القلة والكثرة ودلالاتهما على الحق والباطل

أشرف شعبان أبو أحمد



في القرآن الكريم عدَّةُ آياتٍ تناولت الكثرةَ والقلة من الناس، سواء كان في سياق الحديث عن الأمم السابقة، أو عن الكفار والمشركين، أو أهل الكتاب، وقد بيَّنت هذه الآياتُ أنَّ من آمنوا بما جاء به الرُّسُلُ في كل عصر وأوانٍ كانوا قلةً، والقلة دائمًا هم السائرون على الحق، والمجاهدون في سبيله بأموالهم وأنفسهم، المتمسِّكون بشرائع دينهم، المتَّصفون بكل الصفات الحميدة التي دَعَت إليها الرسالات السماوية، وعلى العكس من ذلك تكون الكثرة، والكثرة والقلة لا يدُلَّان إلا على معنًى عدديٍّ ليس إلا، ويُقصَد بالكثرة الأغلبيةُ وليس الجميع.

قال تعالى عن سيدنا نوح: ﴿ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [هود: 40]، وعن سيدنا موسى: ﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ﴾ [يونس: 83]؛ جاء في التفسير الوسيط: "ذكر الله هذه الآية تسليةً لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان كثيرَ الاهتمام بإيمان قومه، وكان يغتمُّ بسبب إعراضهم عن الإيمان به، واستمرارهم على الكفر والتكذيب، فبيَّن الله له أن له أسوةً بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام"، وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ﴾ [ص: 24]؛ قال الطبري في تفسيره: "قليلٌ الذي لا يبغي بعضهم على بعض"، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 13]؛ جاء في التفسير الميسر: "ولا تزال - أيها الرسول - تجد من اليهود خيانةً لله ولعباده المؤمنين، وغدرًا؛ فهم على منهاج أسلافهم، إلا قليلًا منهم"، والقلة هي الناجية من إغواء الشيطان؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 83] وقال: ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 62]؛ لئن أبقيتَني حيًّا إلى يوم القيامة، لأستولِيَنَّ على ذريته بالإغواء والإفساد، إلا المخلصين منهم في الإيمان، وهم قليل، وقال تعالى في سياق قصة من قصص بني إسرائيل مع أنبيائهم: ﴿ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ [البقرة: 246]؛ فلما كُتِبَ عليهم القتالُ، أعرضوا عن الجهاد، وضيَّعوا أمر الله، إلا قليلًا منهم، وقال تعالى: ﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]، فأكثرهم لم يشكروا الله تعالى على ما أَوْلَاهُم من نِعَمِهِ، ودفع عنهم من النِّقمِ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طوبى للغرباء، فقيل: مَنِ الغرباء يا رسول الله؟ قال: أناس صالحون في أناسٍ سوءٍ كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم))؛ [رواه أحمدُ، وصححه الألباني].

والأقلية هي التي تبدأ بصنع الأحداث التاريخية، وهي التي لها الفضل في اختراع واكتشاف كل جديد، والنوابغ دائمًا قلائلُ، كما نجد القليلَ هم من يقودون ويدبِّرون أمرَ الكثرة في أي بلد ووطن، وقليل ما هم النُّخب ورجال الصفوة، وكثير ما هم العامة من الناس، والقليل من هم أصحاب الحرف والمهن المختلفة، والكثير هم المستفيدون منهم، وأصحاب البطولات الفذَّة في كل مجال أفراد معدودة، وقليل ما هم المصلحون والمجدِّدون، وأصحاب الرسالات، والكثرة الكثيرة هي التي يجب عليها أن تسمع وتعقِلَ وتعِيَ، ثم تسير في رَكْبِهم، وهلمَّ جرًّا.

والفئة القليلة التي على الحق تغلب بإذن الله الكثرةَ الضالَّةَ؛ قال تعالى: ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 249]، وقال تعالى: ﴿ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنفال: 65]، والقلة المستضعفة لا يُضيرها ضعفُها، ولا قِلَّتُها إذا آمنت وأيقنت، بل قد تكون هذه القلة المؤمنة مفتاحًا لنصر الله المبين، المفضي إلى الغلبة والسيادة؛ قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [الأنفال: 26].

