لماذا ندعو إلى اتباع السلف الصالح؟
محمد عيد العباسي
الحمدلله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، أما بعد. فإن الذي يدعوني إلى كتابة هذا البحث هو أن مسألة الإقرار بفضل السلف ووجوب اتباع هديهم ومنهجهم وفهمهم للكتاب والّسُنْة هو الفارق الأكبر والفيصل الأظهر بين أهل السنة وبين أصحاب البدع والأهواء، فلذلك لزم كل داعية سلفي أن يفهم هذا الموضوع فهماً صحيحاً مدعوماً بالأدلة حتى ينجو من الضلال والانحراف، ويتمكن من هداية غيره إلى الصراط القويم. ومن الله أرجو العون والتوفيق.
من هم السلف:
السلف من كل أمة هم القوم المتقدمون السابقون، ويقابلهم الخلف الذين يجيئون بعدهم ويخلفونهم، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بقبور أهل المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: ((السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر))[1]. وقال الله - تعالى -: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].
وقد ورد تحديد السلف بأنهم أهل القرون الثلاثة الأولى عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وذلك في قوله: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يأتي من بعد ذلك ناس يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن))[2].
- والقرن في لغة العرب تطلق على أهل كل زمان، وقيل: أربعون سنة، وقيل ثمانون، وقيل مئة، وقيل هو مطلق من الزمان، كذا قال ابن الأثير في "النهاية". والراجح أن المراد به هنا مئة سنة، فقد استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر بهذا المعنى، وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن بسر المازني - رضي الله عنه -: ((لتبلغن قرناً)) فعاش مئة سنة[3]، ومات سنة ثمان وثمانين وهو ابن مئة سنة، كما قال العسقلاني في الإصابة، وهو آخر من مات بالشام من الصحابة.
وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قال: ((أرأيتم ليلتكم هذه، على رأس مئة سنة منها لا يبقى على ظهر الأرض ممن هو على ظهر الأرض أحد)). قال ابن عمر: فوهل الناس في مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مئة سنة، وإنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يبقى اليوم ممن هو على ظهر الأرض)) يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن[4].
وبناء على ما سبق، فيمكننا أن نحدد المقصود بأهل القرون الثلاثة الفاضلة، أنهم الذين عاشوا بين عامي البعثة النبوية، وتمام عام ثلاث مئة للهجرة، وتشمل هذه المدة نحو خمسة أجيال من المسلمين، وهي مجموع الطبقات الاثنتي عشرة التي وضعها الحافظ ابن حجر في كتابه "التقريب" لمن ترجم لهم من أصحاب الكتب الستة، وتضم طبقات الصحابة، والتابعين، وأتابع التابعين، وتبع الأتباع، وتبع تبع الأتباع، وهؤلاء هم الذين يشملهم اسم السلف. وإنما أثنى عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصفها بأنها خير القرون لأن غالب أهل تلك المدة كان يغلب عليهم صلاح المعتقد والسلوك، فكانوا على منهج النبوة والرشاد بخلاف من جاء بعدهم، الذين غلب عليهم الابتداع وسوء المعتقد والعمل، وكان الطالحون الفاسدون فيهم أكثر من الصالحين.
نعم كان في عهد السلف سيئون وأشرار ومبتدعون، ولكنهم كانوا قليلين، والغالب على الناس الصلاح والاستقامة بخلاف قرون الخلف التالية، وعلى كل حال فنحن إنما ندعوا إلى اتباع السلف الصالح وليس أي واحد من السلف، وهؤلاء هم الذين عناهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بحديثه عن الجماعة كما ورد في كثير من الأحاديث كقوله - صلى الله عليه وسلم -:
((عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة)) [5] وقوله: ((يد الله مع الجماعة)) [6].
