادق جلال العظم (1934)، ومحمد عوني عبدالرؤوف (1929)، وهاشم صالح، وغيرهم[8].
ولسان حال غالبية هذه الفئة هو ما عبَّر عنه نجيب العقيقي حول المستشرقين بقوله: إنهم (... تناولوا تراثنا بالكشف والجمع والصون والتقويم والفهرسة، ولم يقفوا منه عندها فيموت بين جدران المكتبات والمتاحف والجمعيات، وإنما عمدوا إلى درسه وتحقيقه ونشره وترجمته والتصنيف فيه: في منشئة وتأثُّره وتطوُّره وأثره وموازنته بغيره، واقفين عليه مواهبهم ومناهجهم وميزاتهم، مصطنعين لنشره المعاهد والمطابع والمجلات ودوائر المعارف والمؤتمرات، حتى بلغوا فيه، منذ مئات السنين، وفي شتَّى البلدان، وبسائر اللغات - مبلغًا عظيمًا من العمق والشمول والطرافة، وأصبح جزءًا لا ينفصل من تراثنا، فإنْ نحن طوينا هذا الجهد تنكَّرنا للأمانة العلمية في البحث عن الحقيقة الموضوعية"[9]، ثم لا بدَّ من التوكيد على أنَّ هذا التصنيف وما قبله وما بعده إنما هو من استنتاج هذا الباحث، وهو لا يقلِّل من إسهامات هؤلاء العلماء ومكانتهم العلمية والفكرية، إلا أنَّ النقد هنا هو على المنهج لا على الأشخاص.
============================== =========
[1] انظر: عبدالوارث كبير: المستشرقون ليسوا كلهم أعداءً للعروبة والإسلام، فمنهم من أدَّى للعروبة والإسلام أجلَّ الخدمات. العربي، ع 102 (4 / 1967 م)، (ص: 144 - 145).
[2] انظر: عبدالوارث كبير: المستشرقون لم يفتروا، ولكن هذا ما قاله المفسِّرون، العربي، ع 68 (7 / 1964 م)، (ص: 146).
[3] انظر: مصطفى حسين: الإسرائيليات في التراث الإسلامي، (ص: 75 - 137)، في ندوة السيرة النبوية، طرابلس ليبيا، جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، 1986 م.
[4] انظر: عبدالعزيز فارح: المنهج الاستشراقي لدراسة السنَّة النبويَّة وعلومها، وجدة، المغرب، كلِّية الآداب، 2003 م، (ص: 5)، سلسلة رسالة المعاهد؛ كتاب 1.
[5] انظر: طه حسين: في الأدب الجاهلي، ط 10 القاهرة: دار المعارف. 1969 م، (ص: 16).
[6] يَعدُّ نجيب العقيقي نفسَه من المستشرقين اللبنانيين الموارنة (المدرسة المارونية)، وقد ترجم لنفسه في موسوعته (المستشرقون)، من بين ثمانية وثلاثين 38 مستشرقًا مارونيًّا، على أنه كذلك؛ انظر: نجيب العقيقي: المستشرقون، مرجع سابق (3: 335 - 338).
[7] انظر: محمد عوني عبدالرؤوف، وإيمان السعيد جلال: جهود المستشرقين في التراث العربي بين التحقيق والترجمة، مرجع سابق، (ص: 24 - 25).
[8] انظر: هاشم صالح (مترجم ومعد): الاستشراق بين دعاته ومعارضيه، مرجع سابق، (ص: 261).
[9] انظر: نجيب العقيقي: المستشرقون، مرجع سابق، (7: 1 - 8).