ولا يستهزئ ويستهين بالقلة المؤمنة إلا طاغيةٌ متكبر عالٍ في الأرض؛ قال تعالى على لسان فرعون: ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ﴾ [الشعراء: 54]، في وصفه لمن تبِعَ موسى، في محاولة للانتقاص من شأنهم، وبيان أن الأغلبية الساحقة معه وتؤيده، وهذا منطق مَن يغترُّ بالكثرة، ويحتقر القلة في كل زمان ومكان؛ قال أبو عليٍّ الفضيل بن عياض: "الزم طُرُقَ الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرقَ الضلالة، ولا تغترَّ بكثرة الهالكين".

أما عن الكثرة، فالنفوس توَّاقةٌ إليها، وميَّالة للعِزوةِ، بل قد يظن البعض أن الكثرة دليل الرضا من الله على العبد، أو دليل الفلاح والصلاح أو النصر؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ [سبأ: 35]؛ أي: قالوا نحن أكثر منكم أموالًا وأولادًا، والله لم يُعْطِنا هذه النعم إلا لرضاه عنا، وما نحن بمعذَّبين في الدنيا ولا في الآخرة، وفي آية أخرى قال عز وجل: ﴿ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ﴾ [الكهف: 34]؛ أي: قال لصاحبه المؤمن وهو يحاوره، والغرور يملؤه: أنا أكثر منك مالًا، وأعز أنصارًا وأعوانًا، فهذه هي طبيعة وطريقة تفكير أهل الكفر؛ فجاء الرد في القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [غافر: 82]، وقال تعالى: ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 55، 56]، وقال عز وجل: ﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 55]، وقال تعالى: ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 196، 197]، ولم يَسْلَمِ المسلمون من الأمر ذاته، فقد أنزل الله نصره عليهم في مواقعَ كثيرة، عندما أخذوا بالأسباب، وتوكلوا على الله، ويوم حُنينٍ عندما غرَّتهم كثرتُهم، وقالوا: لن نُغلَب اليومَ، لم تنفعهم كثرتهم، وظهر عليهم العدوُّ، فلم يجدوا ملجأً في الأرض الواسعة، وفرُّوا منهزمين؛ قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ [التوبة: 25].

والكثرة ليست مقياسًا للحق والباطل، ولا للخبيث والطيب، ولا للجيد والرديء، وكثرة الشيء وانتشاره لا تعني صوابه، فالكثرة لا تحوِّل الحرام حلالًا، ولا تحوِّل المعصية طاعة، ولا تحوِّل المنكر معروفًا، وكثرة عدد أهل ملة عن سائر أهل الملل الأخرى لا يعني أن أهلها على حقٍّ، وليست الكثرة هي سبب الغلبة في ميادين القتال، فكم ممن غرَّتهم قوتُهم وعددهم هُزموا أمام من هم أقلُّ منهم عُدةً وعتادًا! وليست الكثرة هي الوسيلة لإعطاء الإنسان مكانةً ومنزلة معنوية أو اجتماعية، فكثير من المحيطين أصحابُ مصلحةٍ، وأهلُ نفاقٍ واتباع لكل ناعق، وليست العِبرةُ باجتماع زُمرةٍ من الناس على أمر معين، ولكن العبرة بماهية هذا الذي اجتمعوا عليه، فليست بالكم والكثرة تُقاس حقيقة الأمور، بل بالكيف والجودة؛ ولذا كانت الكثرة الغثائية مذمومة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُوشِكُ الأُمَمُ أن تَدَاعَى عليكم، كما تداعى الأَكَلَةُ إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غُثاء كغُثاء السيل))، فشبَّه الكثرة بغُثاء السيل الذي يحوي زبدًا ووسخًا؛ قال الإمام علي رضي الله عنه: "لا يُعرَف الحق بالرجال، اعرِفِ الحقَّ تَعْرِفْ أهله"؛ فمعيار الحق ليس هو ما يقوله الناس، ولكن ما ثبت بالدليل القطعي من مصادره.

