وقفات مع سورة يوسف عليه السلام
سيد محمد أحمد عيسى مصطفى أحمذي
أولا مقدمة السورة
ثانيا: متن السورة
المحور الأول: الانتقال من يد الأب الحاني إلى ضيق الجب
المحور الثاني: سعة القصر في ثنايا ضيق الرق
المحور الثالث: ضيق الفتنة بين رحاب القصر
المحور الرابع: ضيق السجن مع السلامة أحلى من سعة القصر مع الفتنة
المحور الخامس: السجن سلم القصر.. من ضيق السجن إلى سعة التمكين
المحور السادس: النصر على الأعداء ولم الشمل
ثالثا: خاتمة السورة
خاتمة
وقفات مع سورة يوسف
وقفات مع سورة يوسف عليه السلام :هذه السورة مكية جاءت لتثبيت قلب النبي ﷺ ووجه الشبه بين قصتها وبين الواقع الذي يعيشه النبي ﷺ في مكة هي التسلية من ظلم الأقربين وعدوانهم لا لسبب سوى أن الله ميز المعتدى عليهم فشرقوا بغيظهم، وهذا من فعل الحسد والحسد متأصل في البشر؛ ولذلك فبمجرد ما تبين يعقوب أن يوسف صاحب شأن من خلال الرؤيا بين له أنه يخاف عليه أقرب المقربين منه وهم إخوته. فكذلك النبي ﷺ لم يكن إلا في ذروة السنام من قومه حتى جاء بما جاء به كذبوه وحسدوه وحنقوا عليه، {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} ( النمل:14).
والسورة تتألف من مقدمة ومتن وخاتمة، وسنستعرض كلا منها في نقطة مستقلة.
أولا مقدمة السورة
تتركز مقدمة سورة يوسف حول القرآن وطبيعة مصدره، وبيان صدق قصصه ودلالتها على صدق النبي ﷺ الذي لم يكن يعرف قبل الوحي أي شيء عن هذه القصص والأخبار، ولم يتعلم على معلم، فلولا الوحي لما علم ما علم من هذه القصص الخطيرة العظيمة الكثيرة التفاصيل والعبر والقضايا والجزئيات.
ثانيا: متن السورة
يتألف متن السورة من قصص وقضايا كثيرة متداخلة يمكن أن نجملها في المحاور التالية:
المحور الأول: الانتقال من يد الأب الحاني إلى ضيق الجب
المحور الثاني: سعة القصر في ثنايا ضيق الرق
المحور الثالث: ضيق الفتنة بين رحاب القصر
المحور الرابع: ضيق السجن مع السلامة أحلى من سعة القصر مع الفتنة
المحور الخامس: السجن سلم القصر.. من ضيق السجن إلى سعة التمكين
المحور السادس: النصر على الأعداء ولم الشمل
المحور الأول: الانتقال من يد الأب الحاني إلى ضيق الجب
في هذا المحور يصور القرآن يوسف حبيبا إلى والده مقربا منه، تؤكد مرائيه الصالحة مستقبله وخصوصيته بين أخوته، ما يزيد والده خوفا عليه وشفقة عليه من أن يسبب هذا التميز له سوءا سببه الحسد والحقد الذي جبلت عليه بعض النفوس المرضى ضد المميزين.
ومن هذا المقطع نتبين:
أن عداوة الشيطان للإنسان تتطور حتى يستغل الشيطان بعض المقربين ليكونوا له أعداء وأعوانا للشيطان عليه، كما وقع ليوسف وإخوته، وكما في قوله تعالى:{يَاأَيُّه َا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [سورة التغابن:14].
أن في تفسير يعقوب لرؤيا يوسف إجمال يليق بالأنبياء أدبا مع الغيب، وتربية للولد على الثقة في الله والأمل فيه، فلم يحدد له نوع الكواكب ولا نوع القمرين.
في قوله: {قَالَ قَائِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِين} [سورة يوسف:10]. إقرار قرآني لقاعدة ارتكاب أخف الضررين، ودفع كبرى المفسدتين بارتكاب صغراهما، وهو قاعدة متقاطعة مع سد الذرائع، فكما أن الذريعة المخوفة من سب الأصنام هي سب الله، فسكتنا عن الأصنام، وديننا جاء لهدمها وإزالتها حتى لا يسبوا الله عدوا بغير علم وندخل في سباب لا نهاية له، ولكن هذا الارتكاب كان مؤقتا، تركنا له هذه الوسيلة، وحققنا المقصد بغيرها.
أن ما يقع في النفس من المخاوف يصعب على الإنسان كتمه أحيانا والأولى كتمه؛ إذ إفشاؤه قد يسبب أضرارا للإنسان كبيرة، فهذا نبي الله يعقوب عليه السلام ذكر خوفه من الذئب على يوسف، والحقيقة أنه يخاف الإخوة وليس الذئب، فكان ذكر الذئب سببا لهم في تعليق جريمتهم عليه([1]).