سبب تفضيل السلف ومنهجهم:
وبعد تقرير ما سبق أعود إلى صلب الموضوع وهو بيان الأسباب التي تدعونا إلى اتباع السلف والدعوة إلى ذلك وأقول: - إن الذي يدعونا إلى ذلك بكل إصرار وحزم ويقين أمور كثيرة أهمها:
أولاً:- أن هذه القرون قد حظيت بثناء الله - تبارك وتعالى - وتزكية رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتجد ذلك في كثير من الآيات والأحاديث، ولو ذهبت إلى استقصائها لطال المقام جداً، فأكتفي بذكر ثلاثة مواضع من كل من المرجعين.
فأما القرآن الكريم، فقد قال الله - تعالى - فيه: أ- {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]. ب- وقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ... } [الفتح: 29].
ج- وقال سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيمٌ} الحشر 8 – 10.
وأما الأحاديث النبوية فأكتفي بثلاثة منها:
أ- الحديث الذي سبق قريباً، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم))[7].
ب- عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)) [8].
ج- وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه إلى السماء، وكان كثيراً ما يرفع رأسه فقال: ((النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)) [9].
- وهذه التزكية ثمينة جداً لمن يقدر الأمور حق قدرها، فحسبها أن تكون من الخالق العظيم والمدبر الحكيم العليم الخبير – سبحانه - ومن رسوله الخاتم وخير أنبيائه عليهم جميعاً أفضل الصلاة والتسليم، فلا جرم أن اتفق أهل السنة والجماعة على أن السلف خير أجيال البشرية جميعها على الإطلاق حاشا الأنبياء - عليهم السلام.
- ولم يكن هذا محاباة من الله - تعالى - ورسوله للسلف، كلا ثم كلا بل كان ذلك لما علم الله عنهم من الأهلية والاستحقاق، فكما أن الله - تعالى - قد اختار أنبياءه من صفوة بني آدم كما قال: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124]، فكذلك حين اختار أصحاب أنبيائه فقد اختارهم من خير الناس، وخاصة أصحاب آخرهم وخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - فهم خير الأصحاب والأتباع كما قال فقيه الصحابة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - ونحوه قول الصحابي الجليل عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -[10]: "من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوماً اختارهم الله - تعالى - لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم" جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 947) ط : دار ابن الجوزي وروي نحوه عن الحسن البصري ( ح ) في ( 2 / 946 ).
- ثم إن الواقع التاريخي ليشهد يصدق هذا الثناء وهذه التزكية، فلم يعرف التاريخ مثل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتابعيهم ومن اتبعهم بإحسان في إيمانهم وتقواهم، وحسن خلقهم، وصدق تعاملهم، وإحسانهم للخلق، ورحمتهم بهم، ومعرفتهم بالحق، ووقوفهم عند حدود الله، وعدلهم وإنصافهم، وعفتهم ونزاهتهم، ويكفي أن أعداءهم شهدوا لهم بذلك، وقد قيل: والفضل ما شهدت به الأعداء.
ثانياً:- أن الله - تعالى - أمرنا باتباعهم والاهتداء بهديهم، وتوعد من يخالف سبيلهم بالعذاب الأليم:
فليس اتباعهم والدعوة إلى الاقتداء بهم نزعة خاصة أو رأياً اجتهادياً قاله بعض الناس تعصباً لهم، بل هو أمر إلهي صريح، ونص نبوي صحيح، نطق به الكتاب العزيز، وثبت في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الشريف، فقد قال – سبحانه -: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. وهل كان المؤمنون عند نزول هذه الآية الكريمة إلا إياهم؟
- وقال جل شأنه: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُ مُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 136، 137]، وهل كان هذا الخطاب يوم نزول هذه الآية إلا لهم؟
- وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موعظته البليغة التي وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون وقال عنها من رواها كأنها موعظة مودع لأصحابه: ((فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))[11].
- وقال الرؤوف الرحيم - صلى الله عليه وسلم - بأمته موصياً إياها: ((اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن مسعود)) [12].
- ويتضح بصورة قاطعة لا مرية فيها أن الله - تعالى - يأمرنا في هذه النصوص الصحيحة الصريحة باتباع سبيل السلف ومنهجهم وهديهم وفهمهم للدين وتطبيقهم له، بل ويهدد من يخرج عن سبيلهم بأشد عذاب، وأشقى مصير.
