لَو لَم تَكُن فيهِ آياتٌ مُبَيِّنَةٌ كانَت بَداهَتُهُ تُنبيكَ بِالخَبَرِ
وأقبِحْ بمن يزعم اقتفاء السنة والأثر، وإذا أصخت السمعَ إليه وجدته قذع المنطق، لئيم الضريبة، دنيء الملكة، خسيس الشِنشِنة، يسب هذا ويلعن ذاك، ويبكت الثالث، همه أن يُضحك الناس من مُعارضه، أو أن يسكت مخاصمه، فإذا رأى ذلك ابتسم ابتسامة المنتصر!
ثم يُطربه بعدُ قِيلُ الناس ما حاصله: إنه لمسكت.. طويل اللسان!
............. هنيئاً مريئاً أنت بالفحش أحذق!
وقد قال الله عز وجل: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء: 53]، قال ابن جرير: قل يا محمد لعبادي يقل بعضهم لبعض التي هي أحسن من المحاورة والمخاطبة. ثم ساق بسند حسن عن الحسن البصري قوله: "التي هي أحسن، لا يقول له مثل قوله، يقول له: يرحمك الله، يغفر الله لك"[2]، وقد قيل إنها نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ شتمه رجل من العرب فهمّ به عمر وقيل بل أبو بكر[3]، وهذا الذي اختاره ابن جرير هو قول الجمهور[4].
وقال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، قال الحسن: "لين القول من الأدب الحسن الجميل، والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله وأحبه"[5]، وقال سبحانه: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]، وقال: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34-36].
"إن الله كتب الإحسان على كل شيء"[6]، وانظر إلى من كانت للمؤمنين فيه الأسوة الحسنة كيف كانت حاله، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة –رضي الله عنه-: أن بعض الصحابة قالوا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ادع على المشركين.
قال: "إني لم أبعث لعاناً، إنما بعثت رحمة"[7]، ومن تأمل دعاءه –صلى الله عليه وسلم- على المشركين أو لعنه لهم، وجده لنازلة أو مقتضٍ زائد عن أصل ما هم عليه، على الرغم من استحقاقهم اللعنة بكفرهم.
وقد أورد الأثر الإمام مسلم –رحمه الله- تعالى في باب عُنون له بـ: "باب النهي عن لعن الدواب وغيرها" فتأمل! ثم تأمل محل المستطيل على إخوانه من الأثر والسنة.
وفي الصحيحين أن طفيل بن عمرو الدوسي قدم وأصحابه على النبي –صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله إن دوسا عصت وأبت فادع الله عليها.
فقيل: هلكت دوس.
قال: "اللهم اهدِ دوساً وأتِ بهم"[8].
ومع ذلك يصر أناس ربما انتسبوا إلى السنة على إقناعنا بأن هذا الطريق الذي سلكه محمد –صلى الله عليه وسلم- في دعوة بعض الكفار؛ لا يجدي مع إخوته المخالفين من أهل السنة!
إن من السهل أن تُنشأ العبارات في قدح الخصم وذمه، ولكن لتتذكر أن مكافأتك في مقدوره، فالقدح لا يعجز عنه الصبيان، وكُلّك سوآت وللناس ألسن!
والعامة تقول: أفلس فلان! إذا عدل عن مقارعة الحجة والمنطق، بالسب والشتم تعريضاً أو تصريحاً، وقد صدقوا؛ فمثل هذا مفلس، ووجهُ إفلاسه غير منحصر في افتقاره إلى الحجة، فقد سمى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أمثال هؤلاء مفلسين ولكن من وجه آخر؛ جاء عند مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "أتدرون ما المفلس"؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار"[9].
وفي الصحيح عن عائشة –رضي الله عنها- أن يهود أتوا النبي –صلى الله عليه وسلم- فقالوا: السام عليكم.
فقالت عائشة: عليكم، ولعنكم الله، وغضب الله عليكم.
قال: مهلاً يا عائشة! عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش.
قالت: أوَلم تسمع ما قالوا!
قال: أولم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم في.
فانظر إلى ترك العنف والرفق، أي مردود جلب؟!
أيها الأخ الكريم المستقيم: لا يكن الجاهلي ذو الإصبع العدواني خيراً منك، وقد كان فيما قال لابن عم انقضت عقدته معه، واضطرب حبله، فكان يزري عليه ويسمع به:
لَولا أَواصِرُ قُربى لَستَ تَحفَظُها وَرَهبَةُ اللَهِ في مولىً يُعاديني
إِذاً بَرَيتُكَ بَرياً لا اِنجِبارَ لَهُ إِنّي رَأَيتُكَ لا تَنفَكُّ تَبريني
اللَهُ يَعلَمُني وَ اللَهُ يَعلَمُكُم وَاللَهُ يَجزيكُمُ عَنّي وَ يَجزيني
وهكذا أهل الحجا لا تستخفنهم الخصومة، بل يعقل ألسنتهم ما حباهم الله من العقل، فيمنعهم الخروج عن حد الأدب، ولا تدفعهم الإساءة لمثلها، وقد قيل: إذا خرجت من عدوك لفظة سفاهة فلا تلحقها بمثلها تلقحها؛ فنسلُ الخصام نسلٌ مذموم... إذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب ابتدأت بإحراق القادح، أوثِق غضبك بسلسلة الحِلْم؛ فإنه كلب إن أفلت أتلف[10].
فإياك إياك لا يستفزنك صراخ من لم يراقب صاحبُه الله فيما يقول، وتذكر ما قاله الأول:
لن يدرك المجدَ أقوامٌ -وإن كرموا- حتى يَذلوا -وإن عزوا- لأقوامِ
ويُشتموا فترى الألوان مسفرةً لا خوف ذلٍ ولكن فضل أحلامِ
• • • • • •
وما ذاك عن عجز بكم غير أنني أرى أن ترك الشر للشر أدفعُ
.................. ومن يعَضُّ الكلب إن عضا؟!
قيل إن الأحنف سبه رجل وهو يماشيه في الطريق، فلما قرب من المنزل وقف الأحنف وقال له: يا هذا إن كان قد بقي معك شيء فهات وقله ههنا! فإني أخاف أن يسمعك فتيان الحي فيؤذوك، ونحن لا نحب الانتصار لأنفسنا[11].
وإذا بغى باغٍ عليك بجهله فاقتله بالمعروفِ لا بالمنكرِ