يحتمل تشبيه إخوة يوسف بالكواكب كونهم ممن يقتدى به، وهم قدوات على أقل تقدير لبنيهم الذين فيهم الأنبياء والصالحون، وقد شبه رسول الله ﷺ أصحابه بالنجوم في قوله: «*النجوم *أمنة للسماء، فإذا ذهبت *النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا *أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي *أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون»([2])، وهذا يدل على أن الحسد والضرر يتوقع حتى ممن ظاهرهم الصلاح.
في قصة يوسف مع إخوته ما يقتضي أن الإنسان عليه ألا يبالغ في الإعلان عن محبوباته حتى لا يسبب الاستعلان بذلك ضررا للمحبوب من حسد أو غيره، فما ينشده إخوة يوسف حسب ما أعلنوا {اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [سورة يوسف:9]، هو أن يجدوا من يعقوب ما يصفو لهم، وهو ما لا يتوقعون وجوده إلا في ظل غياب يوسف.
من ما يجرئ الإنسان على المعصية، ويدفعه لتأجيل التوبة ظنه النَّساء حتى يتوب، كما في قول إخوة يوسف: {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِين} [سورة يوسف:9].
في الإتيان بالقميص غير مشقوق دلالة على فساد الباطل، والثغرات التي تبقى رغم إحكام التخطيط، وهي ما ينبغي أن ينتبه له المؤمن دائما لأن الحق حصين والباطل هش.
وفي قولهم: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِين} [سورة يوسف:17] دلالة على أن الجاني في الغالب يأتي بما يشهد عليه من أحاديثه رغم تحفظه ويقظته، ومن شأن ذوي الطباع السليمة من المؤمنين الانتباه لمثل هذا.
المحور الثاني: سعة القصر في ثنايا ضيق الرق
في هذا المقطع يظهر يوسف وقد دخل قصر عزيز مصر، وألقى الله محبته في قلبه، بدل زهد البائعين له فيه، فأوصى العزيز امرأته به:{أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [سورة يوسف:21]، وفي إدخال يوسف القصر في زي العبد من لطف التدبير ما لا يعلمه إلا الله.
ففي ضيق الرق وشدته على الأحرار نجد هذا الحب العميق الذي ألقي في قلب العزيز تجاه يوسف، بل ونجد أن امرأة العزيز قد أحبت يوسف كذلك، بل وافتتن به النساء، وذلك وإن كان من صرف الحب عن وجهه وتوجه به في غير مساره لكنه أيضا دليل على العناية التي خص الله بها يوسف عليه السلام، وعلى النور الذي يتسلل إليه بين فجاج ظلمات المكر والظم الذي يتعرض له.
وفي هذا المقطع نستخلص عدة عبر منها أن:
أن الفرج يأتي مع الكرب، وأن اللطف يصاحب الإنسان في كل أحواله، وأن الإنسان ما دام مع الله فكل شيء معه، وما دام غافلا عن الله فلا ينفعه من كان معه.
المحور الثالث: ضيق الفتنة بين رحاب القصر
وفي هذا المقطع يتبين أن:
في افتتان المرأة بيوسف وحبها له وافتتان النسوة به بعد ذلك دليل على أن الفتن تتنوع للمؤمن {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [سورة الأنبياء:35] تارة بالسراء وتارة بالضراء، وهو في كل ذلك ممتحن، وقد ابتلي يوسف ببغض إخوته له، وهم ألصق الناس به، وحب المرأة له، وهي بعيدة عنه اجتماعيا وجغرافيا، وطبقيا، فهو عبد وهي امرأة العزيز!، فسبحان من زهد فيه الأقربين، وأرغب فيه الأباعد، كما ابتلي عليه السلام مرة أخرى بالضراء في السجن، وبالسراء في الملك، وكلها ابتلاءات استوعب درسها فكان مع الله فيها فكان الله له.
في رد يوسف على المرأة حين راودته عن نفسه أسلوب حكيم عجيب، فهو لم يقل لها إنه ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ولم يحدثها عن اليوم الآخر وخوف الله، إنما حدثها عن موانعه بقدر إدراك عقلها {مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُون} [سورة يوسف:23]، وفي هذه الكلمات الموجزة من الحكم الجليلة ما لا يكاد يحصى عددا؛ ومنها:
أن يوسف ذكر الجانب الأخروي مجملا من دون تفصيل فقال: {مَعَاذَ اللّهِ} [سورة يوسف:23] أي أعوذ بالله من أن أقع في حرام وفي فحش، ولكن لما كانت هذه الكلمة تحتمل الاستعاذة بالله، وتحتمل معنى الرفض فقط أوهمها أنه يقصد معنى الرفض فقد فعلل الرفض بأن العزيز ربه بمعنى سيده الذي يخدمه، ولا يليق بالعبد أن يعق سيده ويخونه في أمانته، وفي هذا التنبيه التفاتة إلى أن السيد الأعلى ورب الأرباب أولى بالرعاية، فرقابته حاضرة، وإحسانه أِشمل، وحقه آكد.