وقد حذَّرنا القرآن الكريم من اتباع الكثرة الضالة؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾ [الأنعام: 116]، وفي الآية تحذير من اتباع الكثرة الكثيرة الضالة، أو بمعنى آخر: التحذير من اتباع الضالين، ولو كثُر عددهم وعُدَّتُهم، وقال تعالى: ﴿ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ﴾ [المائدة: 100]، وفي عصرنا هذا حيث انفتحت دول العالم بعضها على بعض أكثر مما سبق، بواسطة وسائل الاتصال الحديثة والسريعة، مما يسَّر وسهَّل انتقال بعض السلوكيات في المأكل والملبس والهيئة، بل في الفكر ذاته بين هذه الدول، فتجد شخصًا في الجنوب يقلِّد آخرَ في الشمال، وشخصًا في الشرق يتبع آخر في الغرب، فتشابهت تصرفاتهم، بغض النظر عما يخص كل بلد من أعراف وتقاليد.

وفي حديث القرآن عن الأكثرية وصفَهم بأنهم لا يؤمنون؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [يوسف: 103]، وقال عز وجل: ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الرعد: 1]، كما وصفهم بأنهم كافرون، فالأصل في الإنسان أن يُولَدَ مفطورًا على الإيمان بالله سبحانه، بَيدَ أن جملةً من المؤثرات الخارجية تأخذ بيده ذات اليمين وذات الشمال، فإما تُثبِّته على طريق الحق والخير، وإما تدفع به إلى طريق الغَوَايَةِ والضلال، والخطاب القرآني يفيد أن الأكثرية تختار الطريق الثاني؛ قال تعالى: ﴿ وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [النحل: 83]، وقال: ﴿ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾ [الإسراء: 89]، ﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴾ [الروم: 8]، وقال تعالى: ﴿ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [المائدة: 80]، وفي الحديث عن الأكثرية أيضًا؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾ [يوسف: 106]، وقال عز وجل: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ﴾ [الروم: 42]، فالآيات صريحة في أن أكثر الذين خَلَوا من قبل كانوا مشركين بخالقهم ورازقهم ومُدبِّر أمرهم، وآيات أخرى تقرِّر بأن أكثر الناس فاسقون؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 49]، وقال عز وجل: ﴿ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 81]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 26]، وليس لأكثر الناس من عهد يُوفُون به، ويقفون عند حدوده وشروطه؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴾ [الأعراف: 102]، وصَفَ الأكثرية بأنهم فاسقون، خارجون عن طاعته، تاركون لأوامره، منتهكون لحرماته؛ وقال تعالى: ﴿ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾ [المائدة: 32]، وكثيرٌ من الناس يُضِلُّون بأهوائهم بغير علم؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام: 119]، وآيات أخرى تصف الأكثرية بأنهم لا يعلمون؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 187]، وقال: ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يونس: 55]، وهذا العلم المنفيُّ عنهم هو العلم المتعلِّق بالرسالة والإيمان، والسُّنن الإلهية، والشرائع السماوية، وليس العلمَ الدنيويَّ؛ ﴿ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 66]، كما وصف الأكثرية بأنهم لا يعقلون؛ قال تعالى: ﴿ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [المائدة: 103]، وهذه الآيات تخبر أن أكثر الناس لا يُعمِلون عقولهم فيما أنعم الله عليهم من خيرات ونِعَمٍ، ولا يتأملون فيما بثَّهُ حولهم من آيات وعِبَرٍ، كما وصف الأكثرية بأنهم لا يسمعون؛ قال تعالى: ﴿ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴾ [فصلت: 4] المراد هنا: الكافرون الذين لا ينتفعون بهدايات القرآن الكريم، فأعرض أكثرهم عن هداياته، فهم لا يسمعون سماع تدبُّرٍ واتعاظٍ، وإنما يسمعون بقلوب قاسية، وعقول خالية من إدراك معانيه، ومن الاستجابة له، وكثير منهم عَمُوا وصمُّوا؛ قال تعالى: ﴿ وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 71]، وكثير منهم لهم قلوب لا يفقهون بها، وأعين لا يُبصرون بها، وآذان لا يسمعون بها، فهم كالأنعام بل هم أضل؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾ [الأعراف: 179]، وقال تعالى: ﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 44]، كما وصف الأكثرية بأنهم غافلون؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 92]، وكثير من الناس يسارعون في الإثم والعدوان وأكل السحت؛ قال تعالى: ﴿ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 62]، وكثير منهم لا يزيدهم ما يُنزِلُهُ الله على رسوله من آيات بيِّناتٍ إلا طغيانًا وكفرًا؛ قال تعالى: ﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴾ [المائدة: 64]، وأكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون عنه وكارهون له؛ قال تعالى: ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [الأنبياء: 24]، وأكثر الناس لا يتَّبعون فيما يعتقدون أو يقولون أو يعملون إلا ظنًّا؛ وقال تعالى: ﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ﴾ [يونس: 36]، وفيه أيضًا آيات تقرِّر بأن أكثر الناس لا يشكرون الله على نِعَمِهِ التي أنعم بها عليهم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 243]، وقال عز وجل: ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ﴾ [يونس: 60]، هذا عدا آيات أخرى تتحدث عن كثير من الناس لا خيرَ في نجواهم؛ قال تعالى: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114]، كما وصف الأكثرية بالمجادلة والمخاصمة والمعارضة؛ قال تعالى: ﴿ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ﴾ [الكهف: 54]، وكثير من الناس يجبُن عن الجهاد والقتال بعد أن تنادَوا به وتظاهروا بالشجاعة؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ [البقرة: 246]، وكثير من الرُّهبان والأحبار - وهم حَمَلَةُ مشاعلِ دينهم - يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 34]، وعن رغبة أكثر أهل الكتاب تجاهنا؛ قال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا ﴾ [البقرة: 109]، فالكافرون والمجرمون، والطَّاغُون والضالُّون، والمفسدون والجاحدون، والفاسقون كثيرون، ولكنها كثرة الهباء المنثور الذي لا تقوم له قائمةٌ أمام سلطان الحق القيُّوم.