- فتأمل معي الآية الأولى، وانظر كيف قرن الخروج عن سبيل المؤمنين بمشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والخروج عليه، ولم يكتف بتهديد من يشاقق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل أضاف إليه تهديد من خرج عن سبيل المؤمنين، وسل نفسك - أخي القارئ -: من كان المؤمنون عند نزول الآية غير أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فهم المعنيون بذلك أولاً، ثم من سار على دربهم واقتدى بهم من بعدهم ثانياً.
- وهذا نفسه تجده في الآية الثانية إذ أمر الله - تعالى - المؤمنين أن يؤمنوا بالله وبما أنزل على أنبيائه جميعاً إيماناً مجملاً، وبما أنزل على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - إيماناً كاملا ثم حكم على الناس بالهداية والرشاد إذا آمنوا إيماناً مماثلاً ومطابقاً لإيمان الصحابة - رضي الله عنهم - وحكم على من يخرج عن إيمانهم، فيؤمن إيماناً مخالفاً لإيمانهم، ويعتقد ما لم يعتقدوه، أو خلاف ما اعتقدوه، حكم عليه بالضلال والخسران، وبأنه سيكون أمره إلى شقاق وخيبة وخسار. فهو هنا حينما قال: {بمثل ما آمنتم به} إنما يخاطب الصحابة دون غيرهم، الذين كانوا وحدهم المؤمنين في الأرض حينما نزلت هذه الآية الكريمة.
- ثم انتقل معي - أخي القارئ - إلى الحديثين الشريفين السابقين فماذا ترى؟ لقد وعظ النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في الحديث الأول تلك الموعظة البليغة التي وصفها من حضرها بأنها وصية مودع، ومحضهم بتلك الوصية الثمينة - وكل أحد منا حين يوصي خاصته وأحباءه وصية الوداع فإنما يقدم لهم خلاصة ما تعلمه في الحياة وأثمن ما لديه من معرفة وخبرة وتجربة - فماذا كانت تلك الوصية؟
لقد أخبرهم أن الأمة بعده ستختلف اختلافاً كثيراً، وستتمزق شيعاً وأحزاباً، وستضل ضلالاً بعيداً، فدلهم على طريق النجاة، وهداهم إلى سبيل الخلاص، فما كان ذاك الطريق؟ إنه كان في أمرين لا ثالث لهما: أولهما التمسك بسنته - صلى الله عليه وسلم - ولا شك أن السنة هنا هي الشريعة والمنهج، فهي تتضمن مجموع الكتاب والسنة، وثانيهما التمسك بسنة صفوة أصحابه وخلص أتباعه وهم خلفاؤه الراشدون المهديون - رضي الله عنهم.
- وهنا يرد سؤال مهم: ترى لماذا لم يكتف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمرهم باتباع سنته وطريقته وحدها؟ أليست كافية لهدايتهم حتى ألحقها بأمره إياهم باتباع سنة خلفائه الراشدين؟
- إن الجواب على هذا السؤال جدير بالتوقف عنده، وتأمله والتفكير فيه لكل من أراد السلامة والنجاة لنفسه وأحبته في الدنيا والآخرة.
- لقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يبدو - مما أوحي إليه أن هذه الشيع والأحزاب الضالة التي ستتفرق إليها أمته، كل منها سيدعي اتباع الكتاب والسنة، ولن تستطيع واحدة منها أن تتجرأ على التصريح بالخروج على الكتاب والسنة، لأنها إن فعلت ذلك سقطت ورفضت من الجميع، فاتخذت هذه الفرق حيلاً خبيثة ماكرة، وذلك بادعاء الإيمان بالكتاب والسنة واتباعهما لتغرر بذلك جماهير المسلمين، ثم تفرغهما من مضمونهما وتلتف على مقاصدهما، وتتخلص من دلالاتهما عن طريق أنواع من التأويل الغريب، ولي لعنق النصوص عجيب، فيه كثير من التكلف والتمحل، ولن يعدموا من وساوس الشياطين ما يمدهم بأنواع من التفسيرات المتعسفة، هذا فضلاً عن محاولة رد ما يمكن رده من الأحاديث المناقضة لأهوائهم بشتى الطرق كادعاء ضعفها أو نسخها أو غير ذلك.