وفيها التفاتة أخرى إلى أن رعي العبد لحق السيد يؤكد وجوب رعي الزوج لحق زوجها وحفظ نفسها فيه
أن يوسف اعتذر لامرأة العزيز بإحسان العزيز، وفي هذا لفت لها إلى أن إحسان العزيز إن وفى بحقه خادم يجب أن تكون زوجة العزيز أكثر وفاء وأبعد عن الخيانة.
وفيها بيان لخطورة عاقبة هذا الفعل، وأي خيانة مشابهة له، فالظالم لا يفلح سواء كان أجيرا خائنا أو زوجا خائنة أو غير ذلك، فالظالم لا يفلح أيا كان.
وفيه تعريض بظلمها ليوسف حين تعرضه لسخط العزيز وهو لا يريد أن يسخطه
وفيه خطورة الإحسان، وما يرتبه على المرء من حق للمحسن، لذلك يتحاشى الصالح إحسان الطالح إليه حتى لا يستميله، أو يظهر كاللئيم حين لا يفي له.
في ظاهر القرآن ما يتقضي أن يوسف هم بالمرأة، وهذا الهم وإن اختلف في تفسيره لا يمنع مانع من أن يكون هم بها كما يهم البشر بالبشر في مثل هذه الحالة، وهو أليق بالأنبياء، إذ يكون إنما انصرف هنا مع شدة الرغبة لخوف ربه، وعظمة إيمانه به، بغض النظر عن برهان التثبيت الذي جاءه في هذه اللحظة، وهو برهان تثبيتي جائز أن يقع لكل مسلم تعرض لفتنة، والمرسلون بمقتضى العصمة في الصدارة من كل ذلك فمن هذا التثبيت الواقع لعموم المسلمين ثبيت الولد أمه حين خافت أن تقع في الأخدود([3])، وتثبيت الله لبني إسرائيل بالتابوت فيه سكينة، وتثبيت مريم بتكليم عيسى لها وهو في المهد، ومن الواقع منه للأنبياء تثبيت الله ليوسف بالوحي حين ألقي في الجب، وتثبيته له -حين كذبت عليه المرأة- بشاهد من أهلها يقال إنه كان في المهد، وغيره أكثر من الحصر.
في سبق امرأة العزيز ليوسف بالكلام دليل على أن بعض البشر أقدر من بعض على الحديث، وعلى اللجاج في الخصام كما قال النبي ﷺ: “إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ (منه شيئا)، فإنما أقطع له قطعة من النار”([4])، فلذلك سبقته بالكلام واتهمته فاضطر للدفاع عن نفسه بأقل كلام وأوجز عبارة {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} [سورة يوسف:26] ورغم استبعاد مراودة المرأة الرجلَ عن نفسه عادة فقد بين عذره وتركه للطرف الثاني يقبله أو لا يقبله، فهو يعتذر عن نفسه ويبين وظه الظلم الذي وقع عليه. وهذا يعكس عفة لسانه، وكأننا به لا يقص الأمر ولو لم تتكلم المرأة لما تعرض للموضوع.
في قول العزيز: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِين} [سورة يوسف:29] عبر كثيرة منها:
أن بعض الناس لا يخلو من دياثة ولو كان عزيزا في قمة السلطة
أن بعض القضاة لا يرجى منه عدل فقد اكتفى بهذا النصح العام رغم وضوح براءة يوسف وإدانة المرأة. كما أجمع أمرهم من بعد على سجنه رغم وضوح أدلته براءته {ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِين} [سورة يوسف:35].
أن الطرف الضعيف قد يلقى عليه عبء لا يتسطيع تحمله، في حين يخفف الحمل عن الطرف القوي إلى أبعد حد؛ فهذا الأمر الذي شاع كلف يوسف بعدم التعرض له، رغم ما في تعرضه له من بيان لبراءته وإعذار من نفسه، بينما نصحت المرأة نصيحة أدبية، وبين لها بأسلوب أٌقرب للدلال أنها كانت على خطأ، ولم تحذر -بأسلوب عملي- من الرجوع لمثل ما وقعت فيه، بل لم يفصل بينها وبين سبب الفتنة هذه، وتركا في نفس القصر يعملان في نفس الظروف، ما يهدد بتكرر نفس الخطأ مرة أخرى.
سمى القرآن هذا التناجي على المرأة واغتيابها مكرا، {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} [سورة يوسف:31] وكل غيبة مكر، مكر بالمغتاب، لكنها في حقيقتها مكر من الفاعل بنفسه، إذ يعطي حسناته من دافعه للحديث عنه بغضه وغرضه من الكلام فيه التقليل من شأنه، وفي هذا من التناسب بين المكر الذي ظن المغتاب أنه فعل، والمكر الذي فُعل به فعلا تناسب لطيف.