والكثرة ليست معناها أنهم جميعًا على قلب رجل واحد في كل الأمور، بل تتباين الأفكار، وتكثُر الاختلافات، وتتفاوت القدرات فيما بينهم؛ فتتباعد أواصل اجتماعهم على أمر معين، والكثرة في مجال العمل الجماعي قد تُسبِّب ركون واتكال بعض الأفراد على بعض، وتنصُّلَ كلٍّ منهم من أي مسؤولية تُلقى عليه، بل يلقيها على الآخر، بحُجَّة: لماذا أنا وليس إياه؟ وتختلف الكثرة من مجتمع لآخر؛ ففي بعض المجتمعات تكون الكثرة للفقراء والأُمِّيِّين، ومجتمعات أخرى الكثرة فيها مُحيت أُمِّيَّتُها، وصارت ذات دخول مرتفعة، وبين هذا وهذا مجتمعات تتفاوت درجات الفقر والأُمِّيَّة فيها، مجتمعات تعيش الغالبية فيها في ظل رعاية صحية ممتازة، وبنية تحتية متطورة، وتستخدم التقنيات المتقدمة في وسائل معيشتها، ودول أخرى على العكس من ذلك تمامًا، مجتمعات الكثرة فيها للشباب، وأخرى لكبار السن، وتتفاوت نسبة عدد الذكور للإناث من مجتمع لآخر، مجتمعات الأكثرية فيها نشطة ثائرة، وأخرى خاملة حالمة، مجتمعات منتجة، وأخرى مستهلكة.

وأخيرًا فإن الصراع بين القائمين على الحق وإن كانوا قلة قليلة، وبين أهل الباطل وإن كانوا عمومَ أهل الأرض سيظل إلى يوم الدين.