فكان من تدبير الله عز وجل المحكم لإبطال مكرهم هذا أن أوحى إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأمرهم إضافة إلى اتباع سنته المتمثلة في كتاب الله وسنة رسوله باتباع سنة أفضل أصحابه وأوثقهم، وهم خلفاؤه الراشدون والصفوة من أصحابه الآخرين مثل ابن مسعود وعمار وأُبَي ونحوهم، لذلك رباهم على عينه، ووثق بفهمهم وسداد منهجهم، وعلم عن طريق الوحي الإلهي إخلاصهم الدين لله والاستقامة على أمره، وبذلك أبطل خطتهم الخبيثة، وقطع عليهم سبيلهم المنحرف وأقام عليهم الحجة، فقد حفظ الله - تعالى - الصحابة جميعاً عن هذه المسالك الجائرة، وعلم - سبحانه - أن أحداً منهم لن يكون في واحدة منها، ولن يغتر بحيلهم ودعاواهم، وقد اتضح لكل المسلمين أن كل الفرق الضالة مخالفة لمنهج الصحابة الكرام، وهذا وحده كاف لبيان زيفها وضلالها لمن كان مخلصاً في معرفة الحق، وجاداً للوصول إليه.
ثالثاً:- لأن الأدلة من النقل والعقل والواقع التاريخي، والسنة الكونية للأمور تثبت أن منهج السلف الصالح هو المنهج الصحيح، وأن فهمهم للكتاب والسنة هو الفهم السديد:
وأن إدراكهم لروح الإسلام ومقاصده وتوجيهاته هو الإدراك الرشيد، وليست هذه دعوى مبنية على العاطفة والحماسة، بل هي حقيقة ناطقة تقررها براهين ساطعات، وبينات راسخات رسوخ الجبال الشاهقات الراسيات، فمن ذلك:
1- أن سادة السلف وهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا عرباً أقحاحاً، رضعوا لغة العرب التي هي لغة القرآن، ولغة نبي الإسلام، رضعوها مع حليب أمهاتهم، وأتقنوا أساليبها ومراميها، وفقهوا بلاغتها ولهجاتها، ولم يحتاجوا لتعلمها عن طريق الكتب والمعلمين بعد الكبر، فلا يستطيع أحد أن ينكر ويكابر في أنهم يمتازون عن أجيال الخلف في هذه الناحية، ويتفوقون عليهم تفوقاً ظاهراً.
2- أنهم تلقوا القرآن غضاً طرياً، وهو ينزل على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - وعاينوا الأحداث التي مرت بهم وكانت سبباً لنزول كثير من آياته وسوره، فأدركوا مناسبات الآيات، وسياقها ووجهتها، وتفاعلوا معها، وفهموها حق فهمها، وهذا أيضاً جانب آخر مما امتازوا به على من جاء بعدهم.
3- أنهم سمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة دون واسطة فغالب ما نقلوه عنه أخذوه من فيه، وسمعوه فعاينوا لهجته وإشارته، وأدركوا منحاه ووجهته، وعرفوا مناسبة وروده ومقصده، بينما يحتاج من جاء بعدهم إلى دراسة واسعة وعميقة لعدة علوم. مثل علم مصطلح الحديث وعلم الجرح والتعديل، وعلم غريب الحديث، وعلم مشكل الحديث، وعلم الرجال والتراجم .. هذا فقط لمعرفة الحديث الثابت الذي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - مما لم يثبت، ثم تأتي المرحلة الثانية وهي فهم متنه ومعناه وما يستنبط منه وما يستفاد، وهي رحلة شاقة لا يطيقها إلا الأفذاذ من الرجال، فلا أحد يستطيع أن ينكر تفوق السلف وخاصة الصحابة في ذلك على كل من عداهم تفوقاً بارزاً جلياً.
يتبع