استاءت امرأة العزيز من اتهامها بالقصور، وضعف الذائقة وسوء الاختيار، فأرادت أن تبرهن لمن اغتبنها وسفهنها على حب فتاها أنه جدير بالحب، وأن فتنته غلابه وجماله أخاذ ساحر، فجمعتهن في جو من الرفاهية عظيم، وأمرت يوسف أن يمر عليهن فكانت الدهشة التي غفلن بسببها عن أجسادهن، وطفقن يقطعن أيديهن مندهشات من الجمال الأخاذ، والحسن الباهر, ولم تفوت امرأة العزيز الفرصة؛ إذ وجدت أنها وإن كانت رغبت فيه، وعشقت حسنه فلم يصل بها الأمر إلى ما وصل إليهن حيث {أَكْبَرْنَهُ} [سورة يوسف:31] وغابت عقولهن وأحاسيسهن، {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [سورة يوسف:31] من شدة الدهشة وذهاب العقل، وذهبن يشبهنه بأجمل ما يتخيلن، {مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيم} [سورة يوسف:31] فاستغلت اللحظة واضطرت تحت الإحساس بالغلبة والشعور بتصويب رأيها في جماله أن تعترف اعترافين:
الأول: بأنها راودته عن نفسه، بمعنى أنها أحبته وعشقته وهويته، وأنها تفضلهن بالسبق لهذا الجمال، والتقدم في الإحساس به والتعلق به رغم تمنعه منها ورفضه لها.
والثاني: أنها ما زالت متعلقة به وراغبة فيه، بل ومصرة على أن يطعمها من جماله، ويذيقها من ثمار حسنه، وإلا تعرض للعذاب والإهانة.
وفي هذا دليل على قابلية النساء لإفشاء الأسرار، فقد أفشت سر نفسها وفضحتها حين وجدت أن الأمر مقبول عند النسوة، وفيه شدة تأثرهن بالجمال، وقوة ميلهن العاطفي.
المحور الرابع: ضيق السجن مع السلامة أحلى من سعة القصر مع الفتنة
تتجلى ربانية يوسف في علاقته بالله تعالى في كل أحواله، ويتضح ذلك لما رأى شدة فتنة النساء به، وتصريحات امرأة العزيز بالرغبة فيه والإصرار على استمالته بالقوة حين لم يجد معه التزين والتغنج في الخلوات، فالتجأ إلى ربه، معلنا أن أشنع ما يهدد به أحب إليه مما يغرى به {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [سورة يوسف:33]، معلنا لربه بشريته وضعفه وحاجته إلى السند القوي المعين {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِين} [سورة يوسف:33]، وهذا المستوى من العبودية، والتضرع والصدق في الدعاء تحت الإكراه يستصحب الإجابة دوما لذلك قال الله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [سورة يوسف:34]، وهذا شبيه بقول الله تعالى في استغفار موسى عليه السلام من قتل القبطي: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [سورة القصص:16] فقال الله {فَغَفَرَ لَهُ} [سورة القصص:16]، ولم يقل وسيغفر له.
وفي اختيار يوسف السجن على الفتنة أصل لارتكاب أخف الضررين، وإ ن كان سؤال السلامة أولى وأسلم([5]).
وفي تقرير الجهات المعنية سجنَ يوسف رغم الآيات والبراهين الدالة على براءته دليل على أن الطرف الضعيف -بميزان أهل الدنيا- يكون الضحية دائما، وذلك لا يمنع من أن يكون تام الولاية لله، فهذا النبي الكريم وقع له ما وقع، وفي ذلك تثبيت للمؤمنين على طريق الحق.
في فصل السجن من فصول حياة يوسف تتجلى سمتان بارزتان من سمات شخصيته الفذة، ومظهران من مظاهر أسلوبه الأخاذ وهما:
الأول: نفعه المتعدي، فقد عبر السجينان عن ذلك بقولهما: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِين} [سورة يوسف:36]. ولولا ظهور هذا الخلق عليه، وتمثله له، وتجليه في ظاهر أفعاله لما وصفاه به، وما الإحسان بعدل، وإنما هو زيادة، على العدل، وكرم في النفس ودماثة في الخلق.
الثاني: علمه بتأويل الأحاديث؛ لذلك عرض عليه السجينان تأويل رؤياهما، ولولا صلاحه الظاهر ما اختاراه من بين كل المساجين([6]).
في رد يوسف على السجينين بالحديث عن مواهبه جواز تزكية النفس، وبيان القدرات والمواهب إن دعت لذلك ضرورة.
وفيه التلطف في الدعوة إلى الله تعالى، وبيان حال المسلم في مقابل حال الكافر
وفيه بيان ما أطلع الله عليه يوسف من الغيب، {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا} [سورة يوسف:37] وفيه أدب مع الله، فلم يخبر عن جميع المغيبات التي يطلعه الله عليها، وإنما أخبر عن نوع واحد منها خاص بأشخاص محصورين، ليبين لهم أن تعبير الرؤيا وإن كان ظنيا فإن عند هذا النبي المرسل من العلم اليقيني ما يغنيه عن الاشتغال بالظنيات
وفيه دعوة المشرف على القتل إلى الإسلام.
وفيه إيهام العاصي بالشراكة معه في المعصية تسهيلا للتوبة عليه، إذ في قوله: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُون} [سورة يوسف:37] لطف فهو لم يتبع تلك الملة أصلا.
وفي ذكره لآبائه جواز الفخر بالآباء في الخير عند أمن الفتنة، وقوة الداعي الشرعي، وبيان لعدم شذوذه فيما هو من الدين عليه.
وفي رد الهداية إلى الله وأنها من فضله ما يخفف شعلة الفخر، ويطفئ نار ما يتوهم منه من تكبر وغرور.
وفي ذكر فضل الله على الناس تلطف وإشارة لكون هذا الأمر غير خاص بنا، بل عام على كل من أخذ بأسبابه فشكر الله بصرفه نعمه فيما خلق له.
وقد خاطب يوسف السجينين بمقتضيات العقل {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار} [سورة يوسف:39] مقتضيات العاطفة {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} [سورة يوسف:37].
عبر يوسف الرؤيا، وبين وجهها فأنكر الرائيان أنهما رأيا شيئا، فأخبرهما أن هذا الأمر مقضي لا محالة، وفي ذلك من قوة التعبير ما لا يخفى, وهو تعبير غير ظني؛ إذ هو مسدد بالوحي معصوم من الخطأ فيما يخبر به، ولذلك قال لهما: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَان} [سورة يوسف:41]، وقد يكون هذا من تأويل اليقظة([7])، فقد حمل عليها بعضهم قول يوسف: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا} [سورة يوسف:37] ، كما يحمل عليه ما ورد في بعض الحالات من تعبير الأقوال مثل قوله ﷺ لرجل: “شم سيفك فإني أرى السيوف ستسل اليوم”([8])، وقول عمر رضي الله عنه لجمرة بن شهاب: “الحق بأهلك فقد احترقوا”([9])، وهو في التفاؤل لا إشكال فيه نحو: “سهل لكم من أمركم”([10])، وأما في الجانب الآخر فما ظاهره الطيرة منه يؤول بغيرها([11]).
في طلب يوسف من الذي ظن أنه ناج من السجينين ذكره عند الملك جواز الشفاعة، والتوسل للملوك بجلسائهم والوجيهين عندهم، وفي معاتبة الله له على ذلك بنسيان المستوصى ومكث يوسف في السجن بضع سنين إشارة إلى أن لكل إنسان بحسب اصطفائه ما يليق به من الوسائل، فوسائل الصالحين الدعاء وتمام التوكل ثم الأخذ بالأسباب بعد ذلك أدبا مع الله، ووسائل غيرهم بحسب قوة الإيمان فيهم بدءا بالأسباب أو ختما بها, والأخذ بالأسباب مع تمام التوكل مطلوب على كل حال، ويخدش في الصالح من الركون إلى الأسباب ما لا يخدش في من دونه.
ويؤخذ من عتاب الله لنبيه حين أخذ وسيلة لا يرضاها لمقام العالي، حتى يلبث في السجن بضع سنين، أن المؤمن عليه أن يرضى بالمقام القدري الذي أنزل فيه، فإن كان الله عوده التشريف لا ينبغي له أن يتسافل إلى منازل الأراذل، وإن كان ذلك في المباحات، فيأخذ بالعزائم وفق ما يليق بشرفه في عباداته ومعاملاته وأخلاقه كلها، ولا يترخص إلا عند الضرورة، وقد يفهم هذا التفاوت في زيادة التكليف –الاختياري- على بعض النابهين دون سواهم، فقد قبل النبي ﷺ من بعض الناس قوله في شأن أركان الإسلام: “والله لا أزيد على هذا ولا أنقص”([12])، ورفض لبعضهم ترك بعض النوافل: “لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل“([13]).
وإنساء الشيطان للناجي طلب يوسف وإن كان بقدر الله فهو دليل على عداوة الشيطان المتأصلة لبني آدم، ومعاونته للشريرين في إيصال الضر إلى الأخيار، كما قال يعقوب ليوسف في شأن إخوته: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِين} [سورة يوسف:5].
المحور الخامس: السجن سلم القصر.. من ضيق السجن إلى سعة التمكين
في هذا المقطع يتجه يوسف للخروج من السجن، إلى التمكين ويتمهد ذلك من خلال الموهبة التي وهبه الله في تعبير المرائي، فتكون الموهبة الخفية، والسجن البعيد سببا لظهور تلك الموهبة، وتقريب ذاك السجين إلى القصور، وفي هذا المقطع يتجلى أن:
من حكمة يوسف إنزال الناس منازلهم، فقد عجل التأويل للملك لمكانته، وأخر التأويل عن السجينين حتى يدعوهما، لأن الملك يحتاج مع يوسف إلى إثبات مكانة يوسف العملية، والسجينان ثبتت عندهما بأعماله وأخلاقه، ففيهما القابلية للاستماع أكثر من الملك.
في زيادة يوسف على رؤيا الملك أمور عجيبة، فقد زاد فيها نصحا، فأخبرهم بأهم وسائل حفظ الحصاد، {فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ} [سورة يوسف:47] زاد فيها إخبارا عن أن الشدة لن تأتي على كل مدخرات زمن الرخاء، وإنما سيبقى بعضها وإن قل، كما أخبر أيضا أن بعد الشدة رخاء، وهو وإن كان مفهوما من نهاية الشدة، فإن إضافة يوسف فيه هي: عصر الناس، وذلك لا يكون إلا بالغيب الذي يطلع الله عليه أنبياءه صلوات الله وسلامه عليهم.
في رفض يوسف الخروج من السجن حتى تثبت براءته دليل على أهمية صفاء السيرة الذاتية، وسلامتها من المشينات، وفيه أن الحفاظ على العرض من الوقوع في الشبهات أولا كالحفاظ عليه مما علق به من التهم ثانيا، فكل ذلك يستبرئ منه المسلم.
في توجيه يوسف للملك نحو النسوة بدل امرأة العزيز ملمح بديع، فقد اتجه إليهن مع ما جبلن عليه من الحسد لها على النعمة التي هي فيها، حتى يظهر الحق بسبب قيلهن فيها، ويشهدن عليها بما صرحت به أمامهن من إقرارها بمراودة يوسف عن نفسه، وتهديدها له إن لم يستجب لطلبها بالسجن والعذاب الأليم، وهو استغلال لتناقضات الأعداء يظهر معه الحق والصواب. وقد أكد هذا المعنى حين لم يصفهن بسوء، ولم يزد على أن وصفهن بالعلامة الظاهرة عليهن من أثر تقطيع الأيدي، دون أن يتهمهن بمراودتهن له عن نفسه، تحييدا لهن عن ساحة العداء، وتقليلا للأعداء، وارتكابا لأخف الضررين، ودفعا لكبرى المفسدتين بارتكاب صغراهما. وفيه البدء بصغار المذنبين عند تعذر الوصول إلى كبارهم، لا قسوة على الضعيف، ولا رحمة بالوقوي وإنما تدرجا في الوصول إلى الأهداف.
الواضح أن النسوة دعين يوسف للاستجابة لطلب امرأة العزيز، ولعل ذلك هو مراودتهن له عن نفسه، ليستجيب لها لا لهن، ويشهد لهذا الوجه قول الله تعالى: {السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} [سورة يوسف:33] فواضح أن هناك دعوة، بالأصالة للمرأة وبالتبع لهن، لذلك سألهن الملك {مَا خَطْبُكُنَّ} [سورة يوسف:51] فاضطررن للإجابة من وجهين:
الأول: {قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ} [سورة يوسف:51]. هو كلام مجمل يحتمل تنزيه يوسف كما يحتمل تنزيه أنفسهن
الثاني: {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ} [سورة يوسف:51]. وهو كلام ظاهر في التزكية لكنه ليس نصا فيها، فكان الأولى بهن لولا المكابرة أن يقلن: ما علمنا عليه إلا خيرا.
ولما وقفت امرأة العزيز أمام هذا المشهد وبقي مرتبكا، ولا يتم فيه معنى إلا بتصريح، والتصريح سيؤدي في النهاية إلى فضح المرأة، لأن كونهن في صعيد واحد يمنعهن من التشاور، ولا بد أن يبررن ما طلب يوسف تبريره وهو تقطيع أيديهن، وجدت امرأة العزيز أن خير الوسائل للدفاع هي الاعتراف حتى لا ينكسر ضميرها بسبب ثبوت المراودة عليها بالبينات، فاضطرت للاعتراف {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِين} [سورة يوسف:51]..
ويحتمل قول الله تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِين ﱁ وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ} [سورة يوسف:52-53] أن يكون من كلام يوسف أو من كلام امرأة العزيز، والأوضح أنه من كلام يوسف اعتذارا منه عن رفضه الاستجابة لأوامر الملك بالمثول أمامه، واعتذارا منه للعزيز أنه لم يخنه في أهله، وكأنه يقول بلسان الحال: أيها الملك وأنا أبحث عن وظيفة عندك، وطمأنة لك على نزاهتي كما اطمأننت لعلمي أريد أن أبين لك أني لما لم أخن الملك في أهله رغم توفر البواعث والدواعي، وتحملت السجن بسبب عفتي فمن الطبيعي أن أعف عن المال إذا جعلتني على خزائن الأرض…
كما أن قوله: {وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي} [سورة يوسف: 53] أليق بيوسف منه بالمرأة التي لا يعرف لها حتى هذه اللحظة إسلام، ولذلك نفى يوسف عن نفسه أدبا منه مع ربه العصمة الذاتية، رادا العصمة إلى من هي منه وهو الله جل جلاله وعظم كماله.
المحور السادس: النصر على الأعداء ولم الشمل
مكن الله ليوسف عبر تعبير الأحاديث، وجاء إلى التمكين والسلطة والقيادة مبرئا من كل عيب لا يزن بريبة، فلما كلمه كان قما قال الشاعر:
كانت محادثة الركبان تخبرني عن جابر بن رباح أحسن الخبر حتى التقينا فلا والله ما سمعت أذني بأحسن مما قد رأى بصري
لذلك لما كلمه الملك قال له: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِين} [سورة يوسف:54]، وهنا حان الوقت المناسب لطلب يوسف عليه السلام للمنصب الذي يرى أنه يخدم به الدين ويمكن به للدعوة، ولم يقدم الطلب قبل هذه اللحظة؛ لأن تقديم الطلبات للملوك قبل التوثق من ثقتهم في الطالب يجعلهم يصنفونه ضمن لائحة السائلين والراغبين في المال والجاه والمنصب وما أكثرهم، ويوسف من تلك الأخلاق بريء، وحكمته وتلطفه في حاجته اقتضيا التأخير حتى هذه اللحظة، {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم} [سورة يوسف:55]، ويوسف عليه السلام إنما وصف نفسه بهذا الوصف وزكى نفسه هذه التزكية؛ لأنها المناسبة لحال للمنصب الذي يريد أن يجعل عليه فالحفظ مأخوذ من قوله في ثنايا تعبير الرؤيا {فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُون} [سورة يوسف:47]، والعلم مأخوذ من تعبيره للرؤيا وإدراكه للمآلات التي حدث عنه السجانين وعرفه الملك، فهو ليس علم ادعاء، وإنما هو علم شاهدوا براهين وجوده.
وبهذا يمكن الله ليوسف في الأرض، ليبدأ صفحة جديدة من حياته وهو ملك {وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين * وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُون} [سورة يوسف:56-57].
وقول الله تعالى: {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} [سورة يوسف:56-57] تنبيه إلى أن مرامي يوسف ليست المنصب والجاه والمال وإنما هي وسائل للتمكين لدعوته ودينه، وأسباب لملك وسائل التأثير في هذا المجتمع الوثني حتى يسهل دعوته لله تعالى ولكلمة التوحيد.
ويسدل الستار القرآني على يوميات يوسف في الملك فلا يذكر منها إلا ما فيه العبرة المناسبة لموضوع السورة، وهي كيد الأقربين للصالحين، ولزوم الصالحين للصبر والأدب، والرد بالحسنى في كل ظرف وعلى كل حال. وتختفي امرأة العزيز وكيدها، والعزيز وكل ما لا علاقة له بيوسف، وبالعبرة من قصته، بل يختفي ما أجمل في الرؤيا فلا عودة لشيء من ذكره بعد.
وفي هذا المقطع من السورة:
بشارة بأن النبي ﷺ صاحب أسوة بيوسف فقد جاءه إخوانه جائعون فاسترحموه، ورغبوا إلأيه في الدعاء بصرف الجدب فدعا لهم بشرط الإيمان فلم يؤمنوا([14])، وجاءهم فاتحا فاستعطفوه فقال لهم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”([15])، وهو معنى: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين} [سورة يوسف:92]، واستعصى عليه إسلامهم فدعا عليهم بسنين كسني يوسف([16]).
وفي هذا المقطع من السورة جاء إلى يوسف من أخطأوا في حقه ومن كانوا سبب كل هذا العذاب والمهانة له، بدنيها ونفسيها، بدءا من الجب، إلى البيع رقيقا، إلى التعرض للفتن داخل قصر العزيز، وما بعد ذلك من كيد النساء وتمالئ الملأ على الغريب النائي الأهل والدار، ثم السجن وعذاباته وطول أمده…
جاء من كانوا السبب في كل هذا إلى يوسف {فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُون} [سورة يوسف:58]. والقرآن يصور لنا هنا مشهدا من مشاهد حلم يوسف وحكمته، حلم ملك يأتي إليه ظالموه ووسائل المكر بهم كثيرة، فيحلم، ويصفح، ويأتي إليه إخوته فيمسك عاطفته، ويصبر فلا يظهر لهم شوقه لهم ولا لوالدهم ولا لأخيه، وهو منهج في تدبير الملك يتعالى على القضايا الشخصية والمشاعر الشخصية بشتى طرقها.
جاء إخوة يوسف إلى عزيز مصر وهم لا يعرفونه، {ﲍ ﲎ} [سورة يوسف:58]، وفي هذا الدخول دليل على شدة عنايته بالمهمة التي اضطلع بها، وهي مهمة الكيل والوزن، وتوزيع الطعام على الناس في زمن الجدب، والواضح أنه عليه السلام كان يعطي للناس بحسب حاجتهم الواضحة لا بحسب دعاواهم، فمن جاءه ببعير حمّله له طعاما، ولا يقبل منه دعوى عدد بشري لا دليل مادي عليه، لذلك طلب منهم أن يأتوه بأخيهم الذي أخبروه عنه وقد نكره ولم يضفه لهم إيغالا في تجاهله له، وإبعاد شبهة العلم به عنه([17]).
والواضح أنهم أعطوا يوسف بعض المعلومات عن العائلة، وعن أخيه وأبيه فلم يظهر اهتماما كبيرا بها، وإنما دفعهم إلى تأكيد تلك الملعومات، وتقديمها برهانا على بعدهم عن الكذب، وصدق قيلهم فيما قالوا؛ لذلك وعدوه بطلب أخيهم من والده، وأطمعهم في الإحسان إذا جاءوا به، وأخافهم من الحرمان إذا لم يأتوا بهم بل حذرهم من الدخول في أرضه، وهو أسلوب يليق بالملوك حين يجمعون بين الترغيب والترهيب، والتحذير الصارم عند المخالفة {فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُون} [سورة يوسف:60].
ولمعرفة إخوة يوسف بوالدهم (وبتاريخهم مع يوسف، وتاريخهم مع والدهم وعدم تصديقه لهم لما جرب عليهم من الكذب والكيد لإخوانهم، وإهمال مشاعر والدهم ونكئه في محبوبه) لم يجزموا بالإتيان بالأخ، وإنما جزموا بمحاولة ذلك {سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُون} [سورة يوسف:61].
ويستمر التخطيط عند يوسف لكل ما يعمل، فكل أعماله موزونة، وثقته في الله لا تمنعه من الأخذ بالأسباب؛ لذلك أمر غلمانه بقوله: {اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون} [سورة يوسف:62]، وواضح أن الأمر برد البضاعة إليهم لتأكيد رجوعهم، حتى تزداد ثقتهم في الأمير، وهي تأكيد لما تقدم من وفائه للكيل، وحسن المقام عنده([18]).
ويطوي القرآن الطريق كما فعل في أغلب هذه الرحلات، ويصور القوم وهم بين أيدي والدهم يحدثونه عن نتيجة هذا السفر، ويقدمون بين يديه أبرز الموانع من الكيل وهو غياب أخيهم عنهم {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [سورة يوسف:63]، وذلك أن يوسف رفض إعطاءهم أي كيل إذا لم يأتوا بأخيهم، فخوفهم في المجاعة الطويلة من مستقبل لا ميرة فيه، وطمعهم في الميرة دفعهم لتقديم الخوف من المستقبل، والرجاء فيه بإرسال أخيهم، على الحديث عن نتيجة الرحلة الماضية، وحتى عن فتح الأوعية والنظر فيما فيها([19]).
ويستمر الحديث في المهمة الأساسية وهي استجلاب أخي يوسف إلى يوسف واستخلاصه من حفظ والده، ويشرحون لوالدهم كيف سيحفظونه، وفائدة السفر به في زيادة الكيل، وثقة الملك، ويأخذ منهم العهود والمواثيق رغم غياب ثقته فيهم، وتأكيده على غياب هذه الثقة {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ} [سورة يوسف:64]، وينصرف من إيداعه لهم إلى إيداعه لله {فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} [سورة يوسف:64]، ويبدأ يعقوب عليه السلام يتدبر مستقبل ابنه ويخطط لنفسه متوكلا على الله {اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيل} [سورة يوسف:66] موصيا أبناءه وصية المؤمن الآخذ بالأسباب على ضعفها وضعف نتائجها المتوقعة {لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُو ن} [سورة يوسف:67].
وتوصية يعقوب لأبنائه بالتفرق عند الدخول إجراء تأميني يحتمل عدة احتمالات:
الأول: أنه كان خوفا عليهم من العين، وهو أمر ممكن.
الثاني: أنها كان خوفا عليهم من أن يثيروا انتباه الناس بدخولهم؛ لأن وفدا هذا عدده من النادر دخوله دون لفت للانتباه، وقد يسبب لفتهم انتباه الناس إلى تحقيق مهم يؤدي إلى حجبهم عن الملك وعدم وصولهم لغرضهم.
وأثبت القرآن أنهم امتثلوا هذا الأمر، وذلك يقتضي إباحته، وإن كان النفع فيه مشروط بإرادة الله تعالى.
وعند مجيئهم الثاني ليوسف قدم القرآن تعريف يوسف لنفسه على أخيه، وإفراده عن إخوانه، وهو أمر متفهم في سياسة الملك، وكأنه برر إفراده بأن يسأله ويستوثق منه صحة المعلومات التي أدلى بها إخوانه، وعلى كل فقد أخبره واستكتمه على الخبر، وأمره بالعفو عن إخوته، وعدم الابتئاس بأعمالهم وأفعالهم ماضيها وحاضرها.
ويستمر تخطيط يوسف لأمره، وضبطه لأعصابه، فيجهز إخوته مكرما لهم، ويودعهم توديع الملك لغرباء اطمأن إلى عدم خيانتهم فوفى لهم بما عاهدهم عليه.
وما إن تنفصل العير حتى يصيح المنادي {إِنَّكُمْ لَسَارِقُون} [سورة يوسف:70]، وبعد معرفة هؤلاء بالمسروق، وتقديم الملك وحاشيته الجعل عليه، تثور حفيظة إخوة يوسف فيؤكدون بما ظهر عليهم من صدق في إخبارهم عن أبيهم وأخيهم، وما بدا منهم من أخلاق من خلال المعاشرة أنهم ليسوا بمفسدين، ويستدلون بعلم المخاطبين لذلك على دعوهم {وَمَا كُنَّا سَارِقِين} [سورة يوسف:73]، فتأتي الفرصة لاستبقاء أخي يوسف، ويوجه الله الأحداث حتى ينطق إخوة يوسف بجزاء السارق من أخذ له إن ثبتت عليه السرقة، {مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} [سورة يوسف:75]، وإبعادا للتهمة يبدأ يوسف أو وكيله بالأوعية الأخرى حتى يصل إلى وعاء أخيه أخيرا فيستخرج منه الصواع.
يتبع